الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: في الكلام على باء البسملة
اعلم: أن الباء في البسملة أصليّة على المشهور، ومعناها الاستعانة، أو المصاحبة على وجه التبرّك، واستُؤنس لهذا -كما في تفسير البلقينيّ- بحديث:"باسم الله الذي لا يضُرّ مع اسمه شيء"، فإن لفظ "مع" ظاهر في إرادة المصاحبة من الباء.
وقيل: الباء زائدة، فـ "اسم" مرفوع بالابتداء محلًّا، مجرور بالباء لفظًا، وخبره محذوف، اسم، أو فعلٌ، والتقدير: اسم الله مبدوء به، أو يُبدأ به بداءةً قويّةً، أي بحسن نيّة، وإخلاص، وأُخِذ هذا المعنى من كون الحرف الزائد يدلّ على التأكيد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في الكلام على متعلّق الجارّ والمجرور، على القول بأصالة الباء، وهو المشهور، كما مرّ آنفًا
اعلم: أنه لا بدّ للجارّ والمجرور من متعلّق يتعلّق به، وقد اختلف النحاة في تقديره، فقدّره الكوفيّون فعلًا، كأبدأ، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله تعالى في "مغنيه": وهو المشهور في التفاسير، والأعاريب، ووُجِّهَ بقلّة المحذوف؛ لأنه عليه كلمتان، وعلى مقابله ثلاث: المبتدأ، والمضاف إليه، والخبر.
وبكثرة التصريح بالمتعلّق فعلًا، كما في آية:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وحديث:"باسمك ربي وضعتُ جنبي، وباسمك اللهمّ أرفعه".
وبأن الجملة عليه مضارعيّةٌ، تفيد بواسطة غلبة الاستعمال التجدّد والاستمرار، وهو أنسب بالمقام من الدوام المستفاد بالاسميّة.
واختار الزمخشريّ، وتبعه المتأخّرون تقديره فعلًا مؤخّرًا، خاصّا، أي مناسبًا لما بُدىء بالبسملة، أما الفعل، فلما مرّ، وأما تأخيره فللاهتمام باسمه تعالى، وليفيد الحصر، فإن تقديم المعمول قد يُفيده، وليكون اسمه تعالى مقدّمًا ذكرًا، وأما كونه خاصًّا، فلرعاية حقّ خصوصيّة المقام، ولإشعار ما بعد البسملة به.
وقدّره البصريّون اسمًا، كابتدائي، لكن الأولَى تقديره خاصًّا مؤخّرًا؛ لما مرّ، وهو إما مبتدأٌ، والخبر محذوف، والأصل تأليفي "بسم الله الرحمن الرحيم" حاصلٌ، وإما خبر لمحذوف أيضًا، و"باسم" متعلّق به، والأصل تأليفي حاصلٌ "بسم الله الرحمن الرحيم"(1).
(1) أفاده محمد الخُضريّ رحمه الله تعالى في حاشيته على "شرح ابن عَقِيل" لـ"ألفية ابن مالك"، ونقلته باختصار ج 1 ص 4.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" عند الكلام على أحاديث البسملة ما حاصله: ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلّق للباء في قوله: "بسم الله"، هل هو اسمٌ، أو فعلٌ متقاربان، وكلٌّ قد ورد به القرآن، أما من قدّره اسمًا، تقديره: باسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} [هود: 41]، ومن قدّره فعلًا، أمرًا، أو خبرًا، نحو ابدأ بسم الله، أو ابتدأتُ بسم الله، فلقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1]، وكلاهما صحيحٌ، فإن الفعل لا بدّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سَمَّيتَ قبله، إن كان قيامًا، أو قُعودًا، أو أكلًا، أو شربًا، أو قراءةً، أو وضوءًا، أو صلاةً، فالمشروع ذكر الله في الشروع في ذلك كلّه تبرّكًا، وتيمّنًا، واستعانة على الإتمام، والتقبّل. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي تقديره فعلًا، كما هو مذهب الكوفيين هنا أرجح؛ لما تقدّم قريبًا. والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: اختلفوا في معنى دخول الباء عليه، هل هي على معنى الأمر، والتقدير: ابْدَأْ بسم الله، أو على معنى الخبر، والتقدير ابتَدَأْتُ بسم الله قولان: الأول للفرّاء، والثاني للزجّاج، فـ"باسم الله" في موضع نصب على التأويلين. وقيل: المعنى ابتدائي بسم الله، فـ"بسم الله" في موضع رفع خبر الابتداء. وقيل: الخبر محذوف، أي ابتدائي مستقرّ، أو ثابت بسم الله، فإذا أظهرته كان "بسم الله" في موضع نصب بثابت، أو مستقرّ، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار، وفي التنزيل:{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] فـ"عند" في موضع نصب. وروي هذا عن نحاة البصرة. وقيل: التقدير: ابتدائي ببسم الله موجود، أو ثابت، فـ"باسم الله" في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (2).
وقال الإمام أبو جعفر الطبريّ رحمه الله تعالى ما حاصله:
أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: بسم الله على ما بطن من مراده الذي هو محذوف، وذلك أن الباء من "بسم الله" مقتضية فعلًا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامع القائل:"بسم الله" معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولًا، إذ كان كلّ ناطق به عند افتتاحه أمرًا قد أحضر منطقه به، إما معه، وإما قبله بلا فصل ما أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قِيلَه به، فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حُذف منه نظير استغنائه إذا سمع قائلًا قيل له: ما أكلت
(1) انظر تفسير ابن كثير ج 1 ص 19 - 20.
(2)
تفسير القرطبيّ ج 1 ص 99.