الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث: ما تفرد فيه بعض الرواة بزيادة، لم يذكرها أكثر منه، أو أضبط، وهذا لا يؤثر التعليل به، إلا إن كانت الزيادة منافية، بحيث يتعذر الجمع، وإلا فهي كالحديث المستقل، إلا إن وضح بالدليل القوي أنها مدرجة من كلام بعض رواته، فهو مؤثر.
الرابع: ما تفرد به بعض الرواة، ممن ضُعّف، وليس في "الصحيح" من هذا القبيل، غير حديثين، تبين أن كلا منهما قد توبع:
[أحدهما]: حديث إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: "أن عمر استعمل مولى له يُدْعَى هُنيّا على الحمى
…
" الحديث بطوله. قال الدارقطني: إسماعيل ضعيف. قال الحافظ: ولم ينفرد به، بل تابعه معن بن عيسى عن مالك، ثم إن إسماعيل ضعفه النسائي وغيره، وقال أحمد وابن معين في رواية: لا بأس به. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وإن كان مغفلا. وقد صح أنه أخرج للبخاري أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثه؛ لأنه كتب من أصوله، وأخرج له مسلم أقل مما أخرج له البخاري.
[ثانيهما]: حديث أُبَيّ بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال:"كان للنبي صلى الله عليه وسلم فرس، يقال له: اللَّحِيف"(1). قال الدارقطني: أُبَيّ ضعيف. قال الحافظ: تابعه عليه أخوه عبد المهيمن.
القسم الخامس: ما حُكِم فيه على بعض الرواة بالوهم، فمنه ما لا يؤثر قدحا، ومنه ما يؤثّر.
السادس: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح؛ لإمكان الجمع، أو الترجيح. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى (2). وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة السادسة: في ذكر ما امتاز به صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى
قال النوويّ رحمه الله تعالى: سلك مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" طرقا بالغة في الإحتياط، والإتقان، والورع، والمعرفة، وذلك مُصَرِّح بكمال ورعه، وتمام معرفته، وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه، وتقعدده في هذا الشأن، وتمكنه من أنواع
(1)"اللحيف" بفتح اللام، وكسر الحاء، فَعيل بمعنى فاعل، كأنه يلحف الأرض بذنبه لطوله: أي يغطّيها. ويقال: بالخاء المعجمة، كما حكاه البخاريّ. ويقال: اللُّحيف بضم اللام، وفتح الحاء مصغّرًا. وروي بالنون بدل اللام من النحافة. روى ابن سعد: أنه أهداه له ربيعة بن نزار، فأثابه عليه من نعم بني كلاب.
(2)
راجع "تدريب الراوي" 1/ 135 - 138.
معارفه، وتبريزه في صناعته، وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه، لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار، فرحمه الله ورضي عنه، وأنا أذكر أحرفا من أمثلة ذلك، تنبيها بها على ما سواها، إذ لا يَعْرِف حقيقةَ حاله إلا من أحسن النظر في كتابه، مع كمال أهليته، ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة، كالفقه، والأصولين، والعربية، وأسماء الرجال، ودقائق علم الأسانيد، والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم، ومع حسن الفكر، ونباهة الذهن، ومداومة الإشتغال به، وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها.
فمن تحري مسلم رحمه الله تعالى اعتناؤه بالتمييز بين "حدثنا"، و"أخبرنا"، وتقييده ذلك على مشايخه، وفي روايته، وكان من مذهبه رحمه الله تعالى الفرق بينهما، وأن "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و"أخبرنا" لما قرىء على الشيخ، وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه، وجمهور أهل العلم بالمشرق، قال محمد بن الحسن الجوهري المصري: وهو مذهب أكثر أصحاب الحديث، الذين لا يحصيهم أحد، ورُوي هذا المذهب أيضًا عن ابن جريج، والأوزاعي، وابن وهب، والنسائي، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.
وذهب جماعات إلى أنه يجوز أن تقول فيما قرىء على الشيخ: حدثنا، وأخبرنا، وهو مذهب الزهريّ، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وآخرين من المتقدمين، وهو مذهب البخاريّ، وجماعة من المحدثين، وهو مذهب معظم الحجازيين، والكوفيين.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز إطلاق "حدثنا" ولا "أخبرنا" فى القراءة، وهو مذهب ابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، والمشهور عن النسائي. والله تعالى أعلم.
