الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخيرين هو المذهب الصحيح الذي عليه أكثر المحدّثين، وإلى هذه الأقسام أشرت في منظومتي "شافية الغلل" حيت قلت:
ثُمَّ اعْلَمَنْ أَنَّ الرُّوَاةَ انْقَسَمُوا
…
أَرْبَعَةً فَمِنْهُمُ الْمُتَّهَمُ
وَمِنْهُمُ مَن وَهْمُهُ قَدْ غَلَبَا
…
لِغَفْلَةٍ وَسُوءِ حِفْظٍ قَدْ رَبَا
وَثَالِثُ الأَقْسَامِ أَهْلُ الصِّدْقِ
…
وَالْحِفْظِ وَالْوَهْمُ قَلِيلُ الطَّرْقِ
وَذَا بِأَهْلِهِ جَرَى احْتِجَاجُ
…
بِلَا خِلَافٍ إِذْ لَنَا احْتِيَاجُ
وَرَابِعُ الأَقْسَامِ أَهْلُ الصِّدْقِ
…
معْ حِفْظٍ وَوَهْمُهُمْ بِكَثْرَةٍ يَقَعْ
لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ يَغْلِبُ
…
فَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ فبَعْضٌ يَذْهَبُ
لِلأَخْذِ عَنْهُمُ كَنَجْلِ مَهْدِي
…
وَابْنِ الْمُبَارَكِ إِمَامِ النَّقْدِ
كَذَاكَ سُفْيَانُ وَكِيعٌ مَالَا
…
جُلُّ الْمُحَدِّثِينَ أَيْضًا قَالَا
كَمُسْلِمٍ فَفِي "الصَّحِيحِ" قَدْ كَفَى
…
تَوْضِيحَ أَقْسَامِ الرُّوَاةِ وَشَفَى
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في البحث المتعلّق بالمنكر:
قد بيّن المصنّف رحمه الله تعالى في قوله: "وعلامة المنكر الخ" أن الحديث المنكر هو الذي تفرّد بروايته من إذا روى ما رواه الثقات الحفّاظ تُخَالِف روايتُهُ روايتَهُم، أو يغلب عليها ذلك، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الذي ذكر رحمه الله تعالى هو معنى المنكر عند المحدّثين، يعني المنكر المردود، فإنهم يُطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث، وهذا ليس بمنكر مردود، إذا كان الثقة ضابطًا متقنًا. انتهى (1).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: لم أقف لأحد من المتقدّمين على حدّ المنكر من الحديث، وتعريفه إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجيّ الحافظ (2) -وكان من أعيان الحفاظ المبرّزين في العلل- أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكرًا، ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائيّ بحديث عن قتادة، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة، ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق، فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)"شرح مسلم" 1/ 57.
(2)
بفتح الموحدة، وسكون الراء، وكسر الدال المهملة، بعدها تحتية وجيم: نسبة إلى برديج قُربَ بَرْدَعة، بإهمال الدال، بأذربيجان، ويقال له: البردعي أيضا. قاله في "التدريب" 1/ 238.
في النهي عن بيع الولاء وهبته، وكذا قال أحمد في حديث مالك، عن الزهري، عن عائشة رضي الله عنها أن الذين جمعوا الحجّ والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى، قال: لم يقل أحد هذا إلا مالك، وقال: ما أظنّ مالكًا إلا غلط فيه لم يجىء به أحد غيره، وقال مرّة إلا مالك، ومالك ثقة، ولعلّ أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث في أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، ثم قال البرديجيّ بعد ذلك: فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعيّ، ينظر في الحديث، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبيّ، أو عن أنس بن مالك رضي الله عنه من وجه آخر لم يدفع، وإن كان لا يعرف عن أحد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك كان منكرًا، وقال أيضًا: إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يُصاب إلا عند الرجل الواحد لم يضرّه أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفًا، ولا يكون منكرًا، ولا معلولًا، وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم، عن همّام، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني أصبت حدّا، فأقمه عليّ
…
الحديث. هذا عندي حديث منكر، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم. ونقل ابن أبي حاتم، عن أبيه أنه قال: هذا حديث باطل بهذا الإسناد. وهذا الحديث مخرّج في "الصحيحين" من هذا الوجه، وخرّج مسلم معناه أيضًا من حديث أبي أُمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا شاهد لحديث أنس، ولعلّ أبا حاتم، والبرديجيّ إنما أنكرا الحديث لأن عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محلّ من يُحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد. والله أعلم.
