الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوجد منهما، ولا من أحدهما لا تصريحًا، ولا إشارةً أن ما تركاه فيه علّة خفية منعتهما من إخراجه، بل صرّحا بخلافه، فقد صحّ عن البخاريّ قوله:"ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صحّ، وتركت من الصحاح لحال الطول"(1). وصح عن مسلم أنه قال لابن وارة لَمّا لامه: "إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: صحيح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف". وقد سبق بيان هذا.
وأيضًا لو سلكنا هذا المسلك لترتّبت عليه مفسدة عظيمة، وذلك تشكيك الأمة أن كلّ ما ليس في "الصحيحين" من الحديث معلّ، وهذا هو الذي خشيه الإمامان: أبو زرعة الرازي، وابن وراة، كما تقدّم بيان ذلك. فليُتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية عشرة: في ذكر المستخرجات على الكتابين
اعلم: أن الاستخراج هو أن يأتي المصنّف إلى كتاب من الكتب المصنفة، فيخرّج أحاديثه بأسانيدَ لنفسه، من غير طريق صاحب ذلك الكتاب، ويجتمع معه في شيخه، أو من فوقه. قال الحافظ رحمهُ اللهُ تعالى وشرطه أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يَفقِد سندًا يوصله إلى الأقرب إلا لعذر من علوّ، أو زيادة مهمّة. قال: ولذلك يقول أبو عوانة في "مستخرجه" على مسلم بعد أن يسوق طرق مسلم كلّها من هنا لمخرّجه، ثم يسوق أسانيد يجتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك، وربّما قال: من هنا لم يُخرّجاه، قال: ولا يُظنّ أنه -يعني البخاريّ ومسلمًا- فإني استقريت صنيعه في ذلك فوجدته إنما يعني مسلمًا وأبا الفضل أحمد بن سلمة، فإنه كان قرين مسلم، وصنّف مثل مسلم، وربّما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سندًا يرتضيه، وربّما ذكرها من طريق صاحب الكتاب. أفاده في "التدريب"(2).
وقال الحافظ السخاويّ رحمهُ اللهُ تعالى: الاستخراج أن يَعْمِد حافظ إلى "صحيح البخاريّ" مثلًا، فيورد أحاديثه حديثًا حديثًا بأسانيدَ لنفسه، غير ملتزم فيها ثقة الرواة، وإن شذّ بعضهم حيث جعله شرطًا، من غير طريق البخاريّ إلى أن يلتقي معه في شيخه، أو في شيخ شيخه، وهكذا، ولو في الصحابيّ، كما صرّح به بعضهم. لكن لا يسوغ للمخرج العدول عن الطريق التي يقرب اجتماعه مع مصنّف الأصل فيها إلى الطريق البعيدة إلا لغرض من علوّ، أو زيادة حكم مهمّ، أو نحو ذلك. ومقتضى الاكتفاء بالالتقاء في الصحابيّ أنهما لو اتّفقا في الشيخ مثلًا، ولم يتّحد سنده عندهما، ثم
(1)"مقدمة ابن الصلاح" ص 15 - 16.
(2)
"التدريب" 1/ 112.
اجتمع في الصحابيّ إدخاله فيه، وإن صرّح بعضهم بخلافه، وربّما عزّ على الحافظ وجود بعض الأحاديث، فيتركه أصلًا، أو يُعلّقه عن بعض رواته، أو يورده من جهة مصنّف الأصل. انتهى. كلام السخاويّ (1).
