الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلامة المحقق الولي الصالح سيدي علي النوري الصفاقسي- رضي الله عنه ونفعنا به وبعلومه آمين: الحمد لله الذي أنزل القرآن وشرفنا بحفظه وتلاوته وتعبدنا بتجويده وتحريره وجعل ذلك من أعظم عبادته، فطوبى لمن أعرض عن كل شاغل يشغله عن تدبره ودراسته مع رعاية آدابه الظاهرة، والباطنة، والقيام بحرمته وجلالته فهو المنهج القويم والصراط المستقيم وشفاء الصدور والهدى والنور والمعتصم الأوقى والعروة الوثقى بحر المعاني والمعارف والعلوم ومعدن الأسرار والحكم والفهوم، كتاب كريم عزيز مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الموحدين المستغفرين الحاضرين مع الله في كل حال، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب المعجزة الدائمة والمفاخر التامة والشرف والكمال- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- الذين ملأ الله قلوبهم بمعرفته ومحبته فنهضوا لخدمته بالإرشاد والإفادة صلاة وسلاما تبلغنا بهما درجات المحسنين وننتظم معهم في سلك لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ.
وبعد فاعلم جعلني الله وإياك من العصابة الناجية ومنحني وإياك في جميع الأحوال اللطف والعافية أن صرف العناية إلى خدمة كتاب الله من أعظم القرب والسعي الناجح وأحسن ما يدخره المرء ليوم يتبين فيه الخاسر والرابح، وقد روينا في فضائل القرآن وفضل أهله أحاديث كثيرة ولو لم يكن في ذلك إلا ما جاء في الصحيح عن عثمان- رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» لكان كافيا، وكان سفيان الثوري يقدم تعلم القرآن على الغزو لهذا الحديث
ولقوله- صلى الله عليه وسلم: «أفضل العبادة قراءة القرآن» وقيل لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه إنك تقلّ الصوم فقال: «إني إذا صمت ضعفت عن تلاوة القرآن وتلاوة القرآن أحب إليّ» فحملة القرآن القائمون بحقوقه نطقا وعلما وعملا أهل الله وخاصته وأشرف هذه الأمة وخيارهم مهدوا لأنفسهم وتزوّدوا من دار الفناء قبل ارتحالهم واضمحلالهم، فأكرم بعلم يتصل سنده برب العالمين بواسطة روح القدس وسيدنا محمد صفوة الخلق أجمعين، فيا لها من نعمة ما أعظمها ومنقبة شريفة ما أجلها وأجملها وقد ابتلي كثير من الناس بالتصدر للإقراء قبل إتقان العلوم المحتاج إليها فيه دراية ورواية وتمييز الصحيح من السقيم والمتواتر من الشاذ وما لا تحل القراءة به بل وما تحل، بعضهم يعتقد أن جميع ما يجده في كتب القراءات صحيح يقرأ به وليس كذلك بل فيها ما لا تحل القراءة به وصدر منهم رحمهم الله على وجه السهو أو الغلط والقصور وعدم الضبط ويعرف فساد ذلك الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون تحقيقا لوعده الصادق إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وقد وقع بعض ذلك في الكتب التي انكب أهل العصر عليها كشراح الشاطبية «وإنشاد الشريد» للعلامة أبي عبد الله محمد بن غازي «والمكرر» «والبدور الزاهرة» كلاهما للشيخ أبي حفص عمر بن قاسم الأنصاري شيخ العلامة القسطلاني وقد أخذ الله العهد على العلماء أن لا يكتموا ما علمهم ويبينوه غاية جهدهم فقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» وعن علي- رضي الله عنه: ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا، فاستخرت الله تعالى في تأليف كتاب أبين فيه القراءات السبع التي ذكرها الأستاذ أبو محمد القاسم الشاطبي غاية البيان وإن كان المتواتر والصحيح أكثر من ذلك لأن الغالب على أهل هذا الزمان اقتصارهم على
