الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جماعة، فلعلّ الحاكم ظنّ أن الواقديّ انتهى بنسبه لزريق إلى عبد، ثم ابتدأ قال: حارثةُ مرفوعًا، وأن حارثة هو المراد بالصحبة، وإنما هو عبد حارثة مضافًا، وهو اسم لشخص واحد كما بيّنّاه، وأن أبا عمر بن عبد البرّ، والأمير قلّدا أبا أحمد، وقد أشبعت الكلام في هذا الاسم في "تهذيب الإكمال"، و"أوهام الأمير".
وقد أحسن أحمد بن حنبل رحمه الله في ترك التقليد والحثّ على البحث حيث ذاكر عليّ بن المدينيّ في أصحاب الزهريّ، وكان أحمد يقدّم مالكًا، وابن المدينيّ يقدّم سفيان.
أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد بن الفرج الوكيل، أنبأنا عبد القادر بن محمد، أنبأنا عمر بن أحمد بن إبراهيم، أنبأنا عبد العزيز بن جعفر، أنبأنا أحمد بن محمد بن هارون، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن محمد، قال: سمعت أبي يقول: كنت أنا وعليّ بن المدينيّ، فذكرنا أثبت من روى عن الزهريّ، فقال عليّ: سفيان بن عيينة، فقلت أنا: مالك بن أنس، وابن عيينة يُخطىء في نحو عشرين حديثًا عن الزهريّ، في حديث كذا، وحديث كذا، فذكرت منها ثمانية عشر حديثًا، وقلت: هات ما أخطأ فيه مالك، فجاء بحديثين، أو ثلاثة، قال: فنظرت فيما أخطأ فيه سفيان بن عيينة، فإذا هي أكثر من عشرين حديثًا.
ألا ترى أن ابن المدينيّ ومحلّه من هذا الشأن ما قد عُرف لَمّا لم يُمعن النظر في البحث عن حديث إمام الهجرة حكم بغير ما تقتضيه النصفة حتّى ذكّره أحمد، وكان السبب فيه أن ابن المدينيّ فاته مالك، ومُتّع بسفيان، وكان ربّما يعتقد في حديث مالك عن الزهريّ أنه عرضٌ، وحديث سفيان تحديث، حدّثه به الزهريّ، وإن كان الأمر على خلاف ذلك، وأحمد لم يكتف بذلك حتى سبر حديثهما، ثم حكم لأحدهما على الآخر.
باب إبطال قول من زعم أن شرط البخاريّ إخراج الحديث عن عدلين، وهلمّ جَرّا إلى أن يتّصل الخبر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم
-
قد تقدّم منّا القول بأن هذا حكم من لم يُمعن الغوصَ في خبايا الصحيح، ولو استقرأ الكتاب حقّ استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة عليه دعواه، وأما قول الحاكم في القسم الأول: إن اختيار البخاريّ ومسلم إخراج الحديث عن عدلين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا غير صحيح طردًا وعكسًا، بل لو عكس القضيّة، وحكم كان أسلم له، وقد صرّح بنحو ما قلت من هو أمكن منه في الحديث، وهو أبو حاتم محمد بن حبّان الْبُستيّ.
أخبرني أبو المحاسن محمد بن عبد الملك بن عليّ الهمدانيّ، أنبأنا القاسم المستملي، أنبأنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن عليّ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد ابن محمد بن هارون الزوزنيّ، حدّثنا ابن حبّان البستيّ، قال: وأما الأخبار، فإنها كلّها أخبار آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكلّ واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استحال هذا وبطل، ثَبَت أن الأخبار كلها أخبار آحاد، ومن اشترط ذلك، فقد عمد إلى ترك السنن كلّها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد. هذا آخر كلام ابن حبّان، ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبّان أقرب إلى الصواب.
وأما قوله: أن الموجود المرويّ من الأحاديث على الوتيرة التي لم تسلم يبلغ قريبًا من عشرة آلاف، فهذا ظنّ منه بأنهما لم يخرجا إلا على ما رُسم، وليس كذلك، فإن أقصى ما يمكن اعتباره في الصحّة هو شرط البخاريّ، ولا يوجد في كتابه من النحو الذي أشار إليه إلا القدر اليسير.
وأما قوله: أن شرط الشيخين إخراج الحديث عن عدلين، وهلُمّ جرّا إلى أن يتّصل الحديث، فليس كذلك أيضًا لأنهما قد خرجا في كتابيهما أحاديث جماعة من الصحابة ليس لهم إلا راو واحد، وأحاديث لا تعرف إلا من جهة واحدة، وأنا أذكر من كلّ نوع أحاديث تدلّ على نقيض ما ادّعاه، فمن ذلك:
حديث مِرداس الأسلميّ: "يذهب الصالحون الأول فالأول
…
" الحديث، وهذا حديث تفرّد البخاري بإخراجه، ولم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم، رواه البخاريّ عن يحيى بن حمّاد، عن أبي عوانة، عن بيان، عن قيس، عن مرداس، وليس لمرداس في كتاب البخاريّ، سوى هذا الحديث.
