الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حِرَاشٌ بْنُ مَالِكٍ كَوَالِدِ
…
رِبْعِيٍّ اهْمِلْهُ بِغَيْرِ زَائِدِ
ومنها: أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، واشتهر بلقب أبي تراب، لقّبه به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أحبّ اللقب إليه، وسبب تلقيبه به هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت، فقال:"أين ابن عمك؟ "، قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرج فلم يَقِل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:"انظر أين هو؟ "، فجاء، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول:"قم أبا تراب، قم أبا تراب". والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ رِبْعِيِّ) بكسر، فسكون، والجارّ والمجرور متعلّق بحال مقدّر: أي حال كون منصور راويًا عن رِبْعيّ (بْنِ حِرَاشٍ) بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء، آخره شين معجمة (أنه سمِع) بكسر الميم، يقال: سمعه، وسمع له سَمْعًا، وتسمّع، واستمع كلّها يتعدّى بنفسه، وبالحرف بمعنى، واستمع لما كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، وسَمِع يكون بقصد وبدونه. ويقال: سمعت كلامه: أي فهمت معنى لفظه، فإن لم تفهمه لبُعْدٍ، أو لغط، فهو سماع صوت، لا سماع كلام، فإن الكلام ما دلّ على معنى تتمّ به الفائدة، وهو لم يسمع ذلك، وهذا هو المتبادر من قولهم: إن كان يسمع الخطبة؛ لأنه الحقيقة فيه، وجاز أن يُحمل ذلك على من يسمع صوت الخطيب مجازًا. أفاده الفيّوميّ (1) (عليّا) أي ابن أبي طالب (رضي الله عنه يخطب) جملة في محلّ نصب على الحال: أي حال كونه يخطب الناس.
[تنبيه]: كون جملة "يخطب" حالًا هو الذي عليه جمهور النحاة، وأجاز الأخفش، وابن مالك، وجماعة، كونها مفعولًا ثانيًا لسمع، فقد عدُّو من أخوات "ظنّ""سمع" المتعلّقة بذات مُخْبَر عنها بفعل دلّ على صوت، مثل "سمعت زيدًا يتكلّم"، فـ"زيدا" مفعول أولُ، و "يتكلَّم" مفعول ثانٍ، بخلاف المتعلّقة بمسموع، كقولك:"سمعت كلام زيد"، فإنها تتعدّى لمفعول واحد فقط، وقال الجمهور: لا تتعدّى مطلقًا إلا لواحد، كسائر أفعال الحواسّ، فإن كان مما يُسمع فذاك، وإلا ففيه مضاف محذوف، والفعل بعده
(1)"المصباح المنير" 1/ 289.
حالٌ، أي سمعت صوت زيد، حال كونه يتكلّم (1). والله تعالى أعلم.
(قَالَ) أي عليّ رضي الله عنه، والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يخطب" (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (تَكْذِبُوا) بكسر الذال المعجمة، يقال: كذب يكذب من باب ضرب، كَذِبًا بفتح، فكسر، ويجوز التخفيف بكسر الكاف (2) مع سكون الذال، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء كان عمدًا، أو خطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنة، لكن الإثم يتبع العمد. أفاده الفيّوميّ.
وقال القرطبيّ رحمه اللهُ تعالى في "المفهم": الكذب لغة هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، غير أن المحرّم شرعًا المستقبح عادةً هو العمد المقصود إلا ما استثني على ما يأتي، ويقال: كذب بمعنى أخطأ، وأصل الكذب في الماضي، والخلف في المستقبل، قاله ابن قتيبة، وقد جاء الكذب في المستقبل، قال الله تعالى:{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، ويقال: كذب الرجل بفتح العين (3) يكذب بكسرها كِذْبًا بكسر الكاف، وسكون الذال، وكَذِبًا بفتح الكاف، وكسر الذال، فأما كِذَاب المشدّد، فأحد مصادر كذّب بالتشديد. انتهى كلام القرطبيّ (4).