وقال الحافظ الذهبيّ رحمهُ اللهُ تعالى: ليس في "صحيح مسلم" من العوالي إلا ما قل، كالقعنبي عن أفلح بن حميد، ثم حديث حماد بن سلمة، وهمام، ومالك، والليث، وليس في الكتاب حديث عال لشعبة، ولا للثوري، ولا لإسرائيل، وهو كتاب نفيس، كامل في معناه، فلما رآه الحفاظ أُعْجِبوا به، ولم يسمعوه؛ لنزوله، فَعَمُدوا إلى أحاديث الكتاب، فساقوها من مروياتهم، عالية بدرجة، وبدرجتين، ونحو ذلك، حتى أتوا على الجميع هكذا، وسَمَّوه المستخرج على "صحيح مسلم"، فعل ذلك عِدّة من فُرْسان الحديث، منهم. أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء المتوفّى سنة (286)، وأبو عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفراييني المتوفّى (316)، وزاد في كتابه متونا معروفة، بعضها لَيِّنٌ، والزاهد أبو جعفر أحمد بن حمدان الْحِيِري المتوفّى (311)، وأبو الوليد حسان ابن محمد الفقيه المتوفى (344)، وأبو حامد أحمد بن محمد الشاركي الهروي المتوفّى (350)، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن زكريا الْجَوْزَقي (2) المتوفى (388)، والإمام أبو علي الماسرجسي (365)، وأبو نعيم، أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (430)، وآخرون، لا يحضرني ذكرهم الآن. انتهى (3).
وقال الشيخ أبو عمرو رحمهُ اللهُ تعالى: صنف على "صحيح مسلم": قوم من الحفاظ تأخروا عن مسلم، وأدركوا الأسانيد العالية، وفيهم من أدرك بعض شيوخ مسلم، فخرجوا أحاديثه في تصانيفهم تلك، بأسانيدهم تلك، فالتحقت به، في أن لها سمة الصحيح، وإن لم تلتحق به في خصائصه كلّها، ويستفاد من مخرجاتهم المذكورة علو الإسناد، وفوائد تنشأ من تكثير الطرق، ومن زيادة ألفاظ مفيدة، ثم إنهم لم يلتزموا فيها الموافقة في ألفاظ الأحاديث، من غير زيادة ولا نقص؛ لكونهم يروونها بأسانيد أُخَر، فأوجب ذلك بعض التفاوت في بعض الألفاظ.
ولنزد بعض ما تيسّر ذكره ممن لم يذكرهم الذهبيّ رحمهُ اللهُ تعالى:
فمنها: "مستخرج على صحيح مسلم" لأبي الفضل محمد بن أبي الحسين بن عمار الشهيد المتوفّى سنة (323). وأبي عمران موسى بن العباس الجوينيّ النيسابوريّ المتوفّى
(1)"فتح المغيث" 1/ 44.
(2)
نسبة إلى جَوْزَق بوزن جعفر: قرية بنيسابور، وهراة. قاله في "اللبّ" 1/ 221.
(3)
"سير أعلام النبلاء" 12/ 568 - 570.
سنة (323)، وأبي محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم الطوسيّ البلاذريّ (339)، وقاسم ابن أصبغ البيانيّ القرطبيّ (340)، وأبي سعيد أحمد بن أبي بكر محمد بن إسماعيل الحيريّ النيسابوريّ (353)، وأبي عليّ محمد بن عبد العزيز الزَّغُونيّ (359)، وأبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان المعروف بـ "أبي الشيخ"(369)، وأبي عبد الله الحسين بن أحمد الشماخي (372)، وأبي نصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسيّ.
ومنها: المستخرجات على "الصحيحين" لمحمد بن يعقوب بن الأخرم (344) وأبي بكر بن عبدان الشيرازيّ، وأحمد بن محمد الْبَرْقَانيّ (425)، وحسن بن محمد الخلال (435)، وعلي بن موسى النيسابوريّ السكريّ (465)، وأبي محمد عبد الغنيّ ابن عبد الواحد المقدسيّ (600)، وغيرها. (1). والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: اعلم أن المستخرجات المذكوره لم يلتزم أصحابها فيها موافقة "الصحيحين" في الألفاظ؛ لأنهم إنما يروون بالألفاظ التي وقعت لهم عن شيوخهم، فلذا حصل فيها تفاوت قليل في اللفظ، وأقلّ منه في المعنى. ومثلُ هذا ما رواه البيهقيّ في "السنن"، و"المعرفة"، وغيرهما، والبغوي في "شرح السنة"، وشبههما قائلين رواه البخاريّ، أو مسلم، فقد وقع في بعضه تفاوت، فيُحمل على أنهم أرادوا بذلك أن الشيخين رويا أصل الحديث، دون اللفظ الذي أوردوه، وحينئذ فلا يجوز أن تنقل من المستخرجات، وما ذُكر معها حديثًا، وتقول هو كذا فيهما، إلا أن تقابله بهما، أو يقول المصنّف: أخرجاه بلفظه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكنّ هذا أي صنيع البيهقي ونحوه من عزو الحديث إلى الصحيح، والمراد أصله، غير مستحسن؛ إذ الأحسن الاعتناء ببيان ما وقع فيه الاختلاف، حذرا من إيقاع من لا يَعرِف الاصطلاح في اللبس.