وقد ذكر الحاكم في القسم الثاني مرداس بن مالك الأسلميّ، وعدّه فيمن لم يخرج عنه في الصحاح شيء، وهذا الحديث يردّ عليه قوله، ويُبيّن خطأه.
ومنها: حديث حزن بن أبي وهب المخزوميّ، خرّج عنه البخاريّ حديثين: أحدهما: "وجاء سيلٌ في الجاهليّة، فكسا ما بين الجبلين
…
"، والثاني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "ما اسمك؟
…
" الحديث، وقد انفرد بهما عنه ابنه المسيّب، وعن المسيّب ابنه سعيد ابن المسيّب.
ومنهم: زاهر بن الأسود الأسلميّ خرّج عنه البخاريّ حديثًا واحدًا، وهو:"إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر"، وقد تفرّد بالرواية عنه ابنه مَجْزَأة بن زاهر.
ومنهم: عبد الله بن هشام بن زُهرة القرشيّ، أخرج البخاريّ عنه حديثين: أحدهما: "كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء
…
" الحديث. والثاني: "قال: ذهبت به أمه زينب بنت حُميد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال صلى الله عليه وسلم: هو صغير
…
" الحديث، وقد تفرّد بالرواية عنه ابنه زهرة بن معبد.
ومنهم: عمرو بن تغلب، أخرج عنه البخاريّ حديثين: أحدهما: "إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل
…
" الحديث. والثاني: "أن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا ينتعلون
…
" الحديث، وقد تفرّد برواية هذين الحديثين عنه الحسن بن أبي الحسن، ولا يُعرف له راو غيره.
ومنهم: عبد الله بن ثعلبة بن صُعير، أخرج عنه البخاريّ حديثًا واحدًا موقوفًا، تفرّد به الزهريّ عنه، ولا يُعرف له راو غير الزهريّ.
ومنهم: سُنين أبو جَميلة السلميّ من أنفسهم، أخرج البخاريّ عنه طرفًا من حديث، ولم يرو عنه غير الزهريّ من وجه يصحّ مثله.
ومنهم: أبو سعيد بن المعلَّى، أخرج عنه البخاريّ حديثًا واحدًا: "قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي
…
" الحديث، وقد تفرّد به عنه حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب، ولا رواه عنه غير خُبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف.
ومنهم: أبو عقبة سُويد بن النعمان بن مالك بن عامر الأنصاريّ، وكان من أصحاب الشجرة، أخرج عنه البخاريّ حديثًا واحدًا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كنّا بالصهباء، وهي من أدنى خيبر
…
" الحديث، وقد تفرّد به عنه بُشَير بن يسار.
ومنهم: خولة بنت ثامر، وقد أخرج البخاريّ منفردًا به حديث أبي الأسود، عن النعمان بن أبي عيّاش، عن خولة بنت ثامر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أن رجالًا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ
…
" قال الدارقطنيّ: ولا تُعرف خولة بنت ثامر إلا من هذا الحديث، ولم يرو عنها غير النعمان بن أبي عيّاش، وهذا اللفظ يُشبه لفظ عُبيد سَنُوطا عن خولة بنت قيس بن فهد امرأة حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن كانت هي التي روى عنها النعمان بن أبي عيّاش، ونسبها إلى ثامر، فالحديث مشهور، وإن كانتا امرأتين فابنة ثامر لم يرو عنها غير النعمان بن أبي عيّاش.
وممن تفرّد مسلم بإخراج حديثه على النحو المذكور عديّ بن عَمِيرة الكنديّ،
أخرج مسلم له حديثًا واحدًا، وهو: "من استعملناه على عمل، فكتمنا مخيطًا فما فوقه
…
" الحديث، ولم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم.
وقد ذكر الحاكم في القسم الثاني المستورِد بن شدّاد الفِهْريّ في مفاريد قيس بن أبي حازم، وزعم أنه لم يُخرج البخاريّ، ولا مسلم حديثه، ولا حديث من كان على هذا الوزن من المفاريد، وهذا مسلم بن الحجّاج قد أخرج للمستورد حديثين: أحدهما من رواية قيس بن أبي حازم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار بالسبابة- في اليمّ، فلينظر بم ترجع". والثاني أخرجه من حديث موسى بن عليّ، عن أبيه عليّ بن رَباح قال: قال المستورد القرشيّ عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس
…
" الحديث، وقد روى عنه غير واحد من المصريين والشاميين.
