الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن عائشة، غير مقتض كونه مما حَكَم بصحته، وبالنظر إلى أنه احتج به، وأورده إيراد الأصول، لا إيراد الشواهد، يقتضي كونه مما حَكَم بصحته، ومع ذلك قد حكم الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه "معرفة علوم الحديث" بصحته، وأخرجه أبو داود في "سننه" بإسناده منفردا به، وذَكَر أن الراوي له عن عائشة، ميمون بن أبي شبيب لم يدركها، وفيما قاله أبو داود توقف ونظر، فإنه كوفي متقدم، قد أدرك المغيرة بن شعبة، ومات المغيرة قبل عائشة رضي الله عنها، وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي، كاف في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون هذا أنه قال: لم ألق عائشة، أو نحو هذا، لاستقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه، وهيهات ذلك. والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح (1).
وقال النوويّ بعدما ذكر كلام ابن الصلاح هذا: وحديث عائشة هذا قد رواه البزّار في "مسنده"، وقال: هذا الحديث لا يُعلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وقد رُوي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفًا. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح أن هذا الحديث ضعيف، وسيأتي البحث فيه مستوفىً عند ذكر المصنّف له، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في أن ما حكم الشيخان بصحّته، هل يفيد العلم، أو الظنّ
؟
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب، فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه، وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يُعْتَدُّ بخلافه ووفاقه في الإجماع، والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول، يوجب العلم النظري بصدقه، خلافا لبعض محققي الأصوليين، حيث نفى ذلك، بناء على أنه لا يفيد في حق كل واحد منهم إلا الظن، وإنما قبله لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطىء، وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطإ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطإ، وقد أخبرونا في إذنهم عن الحافظ الفقيه، أبي طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني رحمه الله، قال: سمعت القاضي أبا حكيم الجيلي يقول: سمعت أبا المعالي، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني بنيسابور يقول: لو حلف إنسان بطلاق امرأته، أن ما في كتابي البخاري ومسلم، مما حكما
(1)"صيانة صحيح مسلم" ص 84.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 19.
بصحته، من قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما ألزمته الطلاق، ولا حَنَّثْتُهُ؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتهما.
قال أبو عمرو: ولقائل أن يقول في قوله: ولا حنثته؛ للإجماع على صحتهما: إنه لا يحنث ولو لم يُجْمَع على صحتهما؛ لأجل الشك فيه، حتى لو حلف بذلك في حديث ليس بهذه الصفة، فإنه لا يحنث؛ لذلك، وإن كان راويه فاسقا، فعدم الحنث حاصل قبل الإجماع، فلا يضاف إلى الإجماع.
فأقول: المضاف إلى الإجماع هو القطع بعدم الحنث ظاهرا وباطنا، والثابت عند الشك، وعدمِ الإجماع هو الحكم ظاهرا بعدم الحنث، مع احتمال وجوده في الباطن، فعلى هذا ينبغي أن يُحمَل كلام إمام الحرمين، فإنه اللائق بتحقيقه. والله أعلم.
إذا عرفت هذا فما أُخذ على البخاري ومسلم من ذلك وقَدَح فيه مُعْتَمَدٌ من الحفاظ، فهو مستثنى مما ذكرناه؛ لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول، وما ذلك إلا في مواضع قليلة. انتهى كلام أبي عمرو (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي بيان الخلاف في عدد تلك الأحاديث، والجواب عنها قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
وقال أبو عمرو أيضًا في "جزء له": ما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم على إخراجه، فهو مقطوع بصدق مخبِره، ثابتٌ يقينًا؛ لتلقّي الأمة ذلك بالقبول، وذلك يُفيد العلم النظريّ، وهو في إفادة العلم كالمتواتر، إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروريّ، وتلقّي الأمة بالقبول يُفيد العلم النظريّ، وقد اتّفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته، فهو حقّ وصدق.
وقال في "علوم الحديث": وقد كنت أميل إلى أن ما اتفقا عليه فهو مظنون، وأحسبه مذهبا قويا، وقد بان لي الآن أنه ليس كذلك، وأن الصواب أنه يفيد العلم. انتهى كلام أبي عمرو رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقّب النوويّ كلام ابن الصلاح المذكور، فقال: وهذا الذي ذكره الشيخ في هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث "الصحيحين" التي ليست بمتواترة، إنما تفيد الظن، فإنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد
(1)"صيانة صحيح مسلم" ص 86.