[تنبيه مهم] يتعلّق بهذه القاعدة:
قال أبو عبد الله الحاكم: الذي أختاره أنا في الرواية، وعَهِدت عليه أكثر مشايخي، وأئمة عصري، أن يقول الراوي فيما سمعه وحده، من لفظ الشيخ: حدثني بالإفراد، وفيما سمعه منه مع غيره: حدثنا بالجمع، وما قرأ عليه بنفسه: أخبرني، وما قُرئ على المحدث بحضرته: أخبرنا. ورُوي نحوُه عن عبد الله بن وهب، صاحب مالك، رَوَى الترمذي عنه في "العلل"، قال: ما قلتُ: "حدثنا" فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت "حدثني" هو ما سمعت وحدي، وما قلت:"أخبرنا" فهو ما قرئ على
العالم، وأنا شاهد، وما قلت:"أخبرني" فهو ما قَرأت على العالم. ورواه البيهقي في "المدخل" عن سعيد بن أبي مريم، وقال: عليه أدركت مشايخنا، وهو قول الشافعي، وأحمد. قال ابن الصلاح: وهو حسن رائق. قال العراقي: وفي كلامهما أن القارئ يقول: أخبرني، سواء سمعه معه غيره أم لا. وقال ابن دقيق العيد في "الإقتراح": إن كان معه غيره قال: أخبرنا، فَسَوَّى بين مسألتي التحديث والإخبار. قال السيوطيّ: الأول أولى؛ ليتميز ما قرأه بنفسه، وما سمعه بقراءة غيره.
فإن شك الراوي هل كان وحده حالة التحمل، فالأظهر أن يقول: حدثني، أو يقول: أخبرني، لا حدثنا، وأخبرنا؛ لأن الأصل عدم غيره.
وكل هذا مستحب باتفاق العلماء، لا واجب، ولا يجوز إبدال حدثنا بأخبرنا، أو عكسه في الكتب المؤلفة، وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف، لا في نفس ذلك التصنيف بأن يغير، ولا فيما يُنقل منه إلى الأجزاء والتخاريج، وما سمعتَه من لفظ المحدث فإبداله على الخلاف في الرواية بالمعنى، فإن جوزناها جاز الإبدال، إن كان قائله يرى التسوية بينهما، ويُجَوِّز إطلاق كليهما بمعنى، وإلا فلا يَجُوز إبدال ما وقع منه، ومنع الإمام أحمد بن حنبل الإبدال جزما (1).
وإلى ما تقدّم أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الأثر"، حيث قال:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِىءٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
وَحَيْثُ شُكَّ فِي سَمَاعٍ أَوْ عَدَدْ
…
أَوْ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ وَحِّدْ فِي الأَسَدْ
وَلَمْ يُجَوَّزْ مِنْ مُصَنَّفٍ وَلَا
…
مِنْ لَفْظ شَيْخٍ فَارِقٍ أَنْ يُبْدَلَا
"أَخْبَرَ" بِالتَّحْدِيثِ أَوْ عَكْسٌ بَلَى
…
يَجُوزُ إِن سَوَّى وَقِيلَ حُظِلَا
قال النوويّ رحمه الله تعالى: ومن ذلك اعتناؤه بضبط اختلاف لفظ الرواة، كقوله: حدثنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، قال: أو قالا: حدثنا فلان، وكما إذا كان بينهما اختلاف فى حرف من متن الحديث، أو صفة الراوي، أو نسبه، أو نحو ذلك، فإنه يبينه، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان في بعضه اختلاف فى المعنى، ولكن كان خفيا، لا يَتَفَطَّن له إلا ماهر في العلوم التي ذكرتها فى أول الفصل، مع اطلاع على دقائق الفقه، ومذاهب الفقهاء.
(1) راجع "التدريب" 2/ 20 - 22.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي أشار إليه النوويّ هنا قد أوضحه في "التدريب"، ودونك عبارته.
قال: إذا كان الحديث عنده عن اثنين، أو أكثر، واتفقا في المعنى دون اللفظ، فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدهما، فيقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، أو هذا لفظ فلان، قال، أو قالا: أخبرنا فلان، ونحوه من العبارات، ولمسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" عبارة حسنة، كقوله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيد الأشجّ، كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد، عن الأعمش، فظاهره حيث أعاده ثانيًا أن اللفظ لأبي بكر، قال العراقي: ويحتمل أنه أعاده لبيان التصريح بالتحديث، وأن الأشج لم يصرح. فإن لم يخص أحدهما بنسبة اللفظ إليه، بل أتى ببعض لفظ هذا، وبعض لفظ الآخر، فقال: أخبرنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظ، أو والمعنى واحد، قالا: حدثنا فلان جاز على جواز الرواية بالمعنى، دون ما إذا لم يجوزها. قال ابن الصلاح. وقول أبي داود. حدثنا مسدد، وأبو توبة المعنى، قالا: حدثنا أبو الأحوص، يحتمل أن يكون من قبيل الأول، فيكون اللفظ لمسدد، ويوافقه أبو توبة في المعنى، ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني، فلا يكون أورد لفظ أحدهما خاصة، بل رواه عنهما بالمعنى، قال: وهذا الإحتمال يقرب في قول مسلم: المعنى واحد. فإن لم يقل: "وتقاربا في اللفظ"، فلا بأس به، على جواز الرواية بالمعنى، وإن كان قد عيب به البخاري وغيره.