ومنهم: قطبة بن مالك، أخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا قال: "صلّيت وصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1]
…
" الحديث، ولم يرو عنه غير زياد بن عِلاقة، وقد زعم الحاكم أن قطبة بن أشيم والد أبي مالك أخرج عنه مسلم حديثين: أحدهما: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله". الثاني: "كان الرجل إذا أسلم علمه النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة
…
" الحديث، وقد تفرّد بالرواية عنه ابنه أبو مالك سعد بن طارق، ومنهم نُبيشة الخير بن عبد الله بن عَتّاب، أخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا في أيّام التشريق، وقد أخرج له الْبَرْقَانيّ في كتابه المخرّج على "الصحيحين" حديثًاً آخر في العَتِيرة، ولم يوجد في أكثر النسخ، سوى الحديث الأول، وليس له راو سوى أبي الْمَلِيح عامر بن أُسَامة.
ومن مفاريد التراجم في الكتابين: حديث: "إنما الأعمال بالنيّة
…
"، فإن البخاريّ استفتح كتابه به، رواه عن الحميديّ، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن علقمة بن وقّاص الليثيّ، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وقد أُخْرِج في الكتابين في عدّة مواضع، وهو من غرائب الصحيح، مدنيّ المخرج، ولم يُروَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه يصحّ مثله إلا من حديث عمر رضي الله عنه فهو في الحقيقة من مفاريده، ولا يثبُت عن عمر إلا من رواية علقمة بن وقّاص، ولا من رواية علقمة إلا من رواية التيميّ، تفرّد به يحيى بن سعيد، وقد رواه عن يحيى خلقٌ كثيرٌ.
وهذا باب لو استقصيته لأفضى إلى الإكثار، وتجاوز حدّ الاختصار، ومن طالع تراجم حديث الشاميين والمصريين وجد لِمَا ذكرناه نظائر كثيرة، فإن حديث الحمصيين
ومن يُدانيهم ضيّق المخرج جدّا، ولهذا قلّما يوجد للشاميين والمحصريين حديث يُعْتَنَى بجمع طرقه ويُذاكر به في السير من حديث الشاميين الدمشقيين، وذالك لضيق مخرج حديثهم.
ومن أمعن النظر في هذه الأمثلة المذكورة بان له فساد وضع الأقسام التي ذكرها الحاكم.
وإذ قد فرغنا من إبطال هذه الدعوى، فلنذكر التحقيق في قبول الأخبار من الثقات الموصوفين بالشرائط التي يأتي ذكرها.
فمهما كانت تلك الشرائط موجودةً في حقّ راو كان على شرطهم وغرضهم، وله منهم قبول خبره، تفرّد بالحديث، أو شاركه غيره فيه.
نعم يُفيد هذا في باب الترجيحات عند تعارض الأخبار حالة المذاكرة بين المتناظرين، وذلك من وظيفة الفقهاء؛ لأن قصدهم إثبات الأحكام، ومجال نظرهم في ذلك متّسِع.
وقد أورد بعض أئمّتنا في باب الترجيحات نيّفًا وأربعين وجهًا في ترجيح أحد الحديثين على الآخر.
ثم الحديث الواحد لا يخلو إما أن يكون من قبيل التواتر، أو من قبيل الآحاد، وإثبات التواتر في الأحاديث عَسِرٌ جدّا، سيّما على مذهب من لم يعتبر العدد في تحديده، وأما الآحاد فعند أكثر الفقهاء توجب العمل دون العلم، فلا تعويل على مذهب الكوفيين في ذلك. وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم (1)، وتفاصيل مذاهب الكلّ مذكورة في كتب أصول الفقه، وعلى الجملة فقد اتّفقوا أنه لا يُشترط في قبول الآحاد العدد قلّ أو كثُر. والله أعلم.
الشروط (2) المعتبرة المذكورة عند الأئمة التي من احتوى عليها، وتحلّى بحليتها لزِم قبول خبره، واستحقّ إخراج حديثه في الصحيح، ثم نردفه بذكر قصد البخاريّ في وضع كتابه، وكذلك نذكر شرط من عداه من الأئمة الذين ذكرناهم أوّلًا، فهاتان
(1) هذا المذهب هو الحقّ، وقد سبق بيانه بالنسبة لأحاديث "الصحيحين" في المسألة الرابعة من هذه المقدّمة، وسيأتي تمام البحث في ذلك في أواخر هذا الشرح، إن شاء الله تعالى.
(2)
هكذا النسخة، ولعل في الكلام ساقطًا، مثل ونتكلم في الشروط إلخ، أو نحو هذا، فإن الكلام غير ملتئم، فليحرّر. والله تعالى أعلم.
