الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختُلف في معنى زيادة "اسم"، فقال قُطْرُب: زيدت لإجلال ذكره تعالى، وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت ليخرج الكلام بذكرها من حكم القَسَم إلى قصد التبرّك؛ لأن أصل الكلام بالله. قاله القرطبيّ (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الحادية عشرة: في الكلام على لفظ الاسم الكريم
اعلم: أن "الله" علم على الربّ عز وجل، يقال: إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24} إلى آخر [سورة الحشر: 24]، فأجرى الأسماء كلها صفات له، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنّة".
وهو اسمٌ لم يُسمّ به غيره تبارك وتعالى، ولهذا لا يُعرف في كلام العرب له اشتقاف من فَعَلَ يَفعُل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد، لا اشتقاق له. وقد نقله القرطبيّ عن جماعة من العلماء، منهم: الشافعيّ، والخطّابيّ، وإمام الحرمين، والغزاليّ، وغيرهم.
وروي عن الخليل، وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمةٌ. قال الخطّابيّ: ألا ترى أنك تقول: يا ألله، ولا تقول: يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لَمَا جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام.
وقيل: إنه مشتقّ، واستدلّوا عليه بقول رُؤْبَة بن العجاج [من الرجز]:
لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهِ
…
سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
والمدّهُ جمع ماده، والمَدْهُ كالمَدْحِ وزنًا ومعنًى. فقد صرّح الشاعر بلفظ المصدر، وهو التألّه، من أَلِهَ يَأْلَهُ إِلاهَةً، وتأَلُّهًا، كما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهم أنه قرأ:"ويذرك، وإلاهتَكَ"، قال: عبادَتَك، أي أنه كان يُعبَدُ، ولا يَعْبُدُ، وكذا قال مجاهدٌ وغيره.
(1) تفسير القرطبيّ ج 1 ص 98 - 99.
وقد استدلّ بعضهم على كونه مشتقّا بقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]، ونَقَل سيبويه، عن الخليل أن أصله "إلاه" مثلُ فِعَالٍ، فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة، قال سيبويه: مثلُ ناسٍ، أصله أُناسٌ. وقيل: أصل الكلمة "لاهٌ"، فدخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه، قال الشاعر [من البسيط]:
لَاهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أُفْضِلْتَ فِي حَسَبٍ
…
عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي
بالخاء المعجمة: أي فتسوسُني.
وقال الكسائيّ، والفرّاء: أصله "الإله"، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال:{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]، أي لكن أنا. وقد قرأها كذلك الحسن.
ثم قيل: هو مشتقّ من وَلِهَ: إذا تحيّر، والْوَلَه: ذهاب العقل، يقال: رجلٌ والهٌ، وامرأةٌ وَلْهَى، ووالهةٌ، وماء موله: إذا أرسل في الصحاري، فالله تعالى تتحيّر الألباب، وتذهب في حقائق صفاته، والْفِكَرُ في معرفته، فعلى هذا أصل "إلاهٍ""وِلَاهٌ"، وأن الهمزة مبدلةٌ من واوٍ، كما أُبدلت في إِشَاحٍ، ووِشَاحٍ، وإسادةٍ، ووِسَادَةٍ.
وروي عن الضحّاك أنه قال: إنما سمّي الله إلهًا لأن الخلق يتألّهون إليه في حوائجهم، ويتضرّعون إليه عند شدائدهم. وذُكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يَأْلَهون إليه -بفتح اللام، وكسرها- لغتان.
وقيل: إنه مشتقّ من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكلّ شيء مرتفع: لاهًا. وقيل: مشتقّ من أله الرجل: إذا تعبّد، وتألّه: إذا تنسّك. وقرأ ابن عبّاس رضي الله عنهم: "ويذرك، وإلاهتك"، وأصل ذلك "الإله"، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدةً مشدّدة، وفخّمت تعظيمًا، فقيل: الله انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (1).
ورجّح العلّامة ابن القيّم رحمه الله القول باشتقاقه، فقال: الصحيح أنه مشتقّ، وأن أصله "الإله"، كما هو قول سيبويه، وجمهور أصحابه إلا من شذّ، وهو الجامع لمعاني
(1)"الجامع لأحكام القرآن" 102 - 103.
الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
والذين قالوا بالاشقاق إنما أرادوا أنه دالّ على صفة له تعالى، وهي الإلهيّة، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم، والقدير، والبصير، والسميع، ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء مشتقّة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولّدة منه تولّد الفرع من أصله.
وتسمية النحاة للمصدر والمشتقّ منه أصلًا وفرعًا ليس معناه أن أحدهما متولّد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمّن الآخر وزيادة.
قال: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظيّة، وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنويّة، فقد قال أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم:"لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وكيف نحصي خصائص اسم لمسمّاه كلّ كمال على الإطلاق، وكلّ مدح وحمد، وكلّ ثناء، وكلّ مجد، وكلّ جلال، وكلّ كمال، وكلّ عزّ، وكلّ جمال، وكلّ خير، وإحسان، وجود، وفضل، وبرّ، فله، ومنه، فما ذُكر هذا الاسم في قليل إلا كثّره، ولا عند الخوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند همّ وغمّ إلا فرّجه، ولا عند ضيق إلا وسّعه، ولا تَعَلّق به ضعيف إلا أفاده القوّة، ولا ذليل إلا أناله العزّ، ولا فقير إلا أصاره غنيّا، ولا مستوحشٌ إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيّده ونصره، ولا مضطرّ إلا كشف ضرّه، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تُكشف به الكربات، وتُستنزل به البركات، وتُجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتُستدفع به السيّئات، وتُستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شُرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقّت الحاقّة، ووقعت الواقعة، وبه وُضعت الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنّة والنار، وبه عُبد ربّ العالمين وحُمد، وبحقّه بُعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر، ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه، وقام بحقّه، وبه شقي من جَهِله، وترك حقّه. فهو سرّ الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به، وإليه، ولأجله. فما وُجد خلق، ولا أمرٌ، ولا ثوابٌ، ولا عقابٌ، إلا مبتدئًا منه، منتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] إلى آخر كلامه (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) راجع فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 21 - 22.