وقال إسحاق بن هانىء: قال لي أبو عبد الله -يعني أحمد- قال لي يحيى بن سعيد: لا أعلم عبيد الله -يعني ابن عمر- أخطأ إلا في حديث واحد لنافع، عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام
…
" الحديث، قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه، قال أبو عبد الله: فقال لي يحيى بن سعيد: فوجدته قد حدّث به العمريّ الصغير عن نافع، عن ابن عمر مثله، وقال أبو عبد الله: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمريّ صحّحه.
وهذا الكلام يدلّ على أن النكارة عند يحيى القطّان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر، وكلام أحمد قريب من ذلك، قال عبد الله: سألت أبي عن حسين بن عليّ الذي يروي حديث المواقيت؟ (1) فقال: هو أخو أبي جعفر محمد بن عليّ، وحديثه
(1) هو حديث إمامة جبريل بالنبيّ يومين لبيان مواقيت الصلاة، رواه الترمذيّ 1/ 281 والنسائيّ 1/ 263 وابن حبان، والحاكم.
الذي روي في المواقيت ليس بمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره.
وقال أحمد في بُريد بن عبد الله بن أبي بردة: يروي أحاديث مناكير. وقال في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، وهو المنفرد برواية حديث:"الأعمال بالنيّات": في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو قال: منكرة. وقال في زيد بن أبي أنيسة: إنه حديثه لحسنٌ مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، قال: وهو على ذلك حسن الحديث، قال الأثرم: قلت لأحمد: إن له أحاديث إن لم تكن مناكير، فهي غرائب، قال: نعم. وهؤلاء الثلاثة متّفقٌ على الإحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكر أحمد ما تفرّدوا به، وكذلك قال في عمرو بن الحارث: له مناكير، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن مخلد، وفي جماعة خرّج لهم في "الصحيح" بعض ما يتفرّدون به.
وأما تصرّف الشيخين، والأكثرين، فيدلّ على خلاف هذا، وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه، وليس له علّة، فليس بمنكر، وقد قال مسلم في أول كتابه: حكم أهل العلم إلى آخر قوله: فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس.
قال: فصرّح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم، ثم تفرّد عنهم بحديث قُبل ما تفرّد به، وحكاه عن أهل العلم. قال: وقال الشافعيّ: ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذّ أن يروي الثقة حديثًا يخالف الناس، وكذا قال أبو بكر الأثرم. وحكى أبو يعلى الخليليّ هذا القول عن الشافعيّ، وجماعة من أهل الحجاز، ثم قال: الذي عليه حفاظ الحديث: أن الشاذّ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذّ بذلك شيخ ثقة كان، أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة، فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقّف فيه، ولا يحتجّ به. وكذلك ذكر الحاكم أن الشاذّ هو الحديث ينفرد به ثقة من الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة، ولم يوقف له على علّة، ولكن كلام الخليليّ في تفرّد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفّاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ، فقد سمّاه الخليليّ فردًا، وذكر أن أفراد الحفّاظ المشهورين الثقات، أو أفراد إمام من الحفّاظ الأئمة صحيح، متّفقٌ عليه، ومثّله بحديث مالك في المغفر (1).
فتلخّص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطّان، والإمام أحمد،
(1) هو ما أخرجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، وعلى رأسه المغفر". لكن التمثيل بهذا الحديث للتفرد غير صحيح، فإن مالكًا لم ينفرد به، بل تابعه غيره، قال أبو بكر بن العربيّ رحمه الله تعالى: له ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، وقال الحافظ رحمه الله تعالى: قد جمعت طرقه، فوصلت إلى سبعة عشر. انظر "تدريب الراوي" 1/ 237.
والبرديجيّ، وغيرهم من المتقدّمين إلا بالمتابعة، وكذلك الشذوذ، كما حكاه الحاكم، وأما الشافعيّ، وغيره، فيرون أن ما يتفرّد به ثقة مقبول الرواية، ولم يُخالفه غيره فليس بشاذّ، وتصرّف الشيخين يدلّ على مثل هذا المعنى. وفرق الخليليّ بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وبين ما ينفرد به إمام، أو حافظ، فما انفرد به إمام، أو حافظ قُبل، واحتُجّ به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفّاظ الحديث. والله أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عبارة ابن رجب رحمه الله تعالى توهم أنه ما قاله الخليليّ غير ما قاله الشافعيّ وغيره، وليس كذلك، بل هو نفس ما قاله الشافعيّ وغيره، فتأمّل.