مقدّمتان من حيث الإجمال والتفصيل، ذكرتهما مُجمَلًا، ثمّ أذكرهما مفصّلًا، فأقول:
اعلم: -وفّقك الله تعالى- أنه لَمّا كان كلُّ مكلّف من البشر لا يكاد يَسْلَم من أن تشوب طاعته معصيةٌ، لم يكن سبيلٌ إلى أن لا يُقبل إلا طابع محض الطاعة؛ لأن ذلك يوجب أن لا يُقبل أحد، وهكذا لا سبيل إلى قبول كلّ عاصٍ؛ لأنه يوجب أن لا يُردّ أحدٌ، وقد أمر الله تعالى بقبول العدل، وردّ الفاسق في نصّ القرآن، فاحتيج إلى التفصيل.
فكلّ من ثبت كذبه رُدّ خبره وشهادته؛ لأن الخبر ينقسم إلى الصدق والكذب، فالصدق هو الخبر المتعلّق بالمخبِر على ما هو عليه، والكذب عكسه.
وقد اختلف العلماء في حدّ الخبر، فقالت طائفةٌ: الخبر ما دخله الصدق والكذب، وقيل: ما جاز أن يكون صدقًا، وأن يكون كذبًا، وقيل: ما كان صدقًا أو كذبًا. وهذه حدودٌ رسميّة لا تكاد تسلم عن النقوض، والكلام فيها يليق بالأصول.
ثم الخبر منقسم إلى متواتر وآحاد، فالمتواتر ما يُخبر القوم الذين يبلغ عددهم حدّا يُعلم عند مشاهدتهم بمستقرّ العادة أن اتّفاق الكذب منهم محالٌ، والتواطؤ منهم في مقدورات الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذّرٌ، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع عند ذلك بصدقه، وأوجب حصول العلم ضرورة.
وأما الآحاد فما قصر عن حدّ التواتر، ولم يحصل به العلم، ولكن تداولته الجماعة.
ثم الأخبار كلّها على ثلاثة أضرب:
فضربٌ منها تُعلم صحّته، وضرب منها يُعلم فساده، وضربٌ منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر.
أما الضرب الأول، فالطريق إلى معرفته إن لم يتواتر أن يكون مما تدلّ العقول على موجبه، كالإخبار عن حدوث العالم، وإثبات الصانع.
وأما الضرب الثاني، وهو ما يُعلم فساده، فهو الذي تدفع العقول صحّته بموضوعها، والأدلّةِ المنصوبة فيها، نحو الإخبار عن اجتماع الضدّين، أو أن الجسم الواحد في الزمن الواحد في مكانين، أو مما يدفعه نصّ القرآن، أو السنّة المتواترة، أو أجمعت الأمة على ردّه تكذيبًا له وغير ذلك.
وأما الضرب الثالث الذي لا يُعلم صحّته من فساده، فإنه يجب الوقف عن القطع بكونه صدقًا أو كذبًا، وهذا الضرب لا يدخل إلا فيما يجوز أن يكون، ويجوز أن لا
يكون، وهي الأخبار التي يُؤثرها علماء الإسلام في إثبات الأحكام الشرعيّة المختلف فيها بين الأمة، وإنما وجب التوقّف فيما هذه حاله من الأخبار؛ لعدم الطريق إلى العلم بكونها صدقًا أو كذبًا، فلم يكن الحكم بأحد الأمرين فيها أولى من الحكم بالآخر إلا أنه يجب العمل بما تضمّنته من الأحكام إذا وُجدت فيها الشرائط التي نذكرها بعدُ.
فإذا ثبت أن الحاجة داعيةٌ في تصحيح الخبر إلى اعتبار أوصاف في المخبِر، فلنذكر الآن ما وعدنا به من حصر الشرائط التي إذا قامت بشخص لزم قبول خبره.
الشرط الأول: الإسلام، وهو المقصود الأعظم، فرواية أهل الشرك مردودة، ومستند ذلك الكتاب والسنّة والإجماع، وليس هذا موضع إحصائها، وإنما نُشير إشارةً عاريةً عن الأدلّة، فإن تحمّل الرواية وهو مشركٌ، ثم أدّاها في الإسلام، فلا بأس بذلك.