التي في غيرهما يجب العمل بها، إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن، فكذا "الصحيحان"، وإنما يفترق "الصحيحان" وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا، لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقًا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى يُنظَر، وتوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اشتد إنكار ابن بَرْهان الإمام على من قال بما قاله الشيخ، وبالغ في تغليطه، وكذا عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول، وقال: إن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحّته، قال: وهو مذهب رديء (1).
قال: وأما ما قاله الشيخ رحمه الله في تأويل كلام إمام الحرمين في عدم الحنث، فهو بناء على ما اختاره الشيخ، وأما على مذهب الأكثرين، فيحتمل أنه أراد أنه لا يحنث ظاهرا، ولا يستحب له التزام الحنث، حتى تُستحبَّ له الرجعة، كما لو حلف بمثل ذلك في غير "الصحيحين"، فإنا لا نُحَنِّثه، لكن نَستَحِبّ له الرجعة احتياطا؛ لاحتمال الحنث، وهو احتمالٌ ظاهر، وأما "الصحيحان" فاحتمال الحنث فيهما في غاية من الضعف، فلا تستحب له المراجعة؛ لضعف احتمال موجبها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تَعَقُّب النوويّ ما قاله أبو عمرو بن الصلاح، ودعواه أن المحققين على خلافه، فيه نظر لا يخفى، بل الصواب أن الأكثرين المحقّقين الذين أعطوا المسألة حقّها من البحث مع ابن الصلاح، بل كلّ حديث توفّرت فيه شروط الصحّة، وانتفت عنه العلل له هذا الحكم، فهو يفيد العلم، لا الظنّ، وهذا هو الحقّ الأبلج، والطريق الأبهج، كما سنحقّقه، إن شاء الله تعالى.
قال في "التدريب": قال البلقيني ما قاله النووي، وابن عبد السلام، ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين، مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية، كأبي إسحاق، وأبي حامد الإسفرائيني، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وأبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن الزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة، بل بالغ ابن طاهر المقدسي في "صفة التصوف"، فألحق به ما كان على شرطهما، وإن لم يخرجاه. وقال
(1) انظر "التدريب" 1/ 132.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 20 - 21.
الحافظ: ما ذكره النووي في "شرح مسلم" من جهة الأكثرين (1)، أما المحققون فلا، فقد وافق ابن الصلاح أيضًا محققون. وقال في "شرح النخبة": الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم، خلافا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع، منها: ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، مما لم يبلغ التواتر، فإنه احْتَفّ به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم، من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ، وبما لم يقع التجاذب بَين مدلوليه، حيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته. قال: وما قيل من أنهم إنما اتفقوا على وجوب العمل به، لا على صحته ممنوع؛ لأنهم اتفقوا على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم يخرجاه، فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة. قال: ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهم أصح الصحيح. قال: ومنها المشهور، إذا كانت له طرق متباينة، سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم الأستاذ أبو منصور البغدادي. قال: ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ، حيث لا يكون غريبا، كحديثٍ يرويه أحمد مثلا، ويشاركه فيه غيره، عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره، عن مالك، فإنه يفيد العلم عند سماعه بالإستدلال، من جهة جلالة رواته.
قال: وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم فيها إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وكونُ غيره لا يحصل له العلم لقصوره عن الأوصاف المذكورة، لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.
وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عَوّل عليه، وأرشد إليه، قال السيوطيّ: وهو الذي أختاره، ولا أعتقد سواه. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بإفادة خبر الواحد المستجمع لشروط الصحّة ولا سيما إذا احتفّ بالقرائن العلمَ، لا الظنَّ هو الحقّ، كما اختاره ابن الصلاح، وابن كثير، والسيوطيّ بالنسبة لما في "الصحيحين"، وكما اختاره المحقّقون الآخرون بالنسبة إلى أحاديث غيرهما، ومنهم أبو المظفّر السمعانيّ، والإمام ابن تيمية،
(1) عندي في قوله: الأكثرين نظر، إذ الأكثرون مع ابن الصلاح، كما سمعته في التقرير المذكور آنفًا. فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(2)
راجع "التدريب" 1/ 132 - 134.