وفصّل ابن دقيق العيد رحمهُ اللهُ تعالى في ذلك، فقال: إذا كنت في مقام الرواية فلك العزو ولو خالف؛ لأنه عُرِف أن أجل قصد المحدث السند، والعثور على أصل الحديث، دون ما إذا كنت في مقام الاحتجاج، فمن رَوَى في المعاجم والمشيخات ونحوها، فلا حرج عليه في الإطلاق، بخلاف من أورد ذلك في الكتب المبوبة، لاسيما إن كان الصالح للترجمة قطعة زائدة على ما في الصحيح. انتهى (2).
(1) راجع "صيانة صحيح مسلم" ص 87 - 89 و"سير أعلام النبلاء" 12/ 568 - 570 و"التدريب" 1/ 111 وما كتبه الشيخ مشهور في كتابه "الإمام مسلم بن الحجاج" 2/ 603 - 608.
(2)
"تدريب الراوي" 1/ 114.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الذي ذكره ابن دقيق العيد لي توقّفٌ؛ لأن اللبس المحذور حاصل فيه أيضًا، فالأولى التقيّد بما سبق من البيان. والله تعالى أعلم.
وإلى هذا أشار السيوطيّ في "نظم الدرر"، فقال:
وَاسْتَخْرَجُوا عَلَى "الصَّحِيْحَيْنِ"بِأَنْ
…
يَرْوِي أَحَادِيثَ كِتَابٍ حَيْثُ عَنْ
لا مِنْ طَرِيقِ مَنْ إِلَيْهِ عَمَدَا
…
مُجْتَمِعًا فِي شَيْخِهِ فَصَاعِدَا
فَرُبَّمَا تَفَاوَتَتْ مَعْنىً وَفِي
…
لَفْظٍ كَثِيرًا فَاجْتَنِبْ أَنْ تُضِفِ
إِلَيْهَمَا وَمَنْ عَزَا أَرَادَا
…
بِذَلِكَ الأَصْلَ وَمَا أَجَادَا
وأما المختصرات، كمختصر الزبيديّ لصحيح البخاريّ، ومختصر المنذريّ لصحيح مسلم، ومختصر القرطبيّ له، فإنها بخلاف ذلك؛ لأن أصحابها ينقلون فيها ألفاظهما، من غير زيادة ولا تغيير، فلك أن تنقل منها، وتعزو ذلك للصحيح، ولو باللفظ، ومثل ذلك الجمع بين "الصحيحين" للإمام عبد الحقّ الإشبيليّ.
وأما الجمع لأبي عبد الله الحميدي الأندلسي، ففيه زيادة ألفاظ، وتتمات على "الصحيحين" بلا تمييز، قال ابن الصلاح: وذلك موجود فيه كثيرا، فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن "الصحيح"، وهو مخطئ لكونه زيادة ليست فيه. قال العراقي: وهذا مما أنكر على الحميدي؛ لأنه جمع بين كتابين، فمن أين تأتي الزيادة، قال: واقتضى كلام ابن الصلاح أن الزيادات التي تقع في كتاب الحميدي لها حكم الصحيح، وليس كذلك؛ لأنه ما رواها بسنده كالمستخرج، ولا ذكر أنه يزيد ألفاظا، واشترط فيها الصحة حتى يُقَلَّد في ذلك.