والشرط الثاني: العقل، وبه يتوجّه الخطاب، ومنه يُتلقّى الصواب، والمفقود عقله لا يخلو إما أن يكون مجنونًا، أو صبيّا، وكلاهما لا تُقبل روايته، ولا شهادته، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعقل"(1)، والحديث مشهور من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ولا حاجة بنا إلى ذكر إسناده، ولأن حال الراوي إذا كان مجنونًا دون حال الفاسق من المسلمين، وذلك أن الفاسق يخاف الله، ويرجوه لما فيه من الاستعداد، فإذا رُدَّ خبر الفاسق فخبر المجنون أولى بذلك. والصبيّ عند عدم التمييز بمثابة المجنون. وأما حالة التحمّل، فقد ذهب قومٌ إلى المنع إذا لم يكن مميّزًا، وخالفهم في ذلك آخرون. وأما من زال عقله بأمر طارىء، كالاختلاط، وتغيّب الذهن، فلا يُعتدّ بحديثه، ولكن يلزم الطالب البحث عن وقت اختلاطه، فإن كان لا يمكن الوصول إلى علمه طُرح حديثه بالكليّة؛ لأن هذا عارض قد طرأ على غير واحد من المتقدّمين، والحفّاظ المشهورين، فإذا تميّز له ما سمعه ممن اختلط في حال صحّته، جاز له الرواية عنه، وصحّ العمل بها.
شرط آخر: الصدق، وهو عمدة الأنباء، وعدّة الأنبياء، وشيمة الأبرار، وأُرومة الأخيار، والبرزخ بين الحقّ والباطل، والفيصل بين الفاضل والجاهل، فمن تحلّى بغير حليته فلا يخلو كذبه، إما أن يكون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في أحاديث الناس، فإن كان كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الحديث، أو ادّعاء السماع، أو ما شاكل
(1) حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داوود.
ذلك، فقد ذهب غير واحد من الأئمة إلى ردّ حديثه، وإن تاب.
نقلنا ذلك عن سفيان الثوريّ، وابن المبارك، ورافع بن الأشرس، وأبي نُعيم، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
فأما إذا قال: كنت أخطأت فيما رويته، ولم أتعمّد الكذب، فإن ذلك يُقبل منه.
وأما الذي يكذب في أحاديث الناس، فإنه متى جُرّب عليه ذلك، وظهر، فإنه يُردّ حديثه، وكذا من عُرف بقبول التلقين، وتكرّر ذلك منه، واشتَهَر به، فلا يُقبل حديثه، وكذا من عُرف بالتساهل في رواية خبره.
شرطٌ آخر: أن لا يكون مدلّسًا، والتدليس، وإن كان أنواعًا، بعضها أسهل من بعض، وكان جماعة من ثقات الكوفيين والبصريين مولَعين به، ممن حديثه مخرّجٌ في الصحاح، غير أنّ شرط الصحيح لا يحتمل ذلك.
شرط آخر: العدالة، وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يُقبل إلا خبر العدل، وكلُّ حديث اتّصل إسناده بين من رواه، وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، وإمعان النظر في أحوالهم، سوى الصحابيّ الذي رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتةٌ معلومة بتعديل الله تعالى لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن طهارتهم.
وصفاتُ العدالة: هي اتّباع أوامر الله تعالى، والانتهاء عن ارتكاب ما نهَى عنه، وتَجَنُّب الفواحش المسقطة، وتحرّي الحقّ والتوقّي في اللفظ مما يثلم الدين والمروءة، وليس يكفيه في ذلك اجتناب الكبائر حتى يجتنب الإصرار على الصغائر، فمتى وُجدت هذه الصفات كان المتحلّي بها عدلًا مقبول الشهادة.
ومنها: أن يكون الشخص بعد أن ثبتت عدالته، وجانب ما ينافي العدالة نحو السفه وغيره معروفًا عند أهل العلم بطلب الحديث، وصرف العناية إليه.
ومنها: أن يكون حفظه مأخوذًا عن العلماء لا عن الصحف.
ومنها: أن يكون ضابطًا لما سمعه وقت سماعه متحقّقًا على شيخه في روايته من أن لا يدلّسه إن كان ممن يعرف بالتدليس، وكان يحيى بن سعيد يقول: ينبغي في هذا الحديث غير خصلة ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبتا الأخذ، ويكون يفهم ما يقال، ويُبصر الرجال، ثم يتعاهد ذلك.
وقال أبو نعيم: لا ينبغي أن يؤخذ العلم إلا عن ثلاثة: حافظ له أمين عليه، عارف بالرجال، ثم يأخذ نفسه بدرسه، وتكريره حتى يستقرّ له حفظه.
ومنها: أن يكون متيقّظًا سليم الذهن عن شوائب الغفلة.
ومنها: أن يكون قليل الغلط والوهم لأن من كثر غلطه، وكان الوهم عليه غالبًا رُدّ حديثه، وسقط الاحتجاج به.
ومنها: أن يكون حسن السمت موصوفًا بالوقار غير مشهور بالمجون والخلاعة إذ ارتكاب هذا مفضٍ إلى السفه.
ومنها: أن يكون مجانبًا للأهواء تاركًا للبدع، فقد ذهب أكثرهم إلى المنع إذا كان داعية، واحتملوا رواية من لم يكن داعية.
فهذه جوامع الأوصاف، ولها توابع، ولواحق لا يمكن إحاطة العلم بها إلا بعد الممارسة، والمطالعة للكتب المصنّفة في هذا الشأن.
