الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنهم مثلهم في صدقهم، وأمانتهم، وإنما فعل ذلك لأجل أن يَتَّضِحَ لمن لا يعرف، أو لا يُحسِن هذه الصناعة طريقُ الوصول إلى معرفة المراتب، حتى لا يلتبس عليه، ويختلط، فيُقَصِّر في العالي المنزلة، فيضعه في أدنى من درجته، ولا يرفع النازل المنزلة، فيضعه فوق منزلته، فإنه إذا عَرَف هذا العدم، ودرس مراتب الرجال، وتفاوتهم في الحفظ والإتقان تيسر له إنزال كل في منزلته التي يستحقها، فيكون بذلك قد أعطى كل ذي حق حقه، كما أُمِر بذلك فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث الذي سنتكلم عن درجته قريبا، إن شاء الله تعالى، وأيضًا قد بَيَّن الله سبحانه وتعالى تفاوت أهل العلم في درجات العلم، حيث قال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وليس هذا البيان مجرد إخبار فقط، بل المقصود أن يُنَزّل كل عالم في منزلته، ويُقَدَّم في مرتبة، ويُراعى لكلّ ذي حقٍّ حقه، ويُعطَى مستحقه.
قال: فعلى هذا الطريق الذي بينه يؤلّف الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سأله الطالب أن يؤلفها له. والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
قوله: (وإنما مثلنا هؤلاء) الإشارة إلى منصور، والأعمش، وإسماعيل، ومقابلهم: عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وإلى ابن عون، وأيوب، ومقابلهما عوف، وأشعث، أي إنما ذكرنا هؤلاء أمثلة (في التسمية) أي التنصيص بتعيين أسمائهم (ليكون تمثيلهم سمة) -بكسر السين المهملة، وتخفيف الميم-: أي علامة. قال الفيومي: وسمت الشيء وسما، من باب وعد، والاسم: السمة، وهي العلامة، ومنه الموسم؛ لأنه معلم يجتمع إليه، ثم جعل الوسم اسما، وجمع على وُسُوم، مثل فلس وفلوس، وجمع السمة سمات، مثل عدة وعدات. انتهى (1).
(يَصدُر عن فهمها) -بضم الدال المهملة، يقال: صدر عن الموضع صدرا، من باب قتل: رجع قال الشاعر [من البسيط]:
وَلَيْلَةٍ قَدْ جَعَلْتُ الصُّبْحَ مَوْعِدَهَا
…
صدْرَ الْمَطِيَّةِ حَتَّى تَعْرِفَ السَّدَفَا
فـ "صدرَ" مصدر، والاسم "الصدر" بفتحتين. قاله الفيومي.
وقال النووي رحمه الله تعالى: "يصدُر": أي يرجع، يقال: صدر عن الماء، والبلاد، والحج: إذا انصرف عنه بعد قضاء وطره، فمعنى "يصدر عن فهمها": ينصرف عنها بعد فهمها، وقضاء حاجته منها. انتهى.
(1)"المصباح المنير" 2/ 660.
وقوله (من) بفتح الميم، اسم موصول في محل رفع فاعل "يصدر"(غَبي عليه) - بفتح الغين المعجمة، وكسر الباء، من باب تعب: أي خفي عليه. قال في "اللسان": غبي الشيء، وغبي عنه، كرضي غِبًا، وغَبَاوَةً: لم يفطن له، قال الشاعر [من الرجز]:
فِي بَلْدَةٍ يَغْبَى بِهَا الْخِرِّيتُ
أي يخفى. وقال ابن الرقاع [من الطويل]:
أَلَا رُبَّ لَهْوٍ آنِسٍ وَلَذَاذَةٍ
…
مِنَ الْعَيْشِ يُغْبِيهِ الْخِبَاءُ الْمُسَتَّرُ
وغَبِيَ الأمر عني: خَفِي، فلم أعرفه. انتهى (1).
وذكر السنوسي في "شرحه": أنه يروى "عيي" بالعين المهملة، وياءين مثناتين، ويروى "عمي"، "بالعين والميم". انتهى (2).
وقوله (طريق أهل العلم) بالرفع فاعل "غبي"(في ترتيب أهله فيه) الضميران للعلم: أي ترتيب أهل العلم في مراتب العلم. وقوله "في ترتيب" متعلق بصفة مقدرة لـ "طريق أهل العلم"، أي الكائنة في ترتيب أهله، أو حال منه. وقوله:"فيه" متعلق بـ "ترتيب".
(فلا يُقَصّر بالرجل) الفاء فصيحية، والفعل مرفوع: أي فإذا علم طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه، فإنه لا يقتصر بالرجل العالي القدر الخ. يقال: قَصَرتُ عن الشيء قصورا من باب قعد: إذا عجزتَ عنه، ولم تبلغه، ومنه قَصرَ السهم عن الهدف قصورا: إذا لم يبلغه. أفاده في "الصحاح".
فقوله: "يقصّر" بتشديد الصاد المهملة، من التقصير، مبنيا للمفعول، والنائب عن الفاعل هو الجارّ والمجرور بعده، ويتحمل أن يكون "يُقَصِّرُ" مبنيا للفاعل، والفاعل ضمير "مَنْ" في قوله:"من غَبِي عليه".
وفي نسخة "فلا نقصر" بنون المتكلم مبنيًا للفاعل، وكذا قوله:"ولا نرفع" وعليه فيكون ما بعده مفعولًا.
وقوله: (العالي القدر) صفة لـ "الرجل"، وهو من إضافة اسم الصفة إلى مرفوعها. وقوله:(عن درجته) متعلق بـ "يقصر".
والمعنى: لئلا يُبْخَسَ، ويُحَطَّ الرجلُ العالي الدرجة عن درجته العالية إلى منزلته السافلة جهلًا.
(ولا يرفع) بالبناء للمفعول، أو للفاعل، كما سبق آنفًا (مُتَّضِع القدر في العلم)
(1)"لسان العرب" 15/ 114.
(2)
"مكمل إكمال الإكمال" 1/ 11.
اسم فاعل من اتّضَعَ افتعال من الضَّعَة، يقال: وُضِع في حسبه مبنيًا للمفعول، فهو وَضِيعٌ: أي ساقط، لا قدر له، والاسم الضَّعَةُ، بفتح الضاد، وكسرها، ومنه قيل: وُضِعَ في تجارته وَضِيعَةً: إذا خَسِرَ. أفاده الفيومي (1).
وقال المجد: وَضَعَه يَضَعُه بفتح ضادهما وَضْعًا، ومَوْضِعًا، ويفتح ضادهما، وموضوعًا: حَطَّه، ووَضَعَ عنه: حَطَّ من قدره. وَوُضِعَ في تجارته، يعني: خَسِرَ. انتهى باختصار (2).
قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد من عبارة المجد أن وضع بمعنى حط من قدره مبنيٌّ للفاعل. والله تعالى أعلم.
(فوق منزلته) متعلق بـ "يرفع"(ويعطى) بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله:(كلُّ ذي) أي صاحب (حق فيه) أي في العلم متعلّق بـ "يُعطى". وقوله: (حقَّه) بالنصب على أنه المفعول الثاني لـ "يُعطى": أي ليُعطَى كلُّ مستحقّ ما يستحقّة من المنزلة العلمية (وينزل) بالبناء للمفعول، أيضًا، وتشديد الزاي، من التنزيل، ويحتمل تخفيفها، من الإنزال (منزلته) بفتح الميم، وكسر الزاي، أو بضم الميم، وفتح النون، وتشديد الزاي بصيغة اسم المفعول المضعّف: أي مكانته التي استحقها. ويحتمل أن يبني كل من "يعطي"، و "ينزل" للفاعل، على التوجيه الذي ذكرناه قبله، أي يعطي من خفي عليه طريق أهل العلم بعد أن يتضح له الطريق كل ذي حق حقه، وينزله منزلته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر رحمه اللهُ تعالى دليلا على ما ذكره من وجوب مراعاة تفاوت الرجال، وتنزيلهم منازلهم التي تليق بهم فقال:
(وقد ذُكِرَ) بالبناء للمفعول (عن عائشة رضي الله عنها) هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أم المؤمنين التيمية، تكنى أم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير، وأمها أم رُومان بنت عامر، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة، ففيها خلاف شهير. قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها، قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله تعالى، المبرأة من فوق سيع سماوات. وقال أبو الضحى، عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمرٌ قط، فسألنا عنه عائشة رضي الله عنها إلا وجدنا عندها منه علمًا. ويُروَى عن قبيصة بن ذؤيب، قال: كان عروة
(1)"المصباح" 2/ 662 - 663.
(2)
"القاموس" ص 694.
يغلبنا بدخوله على عائشة رضي الله عنها، وكانت أعلم الناس يسألها الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونها عن الفرائض. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا بطب، وشعر من عائشة رضي الله عنها. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة. وقال الزهري: لو جُمع علم عائشة رضي الله عنها إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة رضي الله عنها أفضل. وقال أبو عثمان النهدي، عن عمرو بن العاص: قلت لرسول صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة رضي الله عنها"، قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها". وقال أبو موسى الأشعريُّ وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"فضل عائشة رضي الله عنها على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام". متّفقٌ عليه، ومناقبها، وفضائلها كثيرة جدًّا. وفي الصحيح عنها أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت ست سنين، ودخل بي وأنا بنت تسع، وقُبض وأنا بنت ثماني عشرة سنة. توفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة (58) عند الأكثر. وقال ابن عيينة، عن هشام بن عروة: ماتت سنة (57) وصححه في "التقريب"، ودفنت بالبقيع. أخرج لها الجماعة، وقد ذكر ابن الجوزي في "المجتبى" ص 92 أنها روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2210) حديثًا، أخرج لها منها في "الصحيحين"(297) حديثًا، المتفق عليه منها (174) حديثًا، وانفرد البخاري (54)، ومسلم (96) حديثًا (1). والله تعالى أعلم.
(أنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس) بضم أوله، وتشديد الزاي، من التنزيل، ويحتمل تخفيفها، من الإنزال (منازلهم) أي في مراتبهم المتفاوتة.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى الحديث بيّن في إيتاء كل ذي حق حقه، وتبليغه منزلته في كل باب، كما احتج به مسلم في تطبيق الرواة، وتعريف مراتبهم، ومزية بعضهم على بعض، إلا ما ساوى الله تعالى بينهم فيه، من الحدود، والحقوق. انتهى (2).
وذكر الحافظ السخاويّ رحمه اللهُ تعالى في كتابه "الجواهر والدّرر": ما نصُّه: المراد بالحديث الحضّ على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في الإكرام في المجالس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم
…
"، فيُقدِّم الإمام في القرب منه الأفضل، فالأفضل، من البالغين،
(1) والذي أثبته في برنامج الحديث (صخر) أن لها في "صحيح مسلم"(630) حديثًا. والظاهر أن هذا الاختلاف ناشىء عن التكرار. والله تعالى أعلم.
(2)
"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 1/ 99.