الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح، كالكتب الستّة، ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزّار، ومعاجم الطبرانيّ، وأفراد الدارقطنيّ، وهي مجمع الغرائب، والمناكير انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (1). وهو بحثٌ نفيسٌ جدّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال المصنّف رحمه الله تعالى:
(فَأَرَدتَ -أَرْشَدَكَ اللهُ- أَنْ تُوَقَّفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مُؤَلَّفَةً، مُحْصَاةً، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ فَي التَّأْلِيفِ، بِلَا تَكْرَارٍ يَكْثُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ زَعَمْتَ مِمَّا يَشْغَلُكَ عَمَّا لَهُ قَصَدتَ، مِنَ التَّفَهُّمِ فِيهَا، وَالاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا).
الشرح الإجماليّ لهذه الفقرة:
بَيّن رحمه الله تعالى أن هذا الذي همّ أن يبحث عن جملة الأخبار طلب منه أن يُطْلِعَه على جملة من تلك الأحاديث مجموعة في كتاب واحد مَضبوطة، ويبيّنها له بلا إكثار تكرار؛ لأن ذلك يَشْغَله عن مقصوده الذي هو الغَوْص في الفهم، والاستنباط. والله تعالى أعلم.
الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(فَأَرَدتَ) أي طلبت، يقال: أراد الرجل كذا إرادة: إذا طلبه، واختاره (2)(أَرْشَدَكَ اللهُ) جملة دعائيّة معترضة بين الفعل، ومفعوله. أي هداك الله لإصابة الصواب، لأن معنى الرشد -بضمّ، فسكون-: الصلاح، وهو خلاف الغَيّ والضلال، وهو إصابة الصواب، والهمزة للتعدية، يقال ت رَشِدَ يرشَدُ رَشَدًا، من باب تَعِبَ، ورَشَدَ يَرشُدُ رُشدًا، من باب قَتلَ، فهو راشد، والاسم الرَّشَاد (3)(أَنْ تُوقَفَ) بضم أوله مبنيّا للمفعول، وتخفيف القاف، من الوقْفِ، أو تشديدها، من التوقيف، أي تُعَلَّم، يقال: وقَفْتُ فلانًا على ذَنْبه وَقْفًا، ووَقَّفْتُهُ تَوْقِيفًا: أطلعته عليه. كما يستفاد من عبارة المجد في "القاموس"، وابن منظور في "اللسان"(عَلَى جُمْلَتِهَا) أي مجموع تلك الأخبار، وهو متعلّق بـ "توقف"(مُؤَلَّفَةً) منصوب على الحال، أي حال كونها مؤلّفة.
قال أبو البقاء الكفويّ في "الكليّات": التأليف هو جمع الأشياء المتناسبة، من الأُلْفة، وهو حقيقة في الأجسام، ومجاز في الحروف. و"التنظيم": من نظم الجواهر، وفيه جَوْدة التركيب. والتأليف بالنسبة إلى الحروف؛ لتصير كلمات، والتنظيم بالنسبة إلى
(1) راجع من "شرح علل الترمذيّ" ج 2 ص 621 - 624. بتحقيق الدكتور همام عبد الرحيم.
(2)
أفاده في "المصباح المنير". مادة رود.
(3)
أفاده في "المصباح".
الكلمات؛ لتصير جُملًا.
و"التركيب": ضمّ الأشياء مؤتلفةً كانت، أولًا، مرتّبة الوضع، أو لا، فالمركّب أعمّ من المؤلّف، والمرتّب، مطلقًا، و"الترتيب": أعمّ مطلقًا من التنضيد؛ لأن الترتيب عبارة عن وقوع بعض الأجَسام فوق بعض، و"التنضيد": عبارة عن وقوع بعضها فوق بعض على سبيل التماس اللازم لعدم الخلاء. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المرأد بالتأليف في كلام المصنّف هنا ضمّ الأحاديث الصحاح بعضها إلى بعض على وجه متناسب، بأن يكون وضع السابق يستدعي وضع اللاحق بعده؛ لكون الفائدة الحاصلة منه مترتبة عليه. والله تعالى أعلم. (مُحْصَاةً) صفة لـ "مؤلّفة"، اسم مفعول، من أحصى الشيءْ: إذا عَدَّه، أو حفِظَه، أو عَقَلَه. كما في "القاموس". أي معدودة، محفوظة.
(وَسَأَلْتَنِي أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ) من التلخيص، وهو التبيين، والشرح، والتلخيص. كما في "القاموس". أي أبيّنها، وأشرحها لك (فَي التَّأْلِيفِ) أي في الكتاب المؤلّف، فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويحتمل أن يكون على أصله، و"في" بمعنى الباء السببيّة، أي أبيّنها بسبب التأليف لها (بِلَا تَكْرَار) أي بغير إعادة الحديث، و"التكرار" -بفتح التاء-: اسم من كَرَّر الشيءَ تكريرًا: إذا أعاده مرارًا، كما تفيده عبارة "المصباح". وفي "القاموس": وكَرَّره تكريرًا، وتَكْرَارًا، وتَكِرَّةً، كَتَحِلَّةٍ، وكَرْكَرَةً: أعاده مرّةً بعد أُخرى انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن تاء "التكرار" مفتوحةٌ، لا غير، وأما ما اشتهر على ألسنة الناس من كسرها، فمن لحنهم. فتنبّه.