ثم اعلم أن لهؤلاء الأئمة مذهبًا في كيفيّة استنباط مخارج الحديث نشير إليها على سبيل الإيجاز، وذلك أن مذهب من يُخَرّج الصحيح أن يُعتبر حال الراوي العدل في مشايخه، وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضًا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمهم إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصلح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات.
وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم.
ولنوضّح ذلك بمثال، وهو أن نعلم مثلًا أن أصحاب الزهريّ على خمس طبقات، ولكلّ طبقة منها مزيّة على التي تليها، وتفاوت، فمن كان في الطبقة الأولى: فهو الغاية في الصحّة، وهو غاية مقصد البخاريّ. والطبقة الثانية: شاركت الأولى في العدالة غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للزهريّ حتى كان فيهم من يُزامله في السفر، ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهريّ إلا مدّة يسيرة، فلم تُمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم.
والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهريّ مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يَسْلَمُوا عن غوائل الجرح فهم بين الردّ والقبول، وهم شرط أبي داود والنسويّ.
والطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، وتفرّدوا بقلّة ممارستهم لحديث الزهريّ؛ لأنهم لم يصاحبوا الزهريّ كثيرًا، وهم شرط أبي عيسى، وفي الحقيقة شرط الترمذيّ أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفًا أو مطلعه من حديث أهل الطبقة الرابعة، فإنه يبين ضعفه، وينبّه عليه، فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات، ويكون اعتماده على ما صحّ عند الجماعة، وعلى الجملة فكتابه مشتمل على هذا الفنّ، فلهذا جعلنا شرطه دون شرط أبي داود.
والطبقة الخامسة: نفرٌ من الضعفاء والمجهولين، لا يجوز لمن يُخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود، فمن دونه، فأما عند الشيخين فلا.
فأما أهل الطبقة الأولى، فنحو مالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن عمر، ويونس، وعُقيل الأيليان، وشعيب بن أبي حمزة، وجماعة سواهم.
وأما أهل الطبقة الثانية، فنحو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ، والليث بن سعد، والنعمان بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وغيرهم.
والطبقة الثالثة نحو سفيان بن حسين السلميّ، وجعفر بن بُرقان، وعبد الله بن عمر ابن حفص العمريّ، وزمْعَة بن صالح المكيّ، وغيرهم.
والطبقة الرابعة نحو إسحاق بن يحيى الكلبيّ، ومعاوية بن يحيى الصدفيّ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة المدنيّ، وإبراهيم بن يزيد المكيّ، والمثنّى بن الصبّاح، وجماعة سواهم.
والطبقة الخامسة نحو بحر بن كنيز السقا، والحكم بن عبد الله الأيليّ، وعبد القدّوس بن حبيب الدمشقيّ، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغيرهم، وهم خلقٌ كثير اقتصرتُ منهم على هؤلاء، وقد أفردت لهم كتابًا استوفيتُ فيه ذكرهم.
وقد يُخرج البخاريّ أحيانًا عن أعيان الطبقة الثانية، ومسلم عن أعيان الطبقة الثالثة، وأبو داود عن مشاهير الطبقة الرابعة، وذلك لأسباب تقتضيه، وليس غرضي في هذا المثال ترتيبهم على وزن ما قد خرّجوا في الصحاح، وإنما قصدي التنبيه والتعريف، وعلى هذا يُعتذر لمسلم في إخراجه حديث حمّاد بن سلمة، فإنه لم يُخرج إلا رواياته عن المشهورين، نحو ثابت الْبُنَانيّ، وأيوب السختيانيّ، وذلك لكثرة ملازمته ثابتًا، وطول صحبته إياه حتى بقيت صحيفة ثابت على ذكره وحفظه بعد الاختلاط كما كانت قبل الاختلاط، وأما أحاديثه عن آحاد البصريين، فإن مسلمًا لم يُخرج منها شيئًا لكثرة ما يوجد في رواياته عنهم من الغرائب، وذلك لقلّة ممارسته لحديثهم.
وعلى هذا ينبغي أن يُسبَر حال الشخص في الرواية بعد ثبوت عدالته، فمهما حصل الفهم بحال الراوي على النحو المذكور، وكان الراوي محتويًا على الشرائط المذكورة تعيّن إخراج حديثه منفردًا كان أو مشاركًا.
ولا أعلم أحدًا من فِرَق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد، سوى
متأخري المعتزلة، فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم بن حبّان.
[فإن قيل]: فإن كان الأمر على ما ذكرت، فإن الحديث إذا صحّ سنده، وسَلِم من شوائب الجرح فلا عبرة بالعدد والأفراد، وقد يوجد على ما ذكرت حديث كثير، فينبغي أن يناقش البخاريّ في ترك إخراج أحاديث هي من شرطه، وكذلك مسلم.
