الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعقلاء إكرامًا لهم، ويُعامل كلّ أحد بما يُلائم منصبه في الدين والعلم والشرف والمرتبة، فإن الله أعطى كلَّ ذي حقّ حقّه، وكذا في القيام والمخاطبة والمكاتبة، وغير ذلك من الحقوق. نعم سوّى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها، لكن في التعازير يُعزّر كلُّ أحد بما يليق به. وبهذا الحديث تمسّك المتكلّمون في التعديل والتجريح لرواة الأخبار؛ ليتميّز صالحهم من طالحهم.
قال: وقال أبو أحمد العسكريّ في "الأمثال": هذا مما أدّب به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته في إيفاء الناس حقوقهم، من تعظيم العلماء، وإكرام ذي الشيبة، وإجلال الكبير، وما أشبهه. انتهى ما ذكره السخاويّ رحِمَهُ اللهُ تعالى (1).
(مع ما نطق به القرآن) الكريم (من قول الله تعالى)"من" بيان لـ "ما"{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] عن ابن عباس رضي الله عنهما ما قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا قال عكرمة، وقال قتادة: وفوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بدئ، وتعلمت العلماء، وإليه يعود. وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى: ليس عالم، إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل (2).
(فَعَلَى نحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ) أراد بنحو ما ذكره ما سبق له من أنه يقدم الأخبار التي رواتها أهل استقامة وإتقان، لا يوجد في رواياتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، فإذا انتهى من هذا الصنف أتبعه أخبار أهل الصدق والستر الذين ليسوا في الحفظ والإتقان مثل السابقين (نُؤَلِّفُ) بتشديد اللام، من التأليف: أي نجمع (ما) موصولة مفعول "نؤلّف"(سَأَلْتَ مِنَ الْأَخْبَارِ) بيان لـ "ما": أي نجمع الأخبار التي سألت أن نجمعها لك (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) متعلق بصفة لـ "الأخبار"، أي المروية عنه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألة: في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها المذكور:
قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قوله: "وقد ذُكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت الخ": هذا بالنظر إلى أن لفظه ليس جازما لا يقتضي حكمه بصحّته، وبالنظر إلى أنه احتجّ به، وأورده إيراد الأصول، لا إيراد الشواهد يقتضي حكمه بصحته، ومع ذلك فقد حكم الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه "كتاب معرفة علوم الحديث" بصحته، وأخرجه أبو داود في "سننه" بإسناده منفردًا به، وذكر أن الراوي له عن عائشة رضي الله عنها ميمون ابن شبيب، ولم يُدركها. قال الشيخ ابن الصلاح رحمه اللهُ تعالى، وفيما قاله أبو داود نظر،
(1)"الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن ححر" 1/ 60.
(2)
راجع تفسير ابن كثير 2/ 503.
فإنه كوفيّ متقدّم، قد أدرك المغيرة بن شعبة، ومات المغيرة قبل عائشة رضي الله عنها، وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون أنه قال: لم ألق عائشة رضي الله عنها، استقام لأبي داود الجزم بعدم إداركه، وهيهات ذلك.
قال النوويّ: وحديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البزّار في "مسنده"، وقال: هذا الحديث لا يُعلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. هذا، وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها من غير هذا الوجه، موقوفًا. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ. (1).
وقال الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى في "المقاصد الحسنة": ما حاصله: هذا الحديث وصله أبو نعيم في "المستخرج" وغيره، كأبي داود في "سننه"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والبزّار، وأبي يعلى في "مسنديهما"، والبيهقيّ في "الأدب"، والعسكريّ في "الأمثال"، وغيرهم، كلهم من طريق ميمون بن أبي شبيب، قال: "جاء سائل إلى عائشة رضي الله عنها، فأمرت له بكِسرة، وجاء رجل ذو هيئة، فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قالت: أُمرنا
…
" وذكره. ومنهم من اختصر هذا، ولفظ أبي نُعيم في "الحلية": "أن عائشة رضي الله عنها كانت في سفر، فأمرت لناس من قريش بغداء، فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة، فقالت: ادعوه، فنزل، فأكل، ومضى، وجاء سائل، فأمرت له بكسر، فقالت: إن هذا الغنيّ لم يجمُل بنا إلا ما صنعناه به، وإن هذا السائل، سأل، فأمرت له بما يترضاه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم" .. وذكره. وقد صحح هذا الحديث الحاكم وغيره، وتُعُقّب بالانقطاع، وبالاختلاف على راويه في رفعه ووقفه.
قال: وورد عن غير عائشة رضي الله عنها من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، كحديث معاذ رضي الله عنه عند الخرائطيّ في "المكارم"، مرفوعًا بلفظ:"أنزل الناس منالهم من الخير والشرّ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة"، وحديث جابر رضي الله عنه، وحديثه مرفوع في جزء الغسوليّ بلفظ:"جالسوا الناس على قدر أحسابهم، وخالطوا الناس على قدر أديانهم، وأنزل الناس على قدر منالهم، وداروا الناس بعقولكم"، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحديثه موقوف في "أنس العاقل، وتذكر الغافل" لأبي النرسيّ بلفظ: "من أنزل الناس منازلهم رفع المؤنة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره اجترّ عداوته".
ثم قال: بالجملة فحديث عائشة رضي الله عنها حسنٌ. انتهى "المقاصد الحسنة" 92 - 93 ببعض تصرّف.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا ضعيف؛
(1)"مقدّمة شرح صحيح مسلم" 1/ 19.