ذلك ماشيا في جميع ذلك على طريقة المحققين كالشيخ العلامة أبي الخير محمد ابن محمد بن محمد بن الجزري الحافظ رحمه الله من تحرير الطرق وعدم القراءة بما شذ وبما لا يوجد كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي فإن ذلك غير مخلص عند الله عز وجل وكان شيخنا رحمه الله يحذرني من ذلك كثيرا ويقول ما معناه: إياك أن تميل إلى الراحة والبطالة وتقرأ كتاب الله بما يقتضيه الضرب الحسابي كما يفعله أهل الكسل وأظنه أنه أخذ عليّ عهدا بذلك حرصا منه رحمه الله على إتقان كتاب الله وهذا هو الحق الذي لا ينبغي للمؤمن أن يحيد عنه وسميته «غيث النفع في القراءات السبع» والله أسأل أن يبلغ به المنافع، ويجعل الناظر فيه ممن
يسابق إلى الخيرات ويسارع، وأن يرينا بركته وقت حولنا في رمسنا وانتقالنا إليه وسوقنا إلى المحشر ووقوفنا بين يديه. ولنذكر قبل الشروع في المقصود فوائد تشتد الحاجة إلى معرفتها:
الأولى: تواتر عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» قاله لعمر لما جاءه بهشام بن حكيم وقد لببه بردائه أي جعله في عنقه وجره منه لما سمعه يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها له رسول الله- صلى الله عليه وسلم وكان أوّلا أتاه جبريل فقال له: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد فقال أسأل الله معافاته ومعونته وإن أمتى لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية على حرفين فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة بثلاثة فقال له مثل ذلك ثم أتاه الرابعة فقال له إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» واختلفوا في المراد بهذه الأحرف السبعة على نحو من أربعين قولا واضطربوا في ذلك اضطرابا كثيرا حتى أفرده العلامة أبو شامة بالتأليف مع إجماعهم إلا خلافا لا يعتد به على أنه ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه إذ لا يوجد ذلك إلا في
كلمات يسيرة نحو أرجه وهيت وجبريل وأفّ وعلى أنه ليس المراد هؤلاء القراء السبعة المشهورين، فذهب معظمهم وصححه البيهقي واختاره الأبهري، وغيره واقتصر عليه في القاموس إلى أنها لغات.
واختلفوا في تعيينها، فقال أبو عبيد قريش وهذيل، وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وقال غيره خمس لغات في أكناف هوازن سعد وثقيف وكنانة وهذيل وقريش ولغتان على جميع ألسنة العرب وقيل المراد معاني الأحكام كالحلال والحرام والمحكم والمتشابه والأمثال والإنشاء والإخبار، وقيل الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمجمل والمبين والمفسر، وقيل غير ذلك.
وقال المحقق ابن الجزري: ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله عليّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أنني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة ويحسب بوجهين، أو بتغير في المعنى فقط نحو: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وإما في الحروف بتغير في المعنى لا في الصورة نحو تبلو وتتلو أو عكس ذلك نحو بصطة وبسطة، أو بتغييرهما نحو أَشَدَّ مِنْكُمْ ومنهم وإما في التقديم والتأخير نحو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أو في الزيادة والنقصان نحو وأوصى ووصى فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، ثم رأيت أبا الفضل الرازي حاول ما ذكرته وكذا ابن قتيبة حاول ما حاولنا بنحو آخر انتهى.