[قلت]: الأمر على ما ذكرتُ من أن العبرة بالصحّة، لا بالعدد، وأما البخاريّ فلم يلتزم أن يُخرج كلّ ما صحّ من الحديث حتى يتوجّه عليه الاعتراض، وكما أنه لم يُخرج عن كلّ من صحِّ حديثه، ولم يُنسب إلى شيء من جهات الجرح، وهم خلق كثير، يبلُغ عددهم نيّفًا وثلاثين ألفًا؛ لأن "تاريخه" يشتمل على نحو من أربعين ألفا وزيادة، وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس، ومن خرّجهم في "جامعه" دون ألفين، وكذا لم يُخرج كلّ ما صحّ من الحديث، ويشهد لصحّة ذلك ما أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد، أنبأنا ابن طلحة في كتابه عن أبي سعيد المالينيّ، أنبأنا عبد الله ابن عديّ، حدّثني محمد بن أحمد، قال: سمعت محمد بن حمدويه يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
وأنبأنا أبو مسعود عبد الجليل بن محمد في كتابه، أنبأنا أبو عليّ أحمد بن محمد ابن شهريار، أنبأنا أبو الفرج محمد بن عبد الله بن أحمد، أنبأنا أبو بكر الإسماعيليّ، قال: سمعت من يَحكي عن البخاريّ أنه قال: لم أُخرِج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر.
وأنبأنا أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن الحافظ قراءةً عليه، أنبأنا المعمر ابن محمد بن الحسين، أنبأنا أحمد بن عليّ الحافظ، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أنبأنا محمد بن عبد الله، سمعت خلف بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن معقِل يقول: سمعت أبا عبد الله البخاريّ يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقع في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب.
فقد ظهر بهذا أن قصد البخاريّ كان وضع مختصر في الحديث، وأنه لم يقصد الاستيعاب لا في الرجال، ولا في الحديث، وأن شرطه أن يُخرج ما صحّ عنده؛ لأنه قال: لم أُخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، ولم يتعرّض لأمر آخر، وما سَلِم سنده من جهات الانقطاع والتدليس وغير ذلك من أسباب الضعف لا يخلو إما أن يُسمّى
صحيحًا، أو لا يُطلق عليه اسم الصحّة، فإن كان يُسمّى صحيحًا، فهو شرطه على ما صرّح به، ولا عبرة بالعدد، وإن لم يُطلق عليه اسم الصّحّة، فلا تأثير للعدد؛ لأن ضمّ الواهي إلى الواهي لا يؤثّر في اعتبار الصحّة، ولم يذهب إلى هذا أحد من أهل العلم قاطبةً.
وأما شرط مسلم، فقد صرّح به في خطبة كتابه.
وأما أبو داود ومن بعده، فهم متقاربون في شروطهم، فلتقصر على حكاية قول واحد منهم، والباقون مثله.
أنبأنا أبو العلاء محمد بن جعفر بن عقيل البصريّ عن كتاب أبي الحسين المبارك ابن عبد الجبّار، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عليّ الحافظ، سمعت أبا الحسين محمد ابن أحمد الغسّانيّ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز الهاشميّ يقول: سمعت أبا داود في "رسالته" التي كتبها إلى أهل مكّة وغيرها جوابًا لهم:
"سألتم أن أذكر لكم الأحاديث في كتاب السنن أهي أصحّ ما عرفتُ في هذا الباب، فاعلموا أنه كذلك كلّه إلا أن يكون قد رُوي من وجهين صحيحين، وأحدهما أقدم إسنادًا، والآخر صاحبه أقوم في الحفظ، فربّما كتبت ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث، ولم أكتب في الباب إلا حديثًا واحدًا أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح، فإنه يكبر، وإنما أردت قرب منفعته، وليس في كتاب السنن الذي صنّفته عن رجل متروك الحديث شيء، فإن ذُكر لك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّةٌ ليس فيما أخرجته، فاعلم أنه حديث واهٍ، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لم أُخرج الطرق؛ لأنه يكثر على المتعلّم، ولا أعرف أحدًا جمع على الاستقصاء غيري
…
" فذكر باقي الرسالة.
وقد روينا عن أبي بكر بن داسة أنه قال: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضمّنت هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح، وما يُشبهه، وما يُقاربه، وذكر تمام الكلام.
وهذا القدر كاف في الإيماء إلى مرامهم في تأسيس قواعدهم لمن رُزق النظر السليم، وأعين ببعض الذَّكاء والفطنة.