وإذا سمع من جماعة كتابا مصنفا، فقابل نسخته بأصل بعضهم دون الباقي، ثم رواه عنهم كلهم، وقال: اللفظ لفلان المقابَلِ بأصله، فيحتمل جوازه كالأول؛ لأن ما أورده قد سمعه بنصه ممن يذكر أنه بلفظه، ويحتمل منعه؛ لأنه لا علم عنده بكيفية رواية الآخرين، حتى يخبر عنها، بخلاف ما سبق، فإنه اطلع فيه على موافقة المعنى، قاله ابن الصلاح، وحكاه أيضًا العراقي، ولم يرجح شيئا من الإحتمالين. وقال البدر بن جماعة في "المنهل الرَّوِيّ": يحتمل تفصيلا آخر، وهو النظر إلى الطرق، فإن كانت متباينة بأحاديث مستقلة لم يجز، وإن كان تفاوتها في ألفاظ، أو لغات، أو اختلاف ضبط جاز. انتهى (1).
وإلى هذه القاعدة أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الأثر" حيث قال:
وَمَنْ رَوَى مَتْنًا عَنَ أشْيَاخٍ وَقَدْ
…
تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ
(1) راجع "تدريب الراوي" 2/ 111 - 112.
مُقْتَصِرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ
…
يُبَيِّنِ اخْتِصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ
أَوْ قَالَ قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ
…
وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى عَلَى خُلْفٍ حَكَوْا
وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ
…
مَعْ قَالَ أَوْ قَالَا فَذَاكَ أَحْسَنُ
قال النوويّ رحمه الله تعالى: ومن ذلك تحريه فى رواية صحيفة همام بن منبه، عن أبي هريرة، كقوله: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم، فليستنشق
…
" الحديث. وذلك لأن الصحائف، والأجزاء، والكتب المشتملة على أحاديث بإسناد واحد، إذا اقتصر عند سماعها على ذكر الإسناد فى أولها، ولم يُجَدِّد عند كل حديث منها، وأراد إنسان ممن سمع كذلك، أن يُفرد حديثًا منها غير الأول بالإسناد المذكور فى أولها، فهل يجوز له ذلك، قال وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيليِّ الشافعي الإمام في الحديث، والفقه، والأصول: يجوز ذلك، وهذا مذهب الأكثرين من العلماء؛ لأن الجميع معطوف على الأول، فالإسناد المذكور أولا في حكم المعاد في كل حديث. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائينيّ الفقيه الشافعي، الإمام في علم الأصولين، والفقه، وغير ذلك: لا يجوز ذلك، فعلى هذا من سمع هكذا، فطريقه أن يُبَيِّن ذلك، كما فعله مسلم، فمسلم رحمه الله تعالى سلك هذا الطريق ورعًا، واحتياطًا، وتحريا، وإتقانًا، رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه النوويّ في هذه المسألة بإيضاح: أن النسخ، والأجزاء المشتملة على أحاديث بإسناد واحد، كنسخة همام بن منبه، عن أبي هريرة، روايةِ عبد الرزاق، عن معمر، عنه، من المحدثين من يُجَدّد الإسناد، فيذكره أول كل حديث منها، وهو أحوط، وأكثر ما يوجد في الأصول القديمة، وأوجبه بعضهم، ومنهم من يكتفي به في أول حديث منها، أو أول كل مجلس من سماعها، ويُدْرِج الباقي عليه، قائلا -في كل حديث بعد الحديث الأول-:"وبالإسناد"، أو "وبه"، وهو الأغلب الأكثر، فمن سمع هكذا، فأراد رواية غير الأول مفردا عنه بإسناد، جاز له ذلك عند الأكثرين، منهم وكيع، وابن معين، والإسماعيلي؛ لأن المعطوف له حكم المعطوف عليه، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب، بإسناده المذكور في أوله، ومنعه بعض أهل الحديث، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، رأوا ذلك تدليسًا، فعلى هذا طريقه أن يبين، ويَحْكِي ذلك، وهو على الأول أحسن، كقول مسلم في الرواية من نسخة همام: حدثنا محمد بن رافع، ثنا عبد
الرزاق، أنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، وذكر أحاديث، منها: وقال رسول صلى الله عليه وسلم (1): "إن أدنى مقعد أحدكم في الجنة
…
" الحديث، واطرد لمسلم ذلك، وكذا فعله كثير من المؤلفين، وأما البخاري، فإنه لم يسلك قاعدة مطردة، فتارة يذكر أول حديث في النسخة، ويعطف عليه الحديث الذي يُساق الإسناد لأجله، كقوله في "الطهارة": حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
…
" الحديث، فأشكل على قوم ذكره: "نحن الآخرون السابقون" في هذا الباب، وليس مراده إلا ما ذكرناه. وتارة يقتصر على الحديث الذي يريده، وكأنه أراد بيان أن كِلا الأمرين جائز.