وقال النوويّ رحَمه اللهُ تعالى في "شرحه": وأما الكذب فهو عند المتكلّمين من أصحابنا الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدًا كان أو سهوًا، هذا مذهب أهل السنّة. وقالت المعتزلة: شرطه العمدية، ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإنه صلى الله عليه وسلم قيّده بالعمد لكونه قد يكون عمدًا، وقد يكون سهوًا، مع أن الإجماع، والنصوص المشهورة في الكتاب والسنّة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسي والغالط، فلو أطلق صلى الله عليه وسلم الكذب لتُوهّم أنه يأثم الناسي أيضًا، فقيّده، وأما الروايات المطلقة فمحمولة على المقيّدة بالعمد. والله تعالى أعلم. انتهى (5).
(عَلَيَّ) متعلّق بـ"تكذبوا"(فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، أي لأنه (مَنْ) شرطيّة، ولذا جزم الفعل بعدها، وهي مبتدأ، وقد اختُلف في خبرها، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: هما معًا (6). (يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ) أي يدخل النار، يقال: وَلَج الشيءُ في غيره يَلِجُ من باب وعد وُلُوجًا: إذا دخل، وأولجته إيلاجًا: إذا أدخلته.
(1) راجع "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 216.
(2)
ويجوز أيضًا فتحها مع سكون الذال.
(3)
أي بفتح عين الكلمة، وهو الذال.
(4)
"المفهم" 1/ 107.
(5)
"شرح النوويّ" 1/ 69.
(6)
راجع حاشية الخضريّ على ابن عقيل" 2/ 186.
والفعل مجزوم على أنه جواب الشرط، وإنما كسرت الجيم لالتقاء الساكنين.
قال النوويّ رحمه اللهُ تعالى: معنى الحديث أن هذا جزاؤه، وقد يُجازَى به، وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يُقطع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فكلها يقال فيها: هذا جزاؤه، وقد يجازى، وقد يُعفَى عنه، ثم إن جوزي، وأدخل النار فلا يخلد فيها، بل لا بد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة، وسيأتى دلائلها في "كتاب الإيمان" قريبا، إن شاء الله تعالى. انتهى (1).
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه اللهُ تعالى: صدر هذا الحديث نهيٌ، وعجزه وعيدٌ شديد، وهو عامّ في كلّ كاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطلق في أنواع الكذب، ولَمّا كان كذلك هاب قوم من السلف الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعمر، والزبير بن العوّام، وأنس بن مالك، وابن هرمز (2) رضي الله عنهم أجمعين، فإن هؤلاء سمعوا كثيرًا، وحدّثوا قليلًا، كما صرّح الزبير رضي الله عنه بذلك لَمّا قال له ابنه عبد الله رضي الله عنه: إني لا أسمعك تُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدّث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أكن أفارقه، ولكنّي سمعته يقول:"من كذب عليّ، فليتبوّأ مقعده من النار"(3). وقال أنس رضي الله عنه: "إنه ليمنعني أن أُحدّثكم حديثًا كثيرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب عليّ
…
" الحديث (4). ومنهم من سمع، وسكت، كعبد الملك بن إياس، وكأنّ هؤلاء تخوّفوا من إكثار الحديث الوقوعَ في الكذب والغلط، فقلّلوا، أو سكتوا، غير أن الجمهور خصّصوا عموم هذا الحديث، وقيّدوا مُطلقه بالأحاديث التي ذُكر فيها "متعمّدًا"، فإنه يُفهم منها أن ذلك الوعيد الشديد إنما يتوجّه لمن تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريقة هي المرضيّة؛ فإنها تجمع بين مختلفات الأحاديث؛ إذ هي تخصيص العموم، وحملُ المطلق على المقيّد مع اتّحاد الموجِب والموجَب، كما قَرّرناه في الأصول. هذا مع أن القاعدة الشرعيّة القطعيّة تقتضي أن المخطىء والناسي غير آثمين، ولا مؤاخذين، لا سيّما بعد التحرّز والحذر. انتهى كلام القرطبيّ (5)، وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"شرح النوويّ" 1/ 68 - 69.
(2)
هكذا في "المفهم"، ولم يتبيّن لي من هو ابن هرمز؟ ، فليُنظر. والله تعالى أعلم.
(3)
راوه البخاريّ برقم (107) وأبو داود برقم (3651).
(4)
رواه مسلم (2) والترمذيّ (2663).
(5)
"المفهم" 1/ 113.