[فإن قيل]: إن كان الأمر على ما مهّدت، وأن الشيخين لم يلتزما استيعاب جميع ما صحّ، بل لم يودعا كتابيهما إلا ما صحّ، فما بالهما خرّجا حديث جماعة تُكُلّم
فيهم، نحوُ فُليح بن سليمان، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وإسماعيل بن أبي أُويس عند البخاريّ، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وذويه عند مسلم؟ .
[قلت]: أما إيداع البخاريّ ومسلم كتابيهما حديث نفر نُسبوا إلى نوع من الجرح فظاهر، غير أنه لم يبلُغ ضعفهم حدّا يُردّ به حديثهم، مع أنا لا نقرّ بأن البخاريّ كان يرى تخريجِ حديث من يُنسب إلى نوع من أنواع الضعف، ولو كان ضعف هؤلاء قد ثبت عنده لمَا خرّج حديثهم، ثم ينبغي أن يُعلم أن جهات الضعف متباينة متعدّدة، وأهل العلم مختلفون في أسبابه، أما الفقهاء فمدارك الضعف عندهم محصورةٌ، وجُلُّها منوط بمراعاة ظاهر الشرع، وعند أئمة النقل أسباب أُخَر مَرْعيّةٌ عندهم، وهي عند الفقهاء غير معتبرة، ثم أئمة النقل أيضًا على اختلاف مذاهبهم، وتباين أحوالهم في تعاطي اصطلاحهم يَختلِفون في أكثرها، فربّ راوٍ موثوقٌ به عند عبد الرحمن بن مهديّ، ومجروح عند يحيى بن سعيد القطّان، وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومن عندهما يُتلقّى معظم شأن الحديث.
وأما البخاريّ فكان وحيد دهره، وقَريع عصره إتقانًا وانتقادًا وبحثًا وسبرًا، وبعد إحاطة العلم بمكانته من هذا الشأن لا سبيل إلى الاعتراض عليه في هذا الباب، ثم له أن يقول: هذا السؤالُ لا يلزمني؛ لأني قلت: لم أُخرج إلا حديثًا متّفقًا على صحّته، ولم أقل: لا أخرج إلا حديث من اتُّفق على عدالته؛ لأن ذلك يتعذّر؛ لاختلاف الناس في الأسباب المؤثّرة في الضعف.
ثم قد يكون الحديث عند البخاريّ ثابتًا، وله طرقٌ بعضها أرفع من بعض، غير أنه يَحيد أحيانًا عن الطريق الأصحّ؛ لنزوله، أو يسأم تكرار الطرق إلى غير ذلك من الأعذار. وقد صرّح مسلم بنحو ذلك.
قرأت على محمد بن عليّ بن أحمد القاضي، أخبرني أحمد بن الحسن بن أحمد الكرخيّ إذنًا عن أبي بكر أحمد بن محمد البرقانيّ، حدّثنا الحسين بن يعقوب الفقيه، حدّثنا أحمد بن طاهر الميانجيّ، حدّثنا أبو عثمان بن سعيد بن عمرو قال: شهدت أبا زرعة الرازيّ ذكَر كتاب الصحيح الذي ألّفه مسلم بن الحجّاج (1) بن الفضل الصائغ على مثاله، فقال لي أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه، فعملوا شيئًا يتسوقون به، ألّفوا كتابًا لم يُسبقوا إليه؛ ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها. وأتاه رجلٌ ذات يوم، وأنا شاهدٌ بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر إليه فيه، فإذا حديث عن أسباط بن
(1) هكذا النسخة، وفيه سقط، فليحرّر.
نصر، فقال لي أبو زرعة: ما يُعدّ هذا من الصحيح، يُدخل في كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى في الكتاب قَطَن بن نُسير، فقال لي: وهذا أطمّ من الأول، قطَن بن نُسير وصلَ أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصريّ في كتاب الصحيح؟ قال أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يشكّون أن أحمد بن عيسى، وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه، كأنه يقول الكذب، ثم قال لي: أيحدّث عن هؤلاء، ويترك محمد بن عجلان، ونظراءه، ويطرّق لأهل البدع عليها، فيجدوا السبيل بأن يقولوا للحديث إذا احتُجّ عليهم به: ليس هذا من كتاب الصحيح، ورأيته يذمّ من وضع هذا الكتاب، فلما رجعت إلى نيسابور في المرّة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه، وروايته في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر، وقطن بن نُسير، وأحمد بن عيسى المصريّ، فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيحٌ، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر، وقطَن، وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربّما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروفٌ من رواية الثقات.
وقدِمَ مسلم بعد ذلك الريّ، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، فجفاه، وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مما قال أبو زرعة، فاعتذر إليه مسلم، وقال له: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: صحاحٌ، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكن إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي، وعند من يكتبه عنّي ولا يرتاب في صحّتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف، أو نحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره، وحدّثه. انتهت الرسالة.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.