الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعمه، وهو الذي جبر كسرهم، وهو المالك المعبود، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} .
مسائل تتعلّق بـ "ربّ العالمين
":
المسألة الأولى: في إعرابها:
اعلم: أن "ربّ" بالجرّ -كما قرأ به الجمهور في الآية- نعتًا للاسم الكريم (1)، أو عطف بيان للمدح، أو بدلًا منه، ويجوز رفعه على القطع، خبراً لمبتدإ محذوف وجوبًا؛ لكونه نعتَ مدحٍ، تقديره: هو ربّ العالمين، ونصبه مفعولًا لفعل محذوف وجوبًا أيضًا؛ لما ذُكر، تقديره: أمدح ربَّ العالمين، أو بفعل مقدّر دلّ عليه "الحمد"، تقديره: أحمد ربَّ العالمين، أو منصوب على النداء، حذف منه حرف النداء، أي يا ربّ العالمين، كما قال الحريريّ في "ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي
و"العالمين" مجرور بالمضاف على الراجح، وقيل. بالإضافة، وقيل بالحرف المقدّر له الإضافة، وعلامة جرّة الياء؛ لأنه من جمع المذكّر السالم، أو ملحق به، على ما سيأتي من الخلاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في معنى "الربّ
".
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: "الرّبّ" في كلام العرب منصرف على معانٍ: فالسيّد المطاع فيهم يُدعى ربًّا، ومن ذلك قول لَبِيد بن رَبِيعة [من الطويل]:
وَأَهْلَكْنَ يَوْمًا رَبَّ كِنْدَةَ وَابْنَهُ
…
وَرَبَّ مَعَدٍّ بَيْنَ خَبْتٍ وَعَرْعَرِ (2)
يعني بربّ كِندَة: سيّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبْيَان [من الطويل]:
تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ
…
فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي
والرجل الْمُصْلِحُ للشيء يُدعَى ربًّا، ومنه قول الفَرَزْدَق بن غالبٍ [من البسيط]:
كَانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إِذْ حَقَنَتْ
…
سِلَاءَهَا فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ (3)
(1) راجع انظر تفسير السمين الحلبيّ المسمى بالدّر المصون في علوم الكتاب المكنون جـ 1 ص 67.
(2)
خَبْتٌ وعَرْعَرٌ اسما موضعين.
(3)
السائلة اسم فاعل من سلأ سمن يسلؤه: إذا طبخه، وعالجه، فأذاب زبده، والسلاء بالكسر السمن.
يعني بذلك في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صَنيعتَه عند فلان: إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها. ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدَةَ [من الطويل]:
فَكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي
…
وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضعْتُ رُبُوبُ (1)
يعني بقوله: "أفضت إليك" أي وصلت إليك رِبَابتي، فصِرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري، فتصلحه لَمَّا خرجتُ من رِبابة غيرك من الملوك، كانوا قبلك عليّ، فضيّعوا أمري، وتركوا تفقّده، وهم الربوب، واحدهم رَبٌّ. والمالك للشيء يُدعَى ربَّهُ. وقد يتصرّف أيضًا معنى "الربّ" في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه: السيّد، الذي لا شِبْهَ لهُ، ولا مثل في مثل سُؤدَده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله تعالى (2).
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى "الربّ": المالك. وفي "الصحاح": و"الرّبّ": اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره، إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهليّة للمَلِك، قال الحارث بن حِلِّزَةَ [من الخفيف]:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْمِ
…
الْحِيَارَينِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ
والحِيَارِين: موضع غزا أهلَهُ المنذرُ بن ماء السماء.
والربّ: السيّد، ومنه قوله تعالى:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، وفي الحديث:"أن تلد الأمة ربتها"، أي سيّدتها. والربّ: المصلح، والمدبّر، والجابر، والقائم. قال الهرويّ، وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء، وإتمامه: قد رَبَّهُ يَرُبُّهُ، فهو رَبٌّ له، ورابٌّ، ومنه سُمّي الربّانيّون؛ لقيامهم بالكتب. وفي الحديث:"هل لك من نعمة ترُبُّها عليه"، أي تقوم بها، وتُصلحها. و"الربّ": المعبود، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ (3) بِرَأْسِهِ
…
لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
ويقال على التكثير: رّبَّاه، ورَبَّبَهُ، وتَرَبَّبَهُ. حكاه النّحّاس. وفي "الصحاح": ورَبَّ فلانٌ ولده يرُبُّهُ رَبًّا، ورَبَّبَهُ، وتربّبه بمعنى: أي ربّاه. والمربوب: الْمُرَبَّى.