وقد تعقّب الحافظ اعتراض العراقيّ هذا، بأن الحميدي قد أشار إلى ما يبطل ما اعتَرَضَ به عليه إجمالا وتفصيلا، أما إجمالا فقال في خطبة "الجمع": وربما زدت زيادات، من تتمات، وشرح لبعض ألفاظ الحديث، ونحو ذلك، وقفت عليها في كتب من اعتنى بالصحيح، كالإسماعيلي، والْبَرْقَاني، وأما تفصيلا فعلى قسمين: جلي، وخفي، أما الجلي فيسوق الحديث، ثم يقول في أثنائه: إلى هنا انتهت رواية البخاري، ومن هنا زاده البرقاني، وأما الخفي فإنه يسوق الحديث كاملا أصلا وزيادة، ثم يقول: أما من أوله إلى موضع كذا، فرواه فلان، وما عداه زاده فلان، أو يقول: لفظة كذا زادها فلان، ونحو ذلك. انتهى.
[فائدة مهمة]: اعلم أنه إذا كان الحديث في "الصحيحين"، أو في أحدهما لا
ينبغي عزوه إلى غيرهما، إلا أن يقرن بهما، أو بأحدهما، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا الأَعْلَامُ
…
وَمَنْ حَذَا خِلَافَهَا يُلَامُ
إِذَا الْحَدِيثُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" يَرِدْ
…
أَوْ كَانَ فِي أَحَدِ ذَيْنِ قَدْ وُجِدْ
فَعَزْوُهُ لِمَا سِوَاهُمَا غَلَطْ
…
إِلَّا إِذَا بِعَزْوِ ذَيْنِ يُرْتَبَطْ (1)
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: أشار الشيخ أبو عمرو في كلامه السابق إلى بعض فوائد المستخرجات، فذكر منها ثلاث فوائد:
الأولى: علوّ الإسناد. الثانية: زيادة قوّة الحديث بكثرة طرقه. الثالثة: زيادة ألفاظ صحيحة مفيدة. ونزيد على هذا ما ذكره العلماء من بقية فوائد المستخرجات، فمنها، وهي:
الرابعة: تبيين المبهم، كحدثنا رجلٌ. الخامسة: تبيين المهمل، كحدّثني محمد، وكان في مشايخه محمدون، فيبينه المستخرِج. السادسة: بيان سماع المدلّس، كأن يكون في "الصحيح" عن المدلّس بـ "عن"، فيبينه المستخرج بتصريحه بالسماع. السابعة: بيان سماع الراوي من المختلطين، كأن يروي في "الصحيح" عن المختلط، ولم يبين هل سمعه الراوي منه قبل الاختلاط، أم بعده؟ فيبينه المستخرج، إما تصريحًا، وإما بأن يرويه عن طريق من لم يسمع منه إلا قبل الاختلاط. الثامنة: زوال أيّ علّة أُعلّ بها حديث في "الصحيح"، بأن يذكره المستخرِج بدون تلك العلّة. التاسعة: عدالة من أُخرج له فيه؛ لأن الْمستخرج على شرط "الصحيح" يلزمه أن لا يُخرج إلا عن ثقة عنده. العاشرة: ما يقع فيها من التمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه، وذلك كثير في مسلم جدّا، فإنه يخرج الحديث على لفظ بعض الرواة، ويُحيل باقي ألفاظ الرواة على ذلك اللفظ الذي يورده (2).
وقد نظمت هذه الفوائد بقولي:
يَا طَالِبًا فَوَائِدَ الْمُسْتَخْرَجِ
…
فَاسْمَعْ لأَبْيَاتٍ بُعَيْدَ ذَا تَجِي
أَوَّلُهَا صِحَّةُ مَا يُزَادَ، مِنْ
…
لَفْظٍ وَثَانِيهَا عُلُوٌّ فَاسْتَبِنْ
(1) انظر "رفع الأستار" للشيخ حسن محمد مشّاط ص 33.
(2)
راجع شرحي "إسعاف ذوي الوطر على ألفية الأثر" 1/ 57 - 59.