[تنبيه]: دخلت "لا" في قوله: "بلا تكرار" بين الجارّ والمجرور، واختَلَفَ فيها النحاة، فقال الكوفيّون: هي اسم بمعنى "غير"، وأن الجارّ دخل عليها نفسِهَا، وأن ما بعدها مجرورٌ بإضافتها إليه. وقال غيرهم: هي زائدة، كما زيدت "كان" في نحو قولك:"زيد كان فاضلٌ"، وإن كانت مفيدة لمعنًى هو المضيّ والانقطاع، وأرادوا بالزائد المعترضَ بين شيئين متطالبين، وإن لم يصحّ أصل المعنى بإسقاطه، كما هنا. فتنبّه. أفاده ابن هشام الأنصاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "مغنيه"(2).
(يَكْثُرُ) جملة في محلّ جرّ صفة لكرارٍ، وقيّده بالكثرة، إشارةً إلى أن التكرار غير
(1)"الكليّات" لأبي البقاء ص 288.
(2)
راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ج 1 ص 245 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.
الكثير لا بأس به؛ لأنه لا يشغل عن المقصود (فَإِنَّ ذَلِكَ) إشارة إلى التكرار الكثير (زَعَمْتَ) أي قلت؛ لأن الزعم يُطلق على القول الحقّ، وإن كان أكثر استعماله لغير المحقّق. قال الفيّوميّ: زَعَم زَعْمًا، من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمّها لأسد، وكسرها لبعض قيس. ويطلق بمعنى القول، ومنه: زَعَمَتِ الحنفيّة. وزعم سيبويه، أي قال، وعليه قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} الآية [الإسراء: 92]. أي كما أخبرت. ويطلق على الظنّ، يقال: في زعمي كذا، وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} الآية [التغابن: 7]. قال الأزهريّ: وأكثر ما يكون الزعم فيما يُشكّ فيه، ولا يتحَقَّق. وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب. وقال المرزوقيّ: أكثر ما يُستعمل فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب. وقال ابن الْقُوطيّة: زعم زَعْمًا: قال خبرًا لا يُدرَي، أحقٌّ هو أو باطلٌ. قال الخطّابيّ: ولهذا قيل، "زعم مطيّة الكذب". انتهى عبارة الفيّويّ (1).
(مِمَّا يَشْغَلُكَ) بفتح الياء، من شَغَلَه الأمر، ثلاثيًّا، من باب نَفَع. وأما أشغله بالألف، فلغة رديئة، أو قليلة (2)، كما أفاده في "اللسان" (3). وفي "المصباح": شَغَلَه الأمر شَغْلًا، من باب نَفَع، فالأمر شَاغِلٌ، وهو مَشْغُولٌ، والاسم الشُّغْل -بضمّ الشين، وتضمّ الغين، وتسكّن للتخفيف- وشُغِلتُ به بالبناء للمفعول: تَلَهّيتُ به. قال الأزهريّ: واشتغل بأمره، فهو مُشتَغِلٌ، أي بالبناء للفاعل. وقال ابن فارس: ولا يكادون يقولون: اشتَغَلَ، وهو جائزٌ -يعني بالبناء للفاعل- ومن هنا قال بعضهم: اشتُغِلَ بالبناء للمفعول، ولا يجوز بناؤه للفاعل؛ لأن الافتعال إن كان مطاوعًا فهو لازمٌ، لا غير، وإن كان غير مطاوعٍ فلا بدّ أن يكون فيه معنى التعدّي، نحو اكتَسَبت المالَ، واكتَحَلْتُ، واختَضَبْتُ: أي كَحَلتُ عيني، وخَضَبْتُ يدي، واشتغلت ليس بمطاوعٍ، وليس فيه معنى التعدّي. وأجيب بأنه في الأصل مطاوعٌ لفعلٍ هُجِرَ استعمالُهُ في فصيح الكلام، والأصل: أشغلته بالألف، فاشتغَلَ، مثل أحرقته، فاحترق، وأكملتُهُ، فاكتمل، وفيه معنى التعدّي، فإنك تقول: اشتغلت بكذا، فالجارّ والمجرور في معنى المفعول، وقد نصّ الأزهريّ على استعمال "مُشْتَغِلٍ"، و"مُشْتَغَلٍ". انتهت عبارة "المصباح"(4).
وكتب الزَّبيديّ في "التاج" عند قول صاحب "القاموس": وأشغله لغة جيّدة، أو
(1) المصباح المنير.
(2)
وأما ما في "القاموس": من أن أشغله لغة جيّدة، فردّه الشارح بأنه ليس منقولًا عن أحد من أئمّة اللغة، فتنبّه.
(3)
راجع "لسان العرب" في مادّة شغل.
(4)
راجع "المصباح المنير" في مادّة شغل.