الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتلميذه ابن القيّم، وأحمد محمد شاكر من المتأخرين (1)، بل نقله وحقّقه إمام عصره المجمع على إمامته، أبو المظفّر، منصور بن محمد السمعانيّ في كتابه "الإنتصار" عن عامة أهل الحديث، والمحقّقين، وقد أطال النفس ابن القيّم في كتابه "الصواعق المرسلة" في تأييد هذا المذهب، وذكر له نحو أَحَدٍ وعشرين دليلًا، وسيأتي نقل ذلك في أواخر هذا الشرح، عند قول المصنّف رحمه الله:"أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل" -إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: في الأحاديث المنتقدة على الشيخين:
اعلم: أن الشيخ ابن الصلاح استثنى من المقطوع بصحته في "الصحيحين" ما تُكُلِّمَ فيه من أحاديثهما، فقال: سوى أحرف يسيرة تَكَلّم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وقد اختُلف في عددها، فقال النوويّ في "شرح مسلم" 1/ 27: إنها مائتا حديث، وذكر الحافظ السِّلَفيّ أنها مائتان وسبعة أحاديث، وذكر البقاعيّ عن الحافظ ابن حجر أنها مائتان، وعشرة أحاديث، اشتركا في (32) واختصّ البخاريّ بـ (78) ومسلم بـ (100).
وذكر الشيخ ربيع بن هادي في رسالته "بين الإمامين مسلم والدارقطني" ص 28 أن ما في مسلم (95) حديثًا، والباقي إما منسوب إليه غلطًا، وهما حديثان، وإما جاء مكرّرًا، وهو خمسة أحاديث. راجع ما كتبه في الرسالة المذكورة ص 28 - 29.
قال النوويّ في "شرح البخاري": ما ضُعِّف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة. قال الحافظ: فكأنه مال بهذا إلى أنه ليس فيهما ضعيف، وكلامه في شرح مسلم يقتضي تقرير قول من ضَعَّفَ، فكأن هذا بالنسبة إلى مقامهما، وأنه يدفع عن البخاري، ويقرر على مسلم، قال العراقي: وقد أفردت كتابا لما تكلم فيه في "الصحيحين"، أو أحدهما مع الجواب عنه، قال الحافظ: ولم يُبَيَّض هذا الكتابُ وعُدِمت مُسَوَّدته، وقد سرد الحافظ ما في البخاري من الأحاديث المتكلم فيها في "مقدمة شرحه"، وأجاب عنها حديثا حديثا. قال الحافظ السيوطيّ: ورأيت فيما يتعلق بمسلم تأليفا مخصوصا، فيما ضعف من أحاديثه بسبب ضعف رواته، وقد ألف الشيخ ولي الدين العراقي كتابا في الرد عليه، وذكر بعض الحفاظ أن في كتاب مسلم أحاديث مخالفة لشرط الصحيح، بعضها أُبهم راويه، وبعضها فيه إرسال وانقطاع، وبعضها فيه
(1) انظر ما كتبه على "الفية السيوطي" في الحديث ص 4 - 5.
وجادة، وهي في حكم الإنقطاع، وبعضها بالمكاتبة، وقد ألف الرشيد العطار كتابا في الرد عليه، والجواب عنها حديثا حديثا.
قال الجامع: سيأتي نقل ما كتبه الرشيد العطار نصّا، إن شاء الله تعالى.
ونلخّص هنا ما ذُكر من الجواب الشامل الذي لا يختص بحديث دون حديث:
قال الحافظ رحمه الله تعالى في "هدي الساري مقدمة فتح الباري": الجواب من حيث الإجمال عما انتُقِد عليهما أنه لا ريب في تقدم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده، من أئمة هذا الفن، في معرفة الصحيح والعلل، فإنهم لا يختلفون أن ابن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، ومع ذلك فكان ابن المديني إذا بلغه عن البخاري شيء يقول: ما رأى مثل نفسه. وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد ذلك منه الشيخان جميعا. وقال مسلم: عرضت كتابي على أبي زرعة الرازي، فما أشار أن له علة تركته.
