الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَهُوَ الأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ").
إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفِقْرة:
بيّن رحمه اللهُ تعالى في هذا الكلام مُتَمَسَّكه الذي بَنَى عليه القاعدة المتقدّمة، وهي أن الواجب على كلّ من عرف التمييز بين صحيح الأحاديث وضعيفها أن يروي للناس ما عرف صحته، ويتّقي ما كان عن الضعفاء والمتروكين، وأهل الأهواء الزائغين، وذلك المتمسّك هي الآيات القرآنيّة التي أوردها هنا، فإنها تدلّ على أن خبر الفاسق لا يُقبل، كشهادته، إذ الخبر والشهادة، وإن كانا يفترقان في بعض الوجوه، كالحرية، والذكورة، والعدد، ونحوها مما سيأتي في المسائل -إن شاء الله تعالى- فإنها لا تعتبر في الخبر، دون الشهادة، فقد يجتمعان في أكثر الأمور، كالإسلام، والبلوغ، والعدالة، والضبط، ونحوها مما سيأتي قريبًا أيضًا، ثم بيّن أن السنة النبويّة دلّت أيضًا على ما دلّ عليه القرآن الكريم، وهو حديث:"من حدّث عنّي بحديث يُرَى أنه كذبٌ، فهو أحد الكاذبِينَ". والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفِقْرة:
(وَالدَّلِيلُ) أي المرشد، والكاشف. قاله الفيّومي. وقال أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكلّيات": الدليل: المرشد إلى المطلوب، يُذكَر ويُراد به الدالّ، ومنه:"يا دليل المتحيّرين"(1): أي هاديهم إلى ما تزول به حيرتهم. ويُذكر ويراد به العلامة المنصوبة لمعرفة المدلول، ومنه سمي الدخان دليلًا على النار، ثم اسم الدليل يقع على ما يُعرف به المدلول، حسيّا كان، أو شرعيّا، قطعيّا كان، أو غير قطعيّ، حتى سُمّي الحسّ، والعقل، والنصّ، والقياس، وخبر الواحد، وظواهر النصوص كلها أدلّة.
والدلالة كون الشيء بحيث يفيد الغيرَ علمًا إذا لم يكن في الغير مانع، كمزاحمة الوهم والغفلة بسبب الشواغل الجسمانية.
وأصل الدلالة مصدر، كالكتابة، والإمارة، والدالّ: ما حصل منه ذلك. قال: ويُجمع الدليل على أدلّة، لا على دلائل إلا نادرًا. قال: والتعريف المشهور للدليل: هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، ولا يخفى أن الدليل والمدلول متضايفان، كالأب والابن، فيكونان متساويين في المعرفة والجهالة، فلا يجوز أخذ أحدهما في تعريف الآخر؛ لأن المعرّف ينبغي أن يكون أجلى.
(1) إطلاقه على الله تعالى يحتاج إلى ثبوته نقلًا، والله تعالى أعلم.
والتعريف الحسن الجامع: أنه هو الذي يلزم من العلم، أو الظنّ به العلمُ، أو الظنّ بتحقّق شيء آخر. و "أو" هنا للتبيين: أي كل واحد دليل، كما يقال: الإنسان إما عالم أو جاهل، لا للتشكيك. انتهى المقصود من كلام الكفوي باختصار (1).
(عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا) أي قلناه، فحذف مفعوله؛ لكونه فضلة، قال في "الخلاصة":
.....................
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كضمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
وقال أيضًا:
وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لم يَضِرْ
…
كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ
(مِنْ هَذَا هُوَ اللَّازِمُ) الإشارة إلى ما سبق له آنفًا من قوله: "أن الوِاجب على كلّ أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها"، الى آخر كلامه (دُونَ مَا خَالَفَهُ) أي وهو رواية ما كان من أهل التهم والمعاندين من أهل البدع (قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} ) الفسوق: الخروج من الشيء، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه فقست البيضة: إذا كسرتها، وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضًا: فقست الشيء: إذا أخرجته من يد مالكه مغتصبًا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر. قاله النسفي (2).
وقال الفيّومي: فسق فُسوقًا، من باب قعد: خرج عن الطاعة، والاسم الفِسق، ويَفْسِق بالكسر لغة حكاها الأخفش، فهو فاسق، والجمع فُسّاق، وفَسَقَة. قال ابن الأعرابيّ: ولم يسمع فاسق في كلام الجاهليّة، مع أنه عربيّ فصيح، ونطق به الكتاب العزيز. ويقال: أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال: فَسَقَت الرُّطَبَة: إذا خرجت من قشرها، وكذلك كلّ شيء خرج عن قشره، فقد فسق. قاله السَّرَقُسْطيّ. وقيل للحيوان الخمس: فواسق؛ استعارة، وامتهانًا لهنّ؛ لكثرة خبثهنّ وأذاهنّ حتى قيلْ يُقتَلن في الحلّ والحرم، وفي الصلاة، ولا تبطل الصلاة بذلك. انتهى (3).
(بِنَبَإٍ) أي خبر (فَتَبَيَّنُوا) من التبيّن: أي تحقّقوا صدقه من كذبه، وقرأ حمزة والكسائيّ:"فتثبّوا" من التثبّت.
