الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال القاضي عياض رحمهُ اللهُ تعالى: معناه أن من حدّث بكلّ ما سمع، وفيه الحقّ والباطل، والصدق والكذب، نُقل عنه هو أيضًا ما حدّث به من ذلك، فكان من جملة من يروي الكذب، وصار كاذبًا لروايته إياه، وإن لم يتعمّده، ولا عَرَف أنه كذب.
وهو أقوى في الحجة للأشعريّة في أنه لا يُشترط في الكذب العمد من دليل خطاب الحديث المتقدّم. وأما الحديث الآخر الذي ذكره مسلم أول الفصل من حديث سمرة والمغيرة رضي الله عنهما: "من حدّث عنّي حديثًا يُرى أنه كذبٌ، فهو أحد الكاذبين"، فبَيِّنُ المعنى؛ لأنه محدِّثٌ عنه صلى الله عليه وسلم بما يقطع، أو يَغلب على ظنّه بطلانه، والمحدث بمثل هذا عنه مفترٍ عليه، وكمتعمّد الكذب عليه، مرتكبٌ لما نهى عنه، فهو أحد الكاذبين.
قال أبو جعفر الطحاويّ رحمهُ اللهُ تعالى: هو داخلٌ في وعيد الحديث فيمن كذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى (1) .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في تخريجه:
أخرجه المصنّف رحمهُ اللهُ تعالى هنا 1/ 5 و 6 بالأسانيد المذكورة، وأخرجه أبو داود في "سننه" رقم (4992) عن حفص بن عمر، عن شعبة -وعن محمد بن الحسين، عن عليّ بن حفص، عن شعبة- عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه والحاكم في "المستدرك" 1/ 112، وقال: صحيح الإسناد. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية) في بيان اختلاف إسناد هذا الحديث بالوصل والإرسال:
اعلم: أنّ المصنّف رحمهُ اللهُ تعالى أخرج هذا الحديث هنا من طريق معاذ بن معاذ، وعبد الرحمن بن مهديّ، كلاهما عن شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، فإن حفصا تابعيّ، كما سبق في ترجمته، وأخرجه في الرواية التالية: من طريق علي بن حفص، عن شعبة، عن خبيب، عن حفص، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم موصولًا.
قال الدارقطنيّ رحمهُ اللهُ تعالى: الصواب المرسل عن شعبة، كما رواه معاذ، وابن مهديّ، وغندر.
(1)"إكمال المعلم" 1/ 114 - 115.
قال النوويّ رحمهُ اللهُ تعالى: وقد رواه أبو داود في "سننه" أيضا مرسلا ومتصلًا، فرواه مرسلا عن حفص بن عمر النَّمَريّ، عن شعبة، ورواه متصلا من رواية عليّ بن حفص، وإذا ثبت أنه رُوي متصلا ومرسلًا، فالعمل على أنه متصل، هذا هو الصحيح الذي قاله الفقهاء، وأصحاب الأصول، وجماعة من أهل الحديث، ولا يضر كون الأكثرين رووه مرسلًا، فإن الوصل زيادة من ثقة، وهي مقبولة. انتهى كلام النوويّ (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن صنيع المصنّف رحمهُ اللهُ تعالى يوافق ما رجحه النووي من ترجيح الوصل على الإرسال، حيث أورد الحديث مورد الاحتجاج، وأيّده بأثر عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما.
لكن الذي يظهر لي أن ما قاله الدارقطنيّ رحمهُ اللهُ تعالى هو الأرجح؛ لأن علي بن حفص ليس ممن يُعتمد على حفظه، وقد قال عنه أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به انتهى. ولا سيّما مع هذه المخالفة لهؤلاء الأثبات: معاذ بن معاذ، وعبد الرحمن بن مهديّ، وغندر، وكلهم من أهل الحفظ والإتقان، وممن له اختصاص بشعبة، ومذهب المحقّقين من أهل الحديث، كأحمد، والبخاريّ، والترمذيّ، وغيرهم، أنه لا بدّ من كون المخالف ممن يُعتمد على حفظه حتى تُقبل زيادته، بل زاد بعضهم أن يتابع، وقد استوفيت البحث في مسألة زيادة الثقة عند ذكر المصنّف لها حيث يقول: ...... لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرّد به المحدّث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا
…
الى آخر كلامه، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قال الإمام أبو داود رحمهُ اللهُ تعالى بعد إخراج الحديث من طريق عليّ بن حفص-: ما نصّه: لم يسنده إلا هذا الشيخ -يعني علي بن حفص المدائني-.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وعليّ بن حفص المدائنيّ ثقة، ووافقه الذهبيّ.
وتعقّب الألبانيّ (2) كلام أبي داود رحمه الله تعالى المذكور، بأنه بالنسبة لما وقف عليه هو من الطرق، وإلا فالطريقان الآخران -يعني طريقي معاذ، وابن مهدي- عند مسلم- يردّان عليه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا التعقّب نظر لا يخفى؛ لأنه مبنيّ على النسخ التي فيها الخطأ بزيادة أبي هريرة، كما قدّمنا، فالصواب أن الطريقين الآخرين
(1)"شرح صحيح مسلم" 1/ 72.
(2)
راجع ما كتبه في "السلسلة الصحيحة" 5/ 38/ 40 رقم 2025.