الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم من غاير بينهما بأن المستفيض ما تلقّته الأمة بالقبول دون اعتبار عدد، ولذا قال أبو بكر الصيرفيّ والقفّال: إنه هو والمتواتر بمعنى واحد. أفاده السخاوي (1). والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"المشهور" أنه قال: (من) شرطيّة مبتدأ (حدّث عنّي بحديث يُرى) قال النوويّ رحمه اللهُ تعالى: ضبطناه يُرى بضم الياء. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد أنه مبنيّ للمفعول لفظًا، ولكن معناه معنى المبنيّ للفاعل؛ لأنه بمعنى يَظُنّ مبنيّا للفاعل. قال ابن منظور نقلًا عن "تهذيب الأزهريّ": قال الليث: يقال من الظنّ رِيتُ -بكسر الراء- فلانًا أخاك، ومن هَمَزَ قال: رُؤِيتُ، فإذا قلت: أرى وأخواتها لم تهمز، قال: ومن قلب الهمز من رأى قال: راء، كقولك: نأى وناء. وقال ابن الأثير: رُؤي فعل لم يُسمّ فاعله، من رأيتُ بمعنى ظننت، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: رأيت زيدًا عاقلًا، فإذا بنيته لما لم يُسمّ فاعله تعدّى إلى مفعول واحد، فقلت: رُؤي زيد عاقلًا. انتهى (2).
وهذا الذي ذكرنا من ضبط "يُرَى" بصيغة المبني للمفعول هو المشهور، وذكر بعض الأئمة جواز فتح الياء من "يَرَى"، قال النووي رحمه اللهُ تعالى: وهو ظاهر حسن، فأما من ضم الياء فمعناه:"يَظُنُّ"، وأما من فتحها فظاهر، ومعناه: وهو يعلم، ويجوز أن يكون بمعنى يَظُنّ أيضا، فقد حُكِيَ رَأَى بمعنى ظَنّ.
وقَيّد بذلك؛ لأنه لا يأثم إلا بروايته ما يعلمه، أو يظنه كذبا، أما ما لا يعلمه، ولا يظنه، فلا إثم عليه في روايته، وإن ظنه غيره كذبا، أو عَلِمَهُ. انتهى (3).
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه اللهُ تعالى في "المفهم": قيّدنا عن مشايخنا "يَرَى" مبنيّا للفاعل والمفعول، فـ"يَرَى" بالفتح بمعنى "يَعْلَم" المتعدّية لمفعولين، و"أن" سدّت مسدّهما، وماضي "يَرى""رأى" مهموزًا، وإنما تركت العرب همز المضارع؛ لكثرة الاستعمال، وقد نطقوا به على الأصل مهموزًا في قولهم [من الطويل]:
أَلَمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصُرُ
…
وَمَنْ يَتَمَنَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ
وربّما تركوا همز الماضي في قولهم [من الخفيف]:
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ
…
رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَا فِي الْحِلَابِ؟
(1)"فتح المغيث" 4/ 8 - 9.
(2)
"لسان العرب" 14/ 304.
(3)
"شرح النوويّ" 1/ 64.
ويحتمل ما في الحديث أن يكون بمعنى الرأي، فيكون ظنّا، من قولهم: رأيت كذا: أي ظهر لي، وعليهما يكون المقصود بالذمّ الذي في الحديث المتعمّد للكذب علمًا أو ظنّا.
وأما "يُرَى" بالضمّ فهو مبنيّ لما لم يُسمَّ فاعله، ومعناه الظنّ، وإن كان أصلها مُعدّى بالهمزة من "رأى"، إلا أن استعماله في الظنّ أكثر وأشهر. انتهى كلام القرطبيّ (1).
(أَنَّهُ كَذِبٌ) في تأويل المصدر مفعول ثان لـ"يُرى"، والأول ضمير "من"(فَهُوَ أَحَدُ الَكَاذِبِينَ) -بكسر الباء، وفتح النون- على الجمع، وهذا هو المشهور في ضبطه، قال النووي: قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا "الكاذِبِينَ" على الجمع. ورواه أبو نعيم الأصبهانى في كتابه "المستخرج على صحيح مسلم" في حديث سمرة "الكاذبِيَنِ" -بفتح الباء، وكسر النون- على التثنية، واحتج به على أن الراوي له يُشارِك البادىء بهذا الكذب، ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة "الكاذِبَينِ" أو "الكاذِبِينَ" على الشك في التثنية والجمع. انتهى (2).
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه اللهُ تعالى: قوله: "أحد الكاذبين" رويناه بكسر الباء على الجمع، فيكون معناه: أنه أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قال الله تعالى في حقّهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} الآية [الزمر: 60]؛ لأن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبٌ على الله تعالى. ورويناه أيضًا بفتح الباء على التثنية، ويكون معناه. أن المحدِّثَ والمحدَّثَ بما يظنّان أو يَعلَمان كذبه كاذبان، هذا بما حدّث، والآخر بما تحمّل من الكذب مع علمه أو ظنّه لذلك. ويفيد الحصر التحذير عن أن يُحدّث أحدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما تحقّق صدقه علمًا أو ظنّا، إلا أن يُحدّث بذلك على جهة إظهار الكذب، فإنه لا يتناوله الحديث. وفي كتاب الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتّقوا الحديث عنّي إلا بما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار"، وقال: هذا حديث حسن (3). انتهى كلام القرطبيّ (4). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"المفهم" 1/ 111 - 112.
(2)
المصدر السابق.
(3)
أخرجه الترمذيّ برقم (2951) وفي سنده سفيان بن وكيع، وعبد الأعلى بن عامر ضعيفان، فتحسين الترمذيّ له فيه نظر. والله تعالى أعلم.
(4)
"المفهم" 1/ 112.