وأبين الأقوال أولاها بالصواب الأول ويشهد له المعنى والنظر أما المعنى فقد قال الداني: الأحرف الأوجه أي أن القرآن على سبعة أوجه من اللغات لأن الأحرف جمع في القليل كفلس وأفلس والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية فالمراد بالحرف الوجه أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية فإذا استقامت
له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت وامتحنه الله بالشدة والضر ترك العبادة وكفر فهذا عبد الله على وجه واحد فلهذا سمى النبي- صلى الله عليه وسلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفا على معنى أن كل شيء منها وجه انتهى، وأما النظر فإن حكمة إتيانه على سبعة أحرف التخفيف والتيسير على هذه الأمة في التكلم بكتابهم كما خفف عليهم في شريعتهم، وهو كالمصرح به في الأحاديث الصحيحة كقوله أسأل الله معافاته ومعونته وكقوله:«إن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف واحد فرددت إليه أن هوّن على أمتى ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف» لأنه- صلى الله عليه وسلم أرسل للخلق كافة وألسنتهم مختلفة غاية التخالف كما هو مشاهد فينا ومن كان قبلنا مثلنا وكلهم مخاطب بقراءة القرآن قال الله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فلو كلفوا كلهم النطق بلغة واحدة لشق ذلك عليهم وتعسر إذ لا قدرة لهم على ترك ما اعتادوه وألفوه من الكلام إلا بتعب شديد وجهد جهيد، وربما لا يستطيعه بعضهم ولو مع الرياضة الطويلة وتذليل اللسان كالشيخ والمرأة فاقتضى يسر الدين أن يكون على لغات، وفيه حكمة أخرى، وهي أنه- صلى الله عليه وسلم تحدى بالقرآن جميع الخلق قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية، فلو أتى بلغة دون لغة لقال الذين لم يأت بلغتهم لو أتى بلغتنا لأتينا بمثله وتطرق الكذب إلى قوله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فإن قلت يعكر على هذا أن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان وهما قرشيان لغتهما واحدة أن تكون لغتهما واحدة فقد يكون قرشيا مثلا ويتربى في غير قومه فيتعلم لغتهم بها وهو كثير فيهم وفي الحديث:«أنا أعربكم أنا من قريش ولساني لسان سعد بن بكر» وفيه أيضا: «أنا أعرب العرب ولدت من قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن» وقال تعالى: وَهذا
لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فعم العرب ولم يخص قبيلة، وهذه الأحرف السبعة داخلة في القراءات العشرة التي بلغتنا بالتواتر وغيرها مما اندرس وكان متواترا راجع إليها لأن القرآن محفوظ من الضياع ولو تطاولت عليه السنون إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ والله أعلم.
الثانية: مذهب الأصوليين، وفقهاء المذاهب الأربعة والمحدثين القراء أن التواتر شرط في صحة القراءة ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر ولو وافقت رسم المصاحف العثمانية والعربية وقال الشيخ أبو محمد مكي: القراءة الصحيحة ما صح سندها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم، وساغ وجهها في العربية ووافقت خط المصحف وتبعه
على ذلك بعض المتأخرين ومشى عليه ابن الجزري في نشره وطيبته قال فيها:
فكلّ ما وافق وجه نحو
…
وكان للرسم احتمالا يحوي
وصحّ إسنادا هو القرآن
…
فهذه الثّلاثة الأركان
وحيثما يختلّ ركن أثبت
…
شذوذه لو أنّه في السّبعة
وهذا قول محدث لا يعول عليه ويؤدي إلى تسوية غير القرآن بالقرآن، ولا يقدح في ثبوت التواتر اختلاف القراءة فقد تتواتر القراءة عند قوم دون قوم فكل من القراء إنما لم يقرأ بقراءة غيره لأنها لم تبلغه على وجه التواتر ولذا لم يعب أحد منهم على غيره قراءته لثبوت شرط صحتها عنده وإن كان هو لم يقرأ بها لفقد الشرط عنده فالشاذ ما ليس بمتواتر، وكل ما زاد الآن على القراءات العشرة فهو غير متواتر، قال ابن الجزري: وقول من قال إن القراءات المتواترة لا حد لها إن أراد في زماننا فغير صحيح لأنه لم يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشرة وإن أراد في الصدر الأول فمحتمل، وقال ابن السبكي: ولا تجوز القراءة بالشاذ والصحيح أنها ما وراء العشرة وقال في منع الموانع: والقول بأن القراءات الثلاثة غير متواترة في غاية السقوط ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين.