الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَخْبَارِ) بالجرّ عطفًا على "وضع الأخبار"، وهو من عطف المترادفين؛ لأن التوليد بمعنى الوضع، يقال: ولّد ناقته توليدًا: إذا تولّى ولادتها، فكأن الواضع تولّى توليد الخبر ممن افتراه عليه، كما يتولّى صاحب الناقة توليدها. وقال النوويّ رحمه الله تعالى: معنى "توليد الأخبار": إنشاؤها، وزيادتها. انتهى. و "الأخبار" -بفتح الهمزة-: جمع خبر، وتقدّم أنه بمعنى الحديث، وقيل: أعم منه، وقيل: مباين له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بكلام المصنّف رحمه الله تعالى السابق:
المسألة الأولى: في معنى الوضع لغةً، واصطلاحًا
.
أما معناه لغةً: فالمشهور أن الوضع هو الافتراء، والكذب، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وَضَعَ الرجل الحديث: افتراه، وكذبه، فالحديث موضوع. انتهى. وقال ابن عراق رحمهُ الله تعالى: الموضوع لغةً اسم مفعول من وضع الشيء يضعه بالفتح وَضْعًا: حطّه، وأسقطه. وقال الحافظ ابن دحية: الموضوع: الْمُلاصَق، وَضَع فلان على فلان كذا: ألصقه به، واصطلاحًا: هو الحديث المختلق المصنوع، مأخوذ من المعنى الأول؛ لأن رتبته أن يكون مطّرحًا، مُلقًى، لا يستحقّ الرفع أصلًا، أو من المعنى الثاني؛ لأنه مُلصق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشر أنواع الضعيف. انتهى "تنزيه الشريعة" 1/ 5.
وقال في "التدريب" 1/ 274: الموضوع هو الكذب المختلق المصنوع، وهو شر أنواع الضعيف، وأقبحه. انتهى.
وإلى هذا أشرت في منظومتي "تذكرة الطالبين في بيان الوضع، وأصناف الوضّاعين"، فقلت:
هُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ لَدَى مَنْ ضَبَطَهْ
…
مِنْ وَضَعَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى أَسْقَطَهْ
وَقِيلَ أَوْ تَرَكَهُ أَوْ أَلْصَقَهْ
…
أَوْ وَضَعَ الْكَلَامَ حَيْثُ اخْتَلَقَهْ
وَفِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ الَّذِي نُسِبْ
…
إِلَى الرَّسُولِ مُطْلَقًا بِئْسَ الْكَذِبْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في أمارات الموضوع (1)
.
اعلم: أن العلماء ذكروا أن للموضوع أمارات، وعلامات، يُعرف بها أنه موضوع:
(1) وأما حكم رواية الموضوع فسيأتي في المسائل الآتية في شرح حديث: "من كذب عليّ متعمّدًا
…
" الحديث -إن شاء الله تعالى.
فمنها: إقرار واضعه بوضعه، كحديث فضائل القرآن، اعترف بوضعه ميسرة بن عبد ربّه، فيُرد حديثه ذلك، وسائر مروياته، وليس هذا قبولا لقوله مع اعترافه بالمفسق، وإنما هو مؤاخذة له بموجب إقراره، كما يؤاخذ الشخص باعترافه بالزنى، والقتل، ونحوهما، واستُفيد من جعلنا هذا أمارة أنا لا نقطع على حديثه ذلك بالوضع؛ لاحتمال كذبه في إقراره، نعم إذا انضمّ إلى إقراره قرائن تقتضي صدقه فيه قطعنا به، ولا سيما إذا كان إخباره لنا بذلك بعد توبته.
ومنها: ما ينزّل منزلة إقراره، ومثاله -كما قال العلامة الزركشيّ، والحافظ العراقيّ- أن يُعيّن المتفرّد بالحديث تاريخ مولده، أو سماعه بما لا يمكن معه الأخذ عن شيخه، أو يقول: إنه سمع في مكان يُعلَم أن الشيخ لم يدخله، وقال الحافظ في "نكته" على ابن الصلاح: الأولى أن يمثّل لهذه الأمارة بما رواه البيهقيّ في "المدخل" بسنده الصحيح، أنهم اختلفوا بحضور أحمد بن عبد الله الجويباريّ في سماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه، فروى لهم بسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: سمع الحسن من أبي هريرة. قال ابن عرّاق: إنما عُرف كذب هذا الحديث بالتاريخ، فلو قال الزركشيّ، والعراقيّ في الصورة الأولى، كأن يكذّبه التاريخ لشمل هذا المثال. والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن عراق فيه نظر؛ فإن التاريخ في سماع الحسن من أبي هريرة، لا يكذّب؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه مات سنة (59 هـ) وولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، فهما عاشا معا وقتا طويلًا، فالتاريخ لا يكذب السماع، بل صحّ أنه قال في حديث المختلعات: لم أسمع هذا الحديث إلا من أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه النسائيّ عن إسحاق بن راهويه، عن المغيرة بن سلمة، عن وُهيب، عن أيوب، قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 1/ 391: وهذا إسناد لا مطعن من أحد في رواته، وهو يؤيّد أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه في الجملة، وقصّته في هذا شبيهة بقصّته في سمرة سواءً. انتهى. وقد ذكرت تمام البحث في هذا في شرح حديث المختلعات المذكور من شرح النسائيّ، ورجّحت القول بسماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه، فراجعه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
ومنها: أن يصرّح بتكذيب راويه جمع كثير، يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، أو تقليد بعضهم بعضًا.
ومنها: قرينة في حال الراوي، كقصة غياث بن إبراهيم مع المهديّ، كما سبق بيانه.
ومنها: قرينة في المرويّ، كمخالفته لمقتضى العقل بحيث لا يقبل التأويل،
ويُلحق به ما يدفعه الحسّ، والمشاهدة، أو العادة. وكمنافاته لدلالة الكتاب القطعيّة، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعيّ، قال الزركشيّ: هذا إن لم يحتمل أن يكون سقط من المرويّ على بعض رواته ما تزول به المنافاة، كحديث:"لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفسٌ منفوسة"، فإنه سقط على راويه لفظة:"منكم"، قال الحافظ: وتقييد السنة بالمتواترة احتراز عن غير المتواترة فقد أخطأ من حكم بالوضع بمجرّد مخالفة السنة مطلقًا، وقد أكثر من ذلك الجوزقاني في "كتاب الأباطيل"، وهذا إنما يتأتى حيث لا يمكن الجمع بوجه من الوجوه، أما مع إمكان الجمع فلا. وقال الشيخ ابن دقيق العيد مشيرًا إلى هذه الأمارة: وكثيرًا ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي، وألفاظ الحديث.
وحاصله يرجع إلى أنه حصلت لهم لكثرة مزاولة (1) ألفاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانيّة، وملكة قويّة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبوّة، وما لا يجوز، كما سئل بعضهم، كيف تعرف أن الشيخ كذّاب؟ قال: إذا روى لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها، علمت أنه كذاب. وقد استأنس بعضهم لذلك بخبر أبي حُميد، أو أبي أُسيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إذا سمعتم الحديث، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عنّي، تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه"، رواه الإمام أحمد، والبزّار في "مسنديهما"، وسنده صحيح، كما قاله القرطبيّ، وغيره (2). وبقوله صلى الله عليه وسلم:"ما حُدّثتم عني مما تنكرونه، فلا تأخذوا به، فإني لا أقول المنكر، ولست من أهله". رواه ابن الجوزيّ. وعن الربيع بن خُثيم التابعي الجليل أنه قال: إن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره.
ومنها: أن يكون الحديث خبرًا عن أمر جسيم، تتوفّر الدواعي على نقله بحضرة الجمّ الغفير، ثم لا ينقله إلا واحد منهم، ومثاله سقوط الخطيب عن المنبر يوم الجمعة أثناء خطبته.
ومنها: أن يكون فيما يلزم المكلّفين علمه، وقطع العذر فيه، فينفرد به واحد.
ومنها: ركاكة لفظه ومعناه، قال الحافظ رحمهُ الله تعالى: والمدار على ركة المعنى، فحيث وُجدت دلّت على الوضع، سواء انضمّ إليها ركّة اللفظ، أم لا، فإن هذا الدين
(1) المراد بالمزاولة هنا أنهم حدّقوا النظر في الأحاديث النبويّة بتتبّع رواياتها، وألفاظها، وبضم معانيها، واستنباط أحكامها.
(2)
حسنه الألباني، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 166 رقم 612.
كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة، فبينها وبين مقاصد الدين مباينة، وأما ركة اللفظ وحدها، فلا تدلّ على ذلك؛ لاحتمال أن يكون الراوي رواه بالمعنى، فعبّر بألفاظ غير فصيحة، من غير أن يُخلّ بالمعنى. نعم إن صرّح الراوي بأن هذا لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم دلّت ركّة اللفظ حينئذ على الوضع. انتهى.
قال البقاعيّ رحمه الله تعالى: ومما يرجع إلى ركّة المعنى الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو بالوعد العظيم على الفعل اليسير، وهذا كثير في حديث القُصّاص. قال ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى: وإني لأستحيي من وضع أقوام، وضعوا: من صلى كذا، فله سبعون دارًا، في كل دار سبعون ألف بيت، في كل بيت سبعون ألف سرير، على كل سرير سبعون ألف جارية، وإن كانت القدرة لا تعجز، ولكن هذا تخليط قبيح. وكذلك يقولون: من صام يوما، كان كأجر ألف حاجّ، وألف معتمر، وكان له ثواب أيوب، وهذا يفسد مقادير موازين الأعمال.
ومنها: ما ذكره فخر الدين الرازيّ رحمه اللهُ تعالى أن يُروى الخبر في زمن قد استُقْرِئت فيه الأخبار، ودُونت، فيفتّش عنه، فلا يوجد في صدور الرجال، ولا في بطون الكتب، فأما في عصر الصحابة، وما يقرب منه حين لم تكن الأخبار استُقرئت، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما ليس عند غيره.
قال الحافظ العلائيّ رحمه اللهُ تعالى: وهذا إنما يقوم به -أي بالتفتيش عنه- الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث، أو معظمه، كالإمام أحمد، وعلي بن المدينيّ، ويحيى بن معين، ومن بعدهم، كالبخاريّ، وأبي حاتم، وأبي زرعة، ومن دونهم، كالنسائيّ، ثم الدارقطنيّ؛ لأن المآخذ التي يُحكم بها غالبًا على الحديث بأنه موضوع إنما هي جمع الطرق، والاطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية، بحيث يُعرف بذلك ما هو من حديث الرواة، مما ليس من حديثهم، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع هذا مما يأباه تصرفهم. انتهى.
قال ابن عرّاق: فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم، وأضرابهم، إذا قال أحدهم في حديث لا أعرفه، أو لا أصل له، كفى ذلك في الحكم عليه بالوضع. والله أعلم.
ومنها: كون الراوي رافضيّا، والحديث في فضائل أهل البيت، أو في ذمّ من حاربهم.
ومنها: أن يكون فيه "وأُعْطِي ثواب نبيّ"، أو "النبيين"، ونحوهما. والله تعالى أعلم.