الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية عشرة: في الكلام على "الرحمن الرحيم
"
اعلم أن "الرحمن الرحيم" مجروران على أنهما نعتان لاسم الله تعالى، أو عطفا بيان للمدح، أو بدلان، ويجوز في غير القرآن قطعهما إلى النصب، مفعولًا لفعل مقدّر، أي "أمدح"، وإلى الرفع خبرًا لمبتدإ محذوف، أي "هو".
وقد اشتهر فيهما بحسب الإعراب تسعة أوجه، يمتنع منها وجهان: جرّ "الرحيم" مع نصب "الرحمن"، وجرُّهُ مع رفعه، لأن النعت أشدّ ارتباطًا بالمنعوت، فلا يؤخّر عن المقطوع، وإلى هذه الأوجه أشار بعضهم بقوله [من الرجز]:
إِنْ يُنْصَبِ الرَّحْمَنِ أَوْ يَرْتَفِعَا
…
فَالْجَرُّ فِي الرَّحِيمِ قَطْعًا مُنِعَا
وَإِنْ يُجَرَّ فَأَجِزْ فِي الثَّانِي
…
ثَلَاثَةَ الأَوْجُهِ خُذْ بَيَانِي
فَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ تِسْعًا مُنِعْ
…
وَجْهَانِ مِنْهَا فَادْرِهِ يَا مُسْتَمِعْ
وقال آخر [من الرجز أيضًا]:
وَأَوْجُهُ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ
…
تَكُونُ تِسْعَةً لَدَى التَّقْسِيمِ
جَرُّهُمَا الثَّابِتُ فِي الْكِتَاب
…
وَسِتَّةٌ تَسُوغُ فِي الإِعْرَابِ
أَيْ جَرُّ أَوَّلٍ وَنَصْبُ مَا تَلَا
…
وَرَفْعُهُ كَذَا أَوِ انْصِبْ أَوَّلَا
مَعْ رَفْع تَالٍ ثُمَّ عَكْسُهُ أَتَى
…
رَفْعُهُمَا نَصْبُهُمَا قَدْ ثَبَتَا
وَجَرَّ ثَانٍ مَعَ رَفْعِ أَوَّلِ
…
أَوْ نَصْبِهِ امْنَعَنَّهُ فَلْتَدْعُ لِي (1)
وهما اسمان مشتقّان من الرحمة على وجه المبالغة، و"رحمن" أشدّ مبالغة من "رحيم". وفي كلام ابن جرير ما يدلّ على الاتفاق على هذا. وزعم بعضهم أنه غير مشتقّ، إذ لو كان مشتقّا لاتصل بذكر المرحوم، وقد قال الله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. وعن المبرّد أن "الرحيم" اسم عبرانيّ، ليس بعربيّ. وقال القرطبيّ: والدليل على أنه مشتقّ ما أخرجه الترمذيّ، وصحّحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرَّحِمَ، وشَقَقتُ لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته". قال: وهذا نصّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في الاستدلال المذكور نظر لا يخفى؛ إذ الحديث دليل على اشتقاق الرَّحِمِ من الرحمن، لا على اشتقاق الرحمن، كما هو المدّعَى. والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) راجع تشويق الخلّان ص 4.
قال: وإنكار العرب لاسم "الرحمن" لجهلهم بالله، وبما وجب له.
ثم قيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيد. وقيل: ليس بناء فَعْلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو رجلٌ غضبان للرجل الممتلىء غضبًا، وفَعِيلٌ بمعنى الفاعل والمفعول.
قال أبو عليّ الفارسيّ: "الرحمن" اسم عامّ في جميع أنواع الرحمة، يختصّ به الله تعالى، و"الرحيم" إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهم: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرقّ من الآخر، أي أكثر رحمة.
وأكثر العلماء على أن "الرحمن" مختصّ بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمّى به غيره، ألا تراه قال:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110] فعادل الاسم الذي لا يشرَكُهُ فيه غيره، وقال:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: 45]، فأخبر أن الرحمن هو المستحقّ للعبادة جلّ وعزّ.
وقد تجاسر مسيلِمَة الكذّاب -لعنه الله- فتسمّى برحمان اليمامة، حتى قال شاعره اللعين [من البسيط]:
سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الأَكْرَمَيْنِ أَبَا
…
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا
وقد هجاه بعض المسلمين، وأحسن في ذلك، حيث قال [من البسيط أيضًا]:
سَمَوْتَ بِالْخُبْثِ يَا ابْنَ الأَخْبَثَيْنِ أَبَا
…
وَأَنْتَ شَرُّ الْوَرَى لازِلْتَ شَيْطَانَا
ولم يتسمّ مسيلمة به حتى قَرَعَ مسامعهُ نعتُ الكذّاب، فألزمه الله تعالى الكذّاب لذلك، وإن كان كلّ كافر كاذبًا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علمًا يُعرف به، ألزمه الله إياه.
وقد قيل في اسم "الرحمن": إنه الاسم الأعظم. ذكره ابن العربيّ.
وقد زعم بعضهم أن "الرحيم" أشدّ مبالغةً من "الرحمن"، لأنه أُكّد به، والمؤكِّد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد.
والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد، وإنما هو من باب النعت، ولا يلزم فيه ما ذكروه.
وإنما بدأ باسم "الله" لأنه أشرف الأسماء، وأُتبع بالرحمن لأنه أخصّ، وأعرف
من الرحيم؛ لأن التسمية أوّلا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخصّ، فالأخصّ.
[فإن قيل]: إذا كان "الرحمن" أشدّ مبالغة، فهلّا اكتفي به عن "الرحيم"؟ .
[أُجيب]: بأنه لمّا تسمّى غيره تعالى بـ "الرحمن" جيء بلفظ "الرحيم" ليقطع الوهم، فإنه لا يوصف بـ "الرحمن الرحيم" إلا الله تعالى.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف "الرحمن" حتى ردّ الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110]. ولهذا قال كفّار قريش يوم الحديبية لمّا كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" لا نعرف "الرحمن الرحيم". رواه البخاريّ، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة.
والظاهر أن هذا من تعنّتهم في كفرهم، فإنه قد وُجد في أشعارهم في الجاهليّة تسمية الله بـ "الرحمن"، وقد أنشد بعض الجاهليّة الجهّال [من الطويل]:
أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا
…
أَلَا قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا
وقال سلامة بن جندب الطُّهَويّ [من الطويل]:
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا إِذْ عَجِلْنَا عَلَيْكُمُ
…
وَمَا يَشَإِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقُ
انتهى ملخّصًا من تفسير القرطبيّ جـ 1 ص 101 - 102. وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 11 - 22. بتصرّف، مع زيادات مفيدة من حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، وغير ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثالثة عشرة: قال بعض المحققين: محذوفات القرآن، كمتعلّق البسملة لا يصحّ كونها قرآنًا؛ لأن ألفاظها غير مُنزَلة، ولا متعبّد بها، ولا معجزة، كما هو شأن القرآن، ولا يلزم من توقّف المعنى عليها احتياجه إلى كلام البشر؛ لأن معناها -كما قال الشهاب الخَفَاجيّ- مما يدلّ عليه لفظ الكتاب التزامًا؛ للزومها في مُتَعارَف اللسان، فهي من المعاني القرآنيّة المرادة له تعالى، وأما ألفاظها، فليست من القرآن؛ لأنها معدومة؛ لاقتضاء البلاغة حذفها، ومنها ما لا يُلفظ به أصلًا، كالضمائر المستترة. فاحفظ هذا، فإنه من مقصورات الخيام. ذكره الخضريّ في حاشيته المتقدّم ذكرها جـ 1 ص 5. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة عشرة: قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: نَدَب الشرعُ إلى ذكر البسملة في أوّل كلّ فعل؛ كالأكل، والشرب، والنحر، والجماع، والطهارة، وركوب البحر، إلى
غير ذلك من الأفعال، قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، وقال تعالى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، وقال صلى الله عليه وسلم:"أغلِقْ بابك، واذكر اسم الله، وأطفىء مصباحك، واذكر اسم الله، وخمّر إناءك، واذكر اسم الله، وأوكِ سقاءك، واذكر اسم الله". وقال: "لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهمّ جنّبنا الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقدّر بينهما ولد لم يضرّه شيطانٌ أبدًا". وقال لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهم "يا غلام سمّ اللهَ، وكل بيمينك، وكل مما يليك". وقال: "إن الشيطان ليستحلّ الطعام ألّا يُذكر اسم الله عليه". وقال: "من لم يذبح، فليذبح باسم الله". وشكا إليه عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وَجَعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضَعْ يدك على الذي تَألَمُ من جسدك، وقل: باسم ثلاثًا، وقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله، وقدرته من شرّ ما أجد، وأُحاذر". هذا كلّه ثابتٌ في الصحيح. وروى ابن ماجه، والترمذيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"سِتْرُ ما بين الجنّ، وعورات بني آدم إذا دخل الخلاء أن يقول: باسم الله"(1). وروى الدارقطنيّ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مسّ طهوره يسمّي الله تعالى، ثمّ يُفرغ الماء على يديه" (2). انتهى كلام القرطبيّ (3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة عشرة: قال القرطبيّ رحمه الله تعالى أيضًا: اتفقت الأمّة على جواز كَتْبها في أول كلّ كتاب، من كتب العلم والرسائل؛ فإن كان الكتاب ديوان شعر، فرَوَى مجالد، عن الشعبيّ، قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم". وقال الزهريّ: مضت السنّة ألا يكتبوا في الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم". وذهب إلى رسم التسمية في أوّل كتب الشعر سعيد بن جُبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخّرين. قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره، ونستحبّه انتهى كلام القرطبيّ (4).
وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": قد استقرّ عمل الأئمّة المصنّفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة، وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرًا، فجاء عن الشعبيّ منع ذلك. وعن الزهريّ قال: مضت السنّة أن لا يُكتب في الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم". وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك
(1) حديث صحيح أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه من حديث عليّ عليه السلام. انظر صحيح الجامع الصغير ج 1 ص 675 - 676.
(2)
حديث ضعيف في سنده حارثة بن أبي الرجال ضعيف.
(3)
الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 97 - 98.
(4)
الجامع ج 1 ص 97.