فإذا عُرِف ذلك، وتقرّر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما، يكون قوله معارِضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الإعتراض من حيث الجملة.
وأما من حيث التفصيل، فالأحاديث التي انتُقِدت عليهما ستة أقسام:
الأول: ما يختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص، من رجال الإسناد، فإن أخرج صاحب "الصحيح" الطريق المزيدة، وعلله الناقد بالطريق الناقصة، فهو تعليل مردود؛ لأن الراوي إن كان سمعه، فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة، فهو منقطع، والمنقطع ضعيف، والضعيف لا يُعِلُّ الصحيح.
ومن أمثلة ذلك: ما أخرجاه من طريق الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس في قصة القبرين، قال الدارقطني في انتقاده: قد خالف منصور، فقال: عن مجاهد، عن ابن عباس، وأخرج البخاري حديث منصور على إسقاط طاوس، قال: وحديث الأعمش أصح.
قال الحافظ: وهذا في التحقيق ليس بعلة، فإن مجاهدا لم يوصف بالتدليس، وقد صح سماعه من ابن عباس، ومنصور عندهم أتقن من الأعمش، والأعمش أيضًا من الحفاظ، فالحديث كيفما دار دار على ثقة، والإسناد كيفما دار كان متصلًا، وقد أكثر الشيخان من تخريج مثل هذا.
وإن أخرج صاحب "الصحيح" الطريق الناقصة، وعلله الناقد بالمزيدة، تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان الراوي صحابيا، أو ثقة غير مدلس، قد أدرك من روى عنه إدراكا بينا، أو صرح بالسماع، إن كان مدلسا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك، اندفع الإعتراض بذلك، وإن لم يوجد، وكان الإنقطاع فيه ظاهرا، فمحصل الجواب عن صاحب "الصحيح" أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابعٌ، وعاضد، أو ما حَفَّته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع.
مثاله: ما رواه البخاري من حديث أبي مروان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا صليت الصبح فطوفي على بعيرك، والناس يصلون
…
" الحديث. قال الدارقطني. هذا منقطع، وقد وصله حفص بن غياث، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، ووصله مالك في "الموطإ" عن أبي الأسود، عن عروة كذلك. قال الحافظ: حديث مالك عند البخاري مقرون بحديث أبي مروان، وقد وقع في رواية الأصيلي: عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة موصولا، وعليها اعتمد المزي في "الأطراف"، ولكن معظم الروايات على إسقاط زينب، قال أبو علي الجياني: وهو صحيح، وكذا أخرجه الإسماعيلي بإسقاطها من حديث عبدة بن سليمان، ومحاضر، وحسان بن إبراهيم، كلهم عن هشام، وهو المحفوظ من حديثه، وإنما اعتمد البخاري فيه رواية مالك التي أثبت فيها ذكر زينب، ثم ساق معها رواية هشام التي أسقطت منها، حاكيا للخلاف فيه على عروة كعادته، مع أن سماع عروة، من أم سلمة ليس بالمستبعد.
قال: وربما عَلَّل بعض النقاد أحاديث ادَّعَى فيها الإنقطاع؛ لكونها مروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الإنقطاع، عند من يسوغ ذلك، بل في تخريج صاحب "الصحيح" لمثل ذلك دليل على صحته عنده.
القسم الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
والجواب عنه: أنه إن أمكن الجمع، بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين، فأخرجهما المصنف، ولم يقتصر على أحدهما، حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين، في الحفظ والعدد، أو متفاوتين، فيخرج الطريقة الراجحة، ويُعرض عن المرجوحة، أو يشير إليها، فالتعليل بجميع ذلك لمجرد الإختلاف غير قادح، إذ لا يلزم من مجرد الإختلاف اضطرابٌ يوجب الضعف.