الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم أن أرجح الأقوال في معنى الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثناء الله تعالى عليه عند ملائكته الكرام، وهو يستلزم معنى الرحمة أيضًا، فإن الله تعالى لا يثني على عبده في الملأ الأعلى إلا إذا أحبّه، ومن أحبّه رحمه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في معنى "محمّد" اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، واشتقاقه:
لقد أجاد ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى في هذا الموضوع في كتابه "جلاء الأفهام" أيضًا، فأجمل، وأفاد، قال: ما مُلخّصه:
هذا الاسم هو أشرف أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو علَمٌ منقولٌ من الحمد، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمّن الثناء على المحمود، ومحبّته، وإجلاله، وتعظيمه، هذا هو حقيقة الحمد، وبُني على زنة مُفَعَّلٍ، مثل مُعَظَّم، ومُحَبَّبٍ، ومُسَوَّدٍ، ومُبَجَّلٍ، ونظائرها؛ لأن هذا البناء موضوعٌ للتكثير، فإن اشتُقّ منه اسم فاعل، فمعناه من كثُرَ صدور الفعل منه مرّة بعد مرّة، كمعلِّم، ومُفهِّمِ، ومُبيِّنٍ، ونحوها، وإن اشتُقّ منه اسم مفعول، فمعناه مَن كثُر وقوع الفعل عليه مرّةَ بعد أُخرى، إما استحقاقًا، أو وقوعًا، فمحمّد هو الذي كثُر حمد الحامدين له مرّةً بعد أُخرى، أو الذي يستحقّ أن يُحمد مرّة به أخرى. ويقال. حُمِّدَ فهو مُحمَّد، كما يقال. عُلِّم فهو معلَّمٌ.
وهو علَمٌ، وصفةٌ اجتمع فيه الأمران في حقّه صلى الله عليه وسلم، وإن كان علمًا مختصًّا في حقّ كثير ممن تسمّى به غيره. وهذا شأن أسماء الله تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيّه، هي أعلام دالّةٌ على معانٍ هي بها أوصافٌ، فلا تُضادّ فيها العلميّة الوصف، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله، الخالق، البارىء، المصوّر، القهّار، فهذه أسماء له، دالّة على معان هي صفاته، وكذلك القرآن، والفرقان، والكتاب المبين، وغير ذلك من أسمائه.
وكذلك أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم: محمد، وأحمد، والماحي. وفي حديث جُبير بن مُطعَم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنّ لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر". فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء مبيّنًا ما خصّه الله به من الفضل، وأشار إلى معانيها، وإلا فلو كانت أعلامًا محضةً لا معنى لها، لم تدلّ على مدحٍ، ولهذا قال حسّان ([من الطويل]:
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ
…
فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وكذلك أسماء الربّ تعالى كلّها مدحٌ، فلو كانت ألفاظاً مجرّدةً، لا معانيَ لها لم تدلّ على المدح، وقد وصفها الله صلى الله عليه وسلم بأنها حُسْنَى كلّها، فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا} الآية [الأعراف: 180] فهي لن تكون حُسنَى لمجرّد اللفظ، بل لدلالتها على أوصاف الكمال، ولهذا لَمّا سمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ:"والسارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالًا من الله، والله غفور رحيم" قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارىء: أتُكَذِّبُ بكلام الله تعالى؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله، فعاد إلى حفظه، وقرأ:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، فقال الأعرابيّ: صدقتَ، عَزَّ، فحكم، ولو غفر، ورحِمَ لما قطع.
ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم العذاب، أو بالعكس ظهر تنافر الكلام، وعدم انتظامه.
وفي "السنن" من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه حديث: قراءة القرآن على سبعة أحرف، ثم قال:"ليس منها إلا شافٍ كافٍ، إن قلت: سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب".
ولو كانت هذه الأسماء أعلامًا محضة، لا معنى لها، لم يكن فرق بين ختم الآية بهذا، أو بهذا.
ثم قال رحمه الله تعالى: إذا ثبت هذا، فتسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه، من مسمّاه، وهو الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم محمود عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلّهم، وإن كفر به بعضهم، فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كلّ عاقل، وإن كابر عقله جُحُودًا وعنادًا، وجهلًا باتصافه بها، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال، وإن جهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامدٌ له، وهو صلى الله عليه وسلم اختصّ من مسمّى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإن اسمه محمد، وأحمد، وأمته الحمّادون، يَحمَدون الله في السرّاء والضرّاء، وصلاته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هكذا كان عند الله في اللوح المحفوظ أن خُلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة، ولَمّا يسجد بين يدي ربّه صلى الله عليه وسلم للشفاعة، ويؤذن له فيها، يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأوّلون والآخرون، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقد أطال النفس ابن القيّم رحمه الله في هذا بما لا تجده عند غيره (1).
(1) راجع "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" ص 92 - 108.