وقال النسفي رحمه اللهُ تعالى: "فتبيّنوا": فتوقّفوا فيه، وتطلّبوا بيان الأمر، وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق؛ لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل؛ لأنا لو توقّفنا في
(1) انظر "الكليات" لأبي البقاء الكفوي ص 439 - 440.
(2)
"تفسير النسفي" 4/ 168.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 473.
خبره لسوّينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة. قال: والتثبّت والتبيّن متقاربان، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف. انتهى (1).
وقال الشوكانيّ رحمه اللهُ تعالى: المراد من التبيّن: التعرّف، والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة، وعدم العجلة، والتبصّر في الأمر الواقع، والخبر الوارد حتى يتّضح ويظهر. انتهى (2).
(أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا) مفعول له: أي خشية أن تصيبوا، وقيل: التقدير: لئلا تُصيبوا قومًا بالقتل والسبي (بِجَهَالَةٍ) حال من الفاعل: أي جاهلين. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: وقوله: "أن تصيبوا قومًا بجهالة" مفعول له: أي كراهة أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا؛ لأن الخطأ ممن لم يتبيّن الأمرَ، ولم يتثبّت فيه هو الغالب، وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم، والمعنى متلبسين بجهالة بحالهم. انتهى (3) (فَتُصْبِحُوا) أي تصيروا (عَلَى مَا فَعَلْتُمْ) من الخطإ بالقوم (نَادِمِينَ) [الحجرات: 6] أي مغتمّين غما لازما، فالندم غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام على ما وقع مع تمنّي أنه لم يقع (4).
وقال الإمام ابن كثير رحمه اللهُ تعالى في "تفسيره" 4/ 209 عند شرح هذه الآيات: ما نصّه:
يأمر الله تعالى بالتثبت في خبر الفاسق؛ ليحتاط له؛ لئلا يُحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذبا أو مخطئا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال؛ لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أُمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق؛ لأنه مجهول الحال.
(وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]) في محل رفع على أنه صفة لرجل وامرأتين من قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قيل: هذا الخطاب للحُكّام. وقيل: بل هو لجميع الناس، لكن الملتبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله، يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض. وهذا القول الثاني، هو ارتضاه ابن عطية وغيره، كما نقله القرطبي في "تفسيره" 3/ 395.
(وَقَالَ عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]) أي على الرجعة إذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود، وابن ماجه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه سئل عن الرجل يُطلّق المرأة، ثم يقع بها، ولم يُشهد على طلاقها، ولا على
(1) انظر "تفسير النسفي" 4/ 168.
(2)
انظر "الفتح القدير" 5/ 60.
(3)
المصدر السابق.
(4)
انظر "حاشية الجمل على الجلالين" 4/ 178.
رجعتها؟ فقال: طلّقت لغير سنّة، ورجعت لغير سنّة، وأَشْهِد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ. وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا رِجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله عز وجل، إلا أن يكون من عذر. انتهى (1).
قال المصنّف رحمه اللهُ تعالى:
(فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا) الظاهر أن الباء زائدة، و "ما" اسم موصول فاعل "دلّ". وقوله:(مِنْ هَذِهِ الْآيِ) بيان لـ"ما"، والآي جمع آية، وهي في الأصل العلامة، سمّيت بذلك؛ لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام، وقيل: لأنها جماعة من حروف القرآن. وقيل: الآية من القرآن كأنها العلامة التي يُفضَى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية. ووزنها عند الخليل فَعَلة بفتح الفاء والعين، وذهب غيره إلى أن أصلها أَيَّةٌ فعْلة بسكون العين، فقُلبت الياء ألفا لانفتاح ما قبلها، وهو قلب شاذّ. أفاده ابن منظور (2).
(أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ سَاقِطٌ) قال في "القاموس": الساقط: المتأخّر عن الرجال. انتهى. وقال في "اللسان": الساقط والساقطة: اللئيم في حسبه ونفسه. انتهى. والمراد به هنا أن خبره رديء متأخّر عن درجة ما يُقبل من الأخبار، فيكون قوله (غَيْرُ مَقْبُولٍ) مؤكّدًا له (وَأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ مَرْدُودَةٌ) أي للتنصيص على اشتراط العدالة فيها في الآية المذكورة.
وقوله رحمه اللهُ تعالى: (وَالْخَبَرُ الخ) أتى به إشارةً إلى دفع أنّ إيراد الآيتين الأخيرتين دليلًا على سقوط خبر الفاسق غير مسلّم؛ للفرق بين الشهادة والخبر.
وحاصل الجواب أن الشهادة خبر في الحقيقة، إلا أنها صارت مخصوصة منه باعتبار أمور تَعْرِضُ لها.
فقوله: "والخبر" مبتدأ خبره جملة قوله (وَإِنْ فَارَقَ) أي خالف (مَعْنَاهُ) أي الخبر، والمراد بالمعنى الشروط (مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ) كالحرية، والذكورة، والعدد، ونحوها (فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي أَعْظَمِ مَعَانِيهِمَا) أي أكثر شروطهما، وذلك كالبلوغ، والإسلام، والعدالة، ونحوها (إِذْ) تعليلة، كما في قوله تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]، وكما في قول الشاعر [من الطويل]:
(1) انظر "تفسير ابن كثير" 4/ 405.
(2)
انظر "لسان العرب" 14/ 61 - 62.