(1)"ربوبٌ" جمع ربّ، فاعل "ربّتني"، أي ربتني قبلك ربرب، فضيّعتني، والآن صارت ربابتي إليك.
(2)
تفسير الطبريّ جـ 1 ص 141 - 132.
(3)
"الثعلبان" بالضم ذكر الثعلب، هكذا ذكره الجوهري، وقد ردّ عليه في "القاموس" بأنه في البيت بالفتح تثنية ثعْلَب، وردّ عليه الشارح بثبوت ما قاله الجوهري عن كثير من أئمة اللغة. راجع "تاج العروس" ج 1 ص 164.
قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم؛ لكثرة دعوة الداعين به، وتأمّل ذلك في القرآن، كما في آخر "آل عمران"، و"سورة إبراهيم"، وغيرهما، ولما يُشعِر به هذا الوصف من الصِّلَة بين الربّ والمربوب، مع ما يتضمّنه من العطف، والرحمة، والافتقار في كلّ حال. انتهى كلام القرطبيّ (1).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "الربّ" هو المالك المتصرّف، ويطلق في اللغة على السيّد، وعلى المتصرّف للإصلاح، وكلّ ذلك صحيحٌ في حقّ الله تعالى، ولا يستعمل لغير الله، إلا بالإضافة. وقد قيل: إنه الاسم الأعظم. انتهى كلام ابن كثير (2).
وقال في "لسان العرب": ما مختصره: وربّ كلّ شيء: مالكه، ومستحقّه. وقيل: صاحبه. ويقال: فلانٌ ربُّ هذا الشيء: أي مالكه، وكلّ من ملك شيئًا، فهو ربّه. والربّ يُطلق في اللغة على المالك، والسيّد، والمدبّر، والمربّي، والقيّم، والمنعم. ولا يُطلق غيرَ مضاف إلا على الله عز وجل، وإذا أُطلق على غيره أُضيف، فقيل: ربّ كذا. وقد جاء في الشعر مطلقًا على غير الله تعالى، وليس بالكثير، ولم يُذكر في غير الشعر. انتهت عبارة "اللسان" بتصرّف.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: متى أدخلت الألف واللام على "ربّ" اختصّ الله تعالى به؛ لأنها للعهد، وإن حُذفا منه صار مشتركًا بين الله وبين عباده، فيقال: الله ربّ العباد، وزيدٌ ربّ الدار، فالله عز وجل ربّ الأرباب، يملك المالك، والمملوك، وهو خالق ذلك، ورازقه، وكلّ ربّ سواه غير خالق، ولا رازقٍ، وكلّ مملوك (3) فمُمَلَّك بعد أن لم يكن، ومنتزَع ذلك من يده، وإنما يملك شيئًا دون شيء، وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين انتهى (4).
وقد أوصل بعضهم معاني الربّ إلى أربعة عشر معنًى، ونظمها بقوله [من الطويل]:
قَرِيبٌ مُحِيطٌ مَالِكٌ وَمُدَبِّرِّ
…
مُرَبِّ مُرِيدُ الْخَيْرِ وَالْمُولِي لِلنِّعَمْ
وَخَالِقُنَا الْمَعْبُودُ جَابِرُ كَسْرِنَا
…
وَمُصلِحُنَا وَالصَّاحِبُ الثَّابِتُ الْقَدَمْ
وَجَامِعُنَا وَالسَّيِّدُ احْفَظْ فَهَذِهِ
…
مَعَانٍ أَتَتْ لِلربِّ وَادْعُ لِمَنْ نَظَمْ (5)
(1) الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 136 - 137.
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 25.
(3)
هكذا نسخة القرطبيّ، ولعل الصواب:"وكلّ مُمَلَّكِ". والله تعالى أعلم.
(4)
الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 137 - 138.
(5)
راجع حاشية البيجوري على أبي شجاع.