والحاصل أن الأرجح هو ما قاله الشافعيّ، والخليليّ، وغيرهما، وهو صريح كلام مسلم هنا، بل هو الذي يدلّ عليه تصرّف الشيخين، كما أشار إليه ابن رجب في كلامه المذكور آنفًا. والله تعالى أعلم.
وقال في "تدريب الراوي" ج: 1 ص: 238: ما حاصله: قال الحافظ أبو بكر البرديجي: المنكر هو الحديث الفرد الذي لا يعرف متنه عن غير راويه، وكذا أطلقه كثيرون من أهل الحديث، قال ابن الصلاح: والصواب فيه التفصيل الذي تقدم في الشاذ، قال: وعند هذا القول: المنكرُ قسمان على ما ذكرنا في الشاذ، فإنه بمعناه:
[مثال الأول]: وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات رواية مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، فخالف مالك غيره من الثقات في قوله "عمر بن عثمان" بضم العين، وذكر مسلم في "التمييز" أن كل من رواه من أصحاب الزهري قاله: بفتحها، وأن مالكا وَهِمَ في ذلك، قال العراقي: وفي هذا التمثيل نظر؛ لأن الحديث ليس بمنكر، ولم يطلق عليه أحد اسم النكارة فيما رأيت، وغايته أن يكون السند منكرا، أو شاذا؛ لمخالفة الثقات لمالك في ذلك، ولا يلزم من شذوذ السند ونكارته، وجود ذلك الوصف في المتن، وقد ذكر ابن الصلاح في نوع المعلل، أن العلة الواقعة في السند قد تقدح في المتن، وقد لا تقدح كما سيأتي، قال: فالمثال الصحيح لهذا القسم؛ ما رواه أصحاب السنن الأربعة من رواية همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه"،
(1) راجع "شرح العلل" 252 - 256. تحقيق صبحي السامرائيّ.
قال أبو داود بعد تخريجه: هذا حديث منكر، وإنما يُعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم، اتخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه"، قال: والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام، وقال النسائي بعد تخريجه: هذا حديث غير محفوظ، فهمام بن يحيى ثقة، احتج به أهل الصحيح، ولكنه خالف الناس، فروى عن ابن جريج هذا المتن بهذا السند، وإنما روى الناس عن ابن جريج الحديث الذي أشار إليه أبو داود، فلهذا حكم عليه بالنكارة.
[ومثال الثاني]: وهو الفرد الذي ليس في رواته من الثقة والإتقان ما يُحتَمل معه تفرده، ما رواه النسائي، وابن ماجه من رواية أبي زُكَير، يحيى بن محمد بن قيس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "كلوا الْبَلَحَ بالتمر، فإن ابن آدم إذا أكله غضب الشيطان
…
" الحديث، قال النسائي: هذا حديث منكر، تفرد به أبو زكير، وهو شيخ صالح، أخرج له مسلم في المتابعات، غير أنه لم يبلغ مبلغ من يُحتَمل تفرده، بل قد أطلق عليه الأئمة القول بالتضعيف، فقال ابن معين: ضعيف، وقال ابن حبان: لا يحتج به، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وأورد له ابن عدي أربعة أحاديث مناكير.
ومن أمثلة المنكر أيضًا ما رواه ابن أبي حاتم، من طريق حُبَيّب -بضم الحاء المهملة، وتشديد التحتية، بين موحدتين، أولاهما مفتوحة- ابن حَبِيب -بفتح المهملة، بوزن كريم- أخى حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحج، وصام، وقَرَى الضيف، دخل الجنة"، قال أبو حاتم: هو منكر؛ لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا، وهو المعروف. انتهى ما في "التدريب" بتصرّف 1/ 238 - 340.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق أن الأرجح الذي يدلّ عليه تصرّف الشيخين، وصرّح به الإمام الشافعيّ في كلامه السابق، وهو ظاهر صنيع الإمام مسلم هنا أن المنكر هو الذي تفرد به الضعيف الذي لا يُحتمل تفرّده، مثل أبي زكير، وحُبَيِّب بن حَبِيب المذكورين، وأما ما تفرّد به الحفّاظ الأثبات، فإنه صحيح، وإن لم يوجد لهم متابع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيهان]: الأول: قد عُلم مما تقدم، بل من تصريح ابن الصلاح أن الشاذ والمنكر بمعنى، وقال الحافظ: إن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة، ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة، أو صدوق، والمنكر راويه ضعيف، قال: وقد غفل من سَوّى بينهما. وقال في "النخبة": فإن خولف الراوي بأرجح يقال له: المحفوظ، ومقابله يقال له: الشاذ، وإن وقعت المخالفة مع الضعف، فالراجح يقال له: