الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتقنون، وإنما الضارّ هو الاختلاف الفاحش الذي يوجد في روايات الضعفاء، وهؤلاء هم الذين يقال لهم: رجال الصحيح، أي أن ما رووه من الأحاديث صحيح لذاته. والله تعالى أعلم.
الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(فَأَمَّا القِسْمُ الْأَوَّلُ) أي من أقسام الأخبار الثلاثة (فَإِنَّا نَتَوخَّى) أي نتحرّى، ونقصد، يقال: توخّيتُ الأمر: إذا تحرّيته في الطلب. قاله في "المصباح". وقال في "اللسان": وَخَى الأمرَ: قصده، قال الشاعر [من مشطور الرجز]:
قَالَتْ وَلَمْ تَقْصِدْ بِهِ وَلَمْ تَخِهْ
…
مَا بَالُ شَيْخٍ آضَ مِنْ تَشَيُّخِهْ
كَالْكُزَّرِ (1) الْمَرْبُوطِ بَيْنَ أَفْرُخِهْ
وتَوَخَّاهُ كوَخَاهُ، وقد وَخَيْتُ غَيري، وقد وَخَيْتُ وَخْيَكَ: أي قصَدتُ قَصْدَك، وتوخّيتُ الشيءَ أتوخّاه: إذا قصدت إليه، وتعمدَّتُ فعله، وتَحَرَّيتَ فيه. انتهى باختصار.
(أَنْ نُقَدِّمَ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ أَسْلَمُ مِنَ الْعُيُوبِ) جمع عيب، وهو النقص، والمراد به ما يَقدَح في صحة الأخبار، كالعلة ونحوها، أَي أسلم من وجود العيوب التي تقدح في صحّتها، وقوله:(مِنْ غَيْرِهَا) متعلّق بـ "أسلم" كما تعلق به ما قبله، فـ "من" الأولى للتعدية؛ لأن "سَلِم" يتعدّى بـ "من"، يقال: سلم من الآفة سَلامةً، من باب تعب، كما تفيده عبارة "القاموس"، و "من" الثانية بمعنى "على"، كما في قوله تعالى:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]: أي عليهم.
والمعنى: أنه يتحرّى في تقديم الأخبار التي هي سالمة من العيوب على غيرها مما لم يسلَم منها، كالقسم الثاني الذي سيأتي بيان المصنف له قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(وَأَنْقَى) أفعل تفضيل من النقاء بالنون، والقاف، وهو النظافة، يقال: نَقِي الشيء، من باب تَعِبَ نَقَاءً -بالفتح والمدّ- ونَقَاوةً -بالفتح-: نَظُفَ، فهو نَقِيٌّ على فَعِيلٍ، ويُعَدَّى بالهمزة والتضعيف. قاله الفيّوميّ. فقوله:"أنقى" تأكيد لمعنى "أسلم".
ثم بيّن رَحِمَهُ اللهَ تعالى ما تكون به الأخبار سالمة من العيوب، وذلك بكون رواتها عُدُولًا ضابطين تمام الضبط، فقال:
(مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا)"من" هنا بمعنى اللام، كما في قوله تعالى: {مِمَّا
(1)"الكُرَّزُ" كقُبَّر الصقر والبازي، وطائر أتى عليه حول انتهى "ق".
خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} الآية [نوح: 25]، وقول الشاعر:
وَذَلِكَ مِنْ خَبَرٍ جَاءَنِي
…
وَخُبِّرْتُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ
وقول فرزدق في عليّ بن الحسين رَحِمَهُ اللهُ تعالى [من الطويل]:
وَيُغْضِي حَيَاءً وَيَغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ
…
وَلَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ (1)
والجارّ والمجرور متعلّق بخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وذلك كائن لأجل كون ناقليها الخ.
وقال النوويّ في "شرحه": وأما قوله: و "أنقى" فهو بالنون والقاف، وهو معطوفٌ على قوله:"أسلم"، وهنا تمّ الكلام، ثم ابتدأ بيان كونها أسلم وأنقى، فقال:"من أن يكون ناقلوها أهل استقامة". والظاهر أن لفظة "من" هنا للتعليل، فقد قال الإمام أبو القاسم عبد الواحد بن عليّ بن عمر الأسديّ في كتابه "شرح اللُّمَع" في "باب المفعول له": اعلم أن الباء تقوم مقام اللام، قال الله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وكذلك "من"، قال الله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية [المائدة: 32]، وقال أبو البقاء في قوله تعالى:{وَتَثبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية: [البقرة: 265]. يجوز أن يكون للتعليل. انتهى كلام النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى (2).
وقوله: "ناقلوها" اسم "يكون" وهو جمع مذكّر سالم لاسم فاعل من نَقَلَ يَنقُلُ، من باب نصر، حُذفت منه النون؛ لإضافته، كما قال في "الخلاصة":
نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينًا
…
مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَطُورِ سِينَا
وقوله: (أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ) بالنصب خبر "يكون"، وهو مصدر استقام الأمرُ بمعنى اعتدل، وثبت، أي أهل اعتدال وثبات (فِي الْحَدِيثِ) متعلّقٌ بـ "استقامة" على حذف مضاف: أي في رواية الحديث، وأراد باستقامتهم في الحديث عدالتهم في الرواية.
والمعنى: أنه إنما كانت الأخبار أسلم، وأنقى من العيوب؛ لأجل كون رواتها عُدُولًا في الرواية.
وهذا هو أحد معنى العدالة التي هي أحد شرطي قبول رواية الراوي.
(1) راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاري 1/ 320 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 50.
وعدل الرواية أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا، سليمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
وانما قيّد بقوله: "في الحديث"؛ لأن العدالة في الشهادة تخالفها في بعض الوجوه، كاشتراط الحرّيّة، والذكورة، على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- عند قول المصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى-:"والخبر، وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه الخ"، فأراد أن يُبيّن أن المراد به هنا عدالة الرواية. والله تعالى أعلم.
(وَإِتْقَانٍ) بالجرّ عطفًا على "استقامة"، وهو بكسر الهمزة، مصدر أتقن رباعيّا، يقال: أتقن الشيء: إذا أحكمه، والإتقان: الإحكام للأشياء، وفي التنزيل العزيز:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} الآية، ورجلٌ تِقْنٌ -بكسر، فسكون- وتَقِنٌ -بفتح، فكسر: مُتقنٌ للأشياء، حاذقٌ، ورجلٌ تِقْنٌ: حاضر المنطق والجواب، وتِقْنٌ اسم رجل كان جيّد الرمي، يُضرَب به المثلُ، ولم يكن يَسْقُط له سهمٌ، قال الراجز:
لأَكْلَةٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنِ
…
وَشَرْبَتَانِ مِنْ عَكِيّ (1) الضَّأْنِ
أَلْيَنُ مَسًّا فِي حَوَيَا الْبَطْنِ
…
مِنْ يَثْرِبِيَّاتٍ (2) قِذَاذٍ خُشْنِ
يَرْمِي بِهَا أَرْمَى مِنِ ابْنِ تِقْنِ
قال أبو منصور: الأصل في التِّقْنِ ابن تِقْنٍ هذا، ثم قيل لكل حاذق بالأشياء تِقْنٌ، ومنه يقال: أتقن فلانٌ عمله. أفاده في "لسان العرب"(3).
وقوله: (لِمَا نَقَلُوا) متعلّقٌ بـ "إتقان": أي لكونهم أهل إحكام لمرويّاتهم.
وأراد المصنّف رَحِمَهُ اللهَ تعالى بالإتقان معنى الضبط الذي هو الشرط الثاني في قبول خبر الراوي.
وقد فسّر غيره الضبط بأن يكون متيقّظًا، غير غافل، حافظًا إن حدّث من حفظه، ضابطًا لكتابه من التبديل والتغيير، إن حدّث منه، عالمًا بما يُحيل المعنى إن روى بالمعنى.
وإلى هذين الشرطين وتفسيرهما أشار السيوطيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:
(1)"الْعَكِيُّ" كغنيّ: اللبن المحض، ووَطْبُهُ. انتهى "ق".
(2)
"اليثربيّات": أي السهام التي تُعمل بيثريب، وهو اسم للمدينة قبل الإسلام. و"القذاذ" بالكسر جمع قُذّة بالضمّ: رِيشُ السهم.
(3)
راجع "لسان العرب" في مادّة "تقن" 13/ 73.
لِنَاقِلِ الأَخْبَارِ شَرْطَانِ هُمَا
…
عَدْلٌ وَضَبْطٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا
مُكَلَّفًا لم يَرْتَكِبْ فِسْقًا وَلَا
…
خَرْمَ مُرُوءَةٍ وَلَا مُغَفَّلَا
يَحْفَظُ إِنْ يُمْلِ كِتَابًا يَضْبِطُ
…
إِن يَرْوِ عَنْهُ عَالِمًا مَا يُسْقِطُ
إِنْ يَرْوِ بِالْمَعْنَى وَضْبْطُهُ عُرِفْ
…
إِنْ غَالِبًا وَافَقَ مَنْ بِهِ وُصِفْ
ثم بيّن رَحِمَهُ اللهُ تعالى المراد بالإتقان الذي هو الضبط، فقال:
(لم يُوجَدْ فِي رِوَايَتِهِم) ببناء الفعل للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله:(اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ) يعني أن معنى إتقانهم أن لا يوجد فيما رووه من الأحاديث اختلاف كثير، ووصف الاختلاف بالشدّة إشارةً إلى أن الاختلاف القليل لا يؤثّر في صحة مروياتهم؛ لأن ذلك مما لا يخلو عنه الثقات الضابطون؛ لأن النسيان من طبيعة البشر.
وحاصل ما أشار إليه رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن روايات هؤلاء المتقنين إذا قوبلت بروايات غيرهم ممن كان موصوفًا بتمام الضبط لا تُخالفها مخالفةً كثيرةً، وأما المخالفة النادرة فلا تضرّ؛ إذ لا يخلو منها أحدٌ حتى الحفّاظ المتقنون، وإن وصلوا الغاية في الإتقان، ولذا يقال: من ادّعى أنه لا يخطىء فهو كذّاب. ويُحكَى عن ابن معين رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه قال: لست أعجب ممن يُحدّث، فَيُخطىء، وإنما أعجب ممن يحدّث، فيُصيب.
وقال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وأما قوله: "لم يُوجد في رواياتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش"، فتصريح منه بما قاله الأئمة من أهل الحديث، والفقه، والأصول: إن ضبط الراوي يُعرَف بأن تكون روايته غالبًا كما روى الثقات، لا تُخالفهم إلا نادرًا، فإن كانت مخالفته نادرةً لم يُخِلَّ ذلك بضبطه، بل يُحتجّ به؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن كثرت مخالفته اختلّ ضبطه، ولم يُحتجّ برواياته، وكذلك التخليط في روايته، واضطرابها إن ندر لم يضرّ، وإن كثُرت رُدّت روايته. انتهى (1).
(وَلَا تَخْلِيطٌ) مصدر خلّط، والتشديد للمبالغة، يقال: خلطتُ الشيءَ بغيره، من باب ضرب: ضممتُهُ إليه، فاختلط هو، وقد يمكن التمييز بعد ذلك، كما في خلط الحيوانات، وقد لا يمكن، كخلط المائعات، فيكون مزجًا. قال المرزوقيّ: أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضِها في بعض، وقد تُوُسّع فيه حتى قيل: رجلٌ خليط، إذا اختلط بالناس كثيرًا، والجمع الخلطاء، مثل شريف وشرفاء. قاله الفيّوميّ. هذا من حيث اللغة.
وأما من حيث الاصطلاحُ: فهو فسادُ العقل، وعدمُ انتظام الأقوال، والأفعال،
(1)"شرح النوويّ" 1/ 50.
إما بخَرَف، أو ضرَر، أو مرض، أو عَرَض، من موت ابن، وسَرِقة مال، كالمسعوديّ، أو ذهاب كُتُب، كابن لَهيعة، أو احتراقها، كابن الْمُلقِّن. قاله الحافظ السخاويّ (1).
والفرق بينه، وبين الاختلاف الشديد، أن المراد بالاختلاف هو اختلافه مع الرواة الآخرين من الثقات، وأما التخليط، فهو تناقضه في مرويّات نفسه، بأن يروي الحديث الواحد تارة بأسلوب، وتارةً بأسلوب آخر، من الزيادة والنقص، ونحوهما. والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إذا خَلَّطَ الثقة؛ لاختلال ضبطه، بخَرَف، أو هَرَمٍ، أو لذهاب بصره، أو نحو ذلك، قُبل حديثُ مَن أخذ عنه قبل الاختلاط، ولا يُقبَل حديثُ مَن أخذ بعد الاختلاط، أو شككنا فى وقت أخذه انتهى (2).
وإلى هذه المسألة أشار الحافظ السيوطيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "ألفية المصطلح" بقوله:
وَالْحَازِمي أَلَّفَ فِيمَنْ خَلَّطًا
…
مِنَ الثِّقَاتِ آخِرًا فَأُسْقِطَا
مَا حَدَّثُوا فِي الاخْتِلَاطِ أَوْ يُشَكّ
…
وَبِاعْتِبَارِ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ يُفَكّ
كَابْنِيْ أَبِي عَرُوبَةٍ والْسَّائِبِ
…
وَذَكَرُوا رَبِيعَةً لَكِنْ أُبِي
[تنبيه]: الأحاديث المرويّة عن الْمُخَلِّطِين في "الصحيحين" إذا أورداها احتجاجًا بها، بأن كانت في الأصول، فهي مما عُلم أنها أخذت قبل الاختلاط، وكذا حكم كلّ من التزم الصحّة في كتابه، كما بيّن ذلك ابن حبّان في أول "صحيحه". والله تعالى أعلم.
ووصف التخليط بقوله (فاحشٌ) إشارةً إلى أنه إذا لم يفحش التخليط لا يؤثّر في رواياته.
(كما قد عُثِر) بضم العين المهملة، وكسر الثاء المثلّثة، مبنيًّا للمفعول: أي اطُّلِع، يقال: عَثَرْتُ على الأمر عَثْرًا من باب قتل، وعُثًورًا: أي اطلعت عليه. وفي التنزيل العزيز: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} الآية [المائدة: 107]: أي فإن اطُّلِع على أنهما قد خانا.
وأعثرت غيري: أي أطلعته، قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} الآية [الكهف: 21]: أي أطلعنا عليهم غيرهم، فحذف المفعول. أفاده ابن منظور (3).
قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وقوله "كما قد عُثر فيه" كذا في الأصل، وهو
(1) راجع "فتح المغيث" 4/ 271.
(2)
"مقدمة شرح صحيح مسلم" 1/ 34.
(3)
راجع "لسان العرب".