وأما إعادة بعض المحدثين الإسناد آخر الكتاب، أو الجزء، فلا يرفع هذا الخلاف الذي يمنع إفراد كل حديث بذلك الإسناد عند روايتها؛ لكونه لا يقع متصلا بواحد منها، إلا أنه يفيد احتياطًا، ويتضمن إجازة بالغة، من أعلى أنواعها، ويفيد سماعه لمن لا يسمعه أَوّلًا (2).
وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "نظم الدُّرَر"، حيث قال:
وَنُسَخٌ إِسْنَادُهَا قَدِ اتَّحَدْ
…
نَدْبًا أَعِدْ فِي كُلِّ مَتْنٍ فِي الأَسَدْ
لَا وَاجِبًا وَالْبَدْءُ فِي أَغْلَبِهِ
…
بِهِ وَبَاقٍ أَدْرَجُوا معْ "وَبِهِ"
وَجَازَ مَعْ ذَا ذِكْرُ بَعْضٍ بِالسَّنَدْ
…
مُنْفَرِدًا عَلَى الأَصَحِّ الْمُعْتَمَدْ
وَالْمَيْزُ أَوْلَى وَالَّذِي يُعِيدُ
…
فِي آخِرِ الْكِتَابِ لا يُفِيدُ
قال (3): ومن ذلك تحريه في مثل قوله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعنى ابن بلال- عن يحيى -وهو ابن سعيد- فلم يستجز رحمه الله تعالى أن يقول: سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد؛ لكونه لم يقع في روايته منسوبًا، فلو قاله منسوبًا لكان مخبرا عن شيخه أنه أخبره بنسبه، ولم يخبره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل هذه المسألة بإيضاح، أنه ليس للراوي أن
(1) وإعراب هذا الكلام أن نقول: قوله: "هذا ما حدثنا أبو هريرة" جملة من مبتدأ وخبر، وقوله:"وذكر أحاديث" جملة فعليّة معطوفة على الجملة الإسمية قبلها، وفاعل "ذكر" ضمير همام بن منبّه، وقوله:"منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم""منها" جار ومجرور خبر مقدّم، و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مبتدأ مؤخّرٌ؛ لقصد لفظه. فتنبّه لهذا، فقد رأيت من يرتبك في هذا الإعراب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(2)
راجع "التدريب" 2/ 116 - 117.
(3)
القائل هو النوويّ.
يزيد في نسب غير شيخه من رجال الإسناد، ولا صفته على ما سمعه من شيخه؛ لئلا يكون كاذبا على شيخه، فإن أراد تعريفه، وإيضاحه، وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره، فطريقه أن يقول: قال: حدثني فلان، يعني ابن فلان، أو الفلانيّ، أو هو ابن فلان، أو الفلانيّ، أو نحو ذلك، فهذا جائز حسن، قد استعمله الأئمة، وقد أكثر البخاريّ ومسلم منه في "الصحيحين" غاية الإكثار، حتى إن كثيرا من أسانيدهم يقع في الإسناد الواحد منها موضعان، أو أكثر من هذا الضرب، كقوله في أول كتاب البخاريّ في "باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده": قال أبو معاوية: حدثنا داود -هو ابن أبي هند- عن عامر، قال: سمعت عبد الله -هو ابن عمرو-. وكقوله فى كتاب مسلم في "باب منع النساء من الخروج إلى المساجد": حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن يحيى -وهو ابن سعيد-، ونظائره كثيرة، وإنما يقصدون بهذا الإيضاح كما ذكرنا أَوّلًا، فإنه لو قال: حدثنا داود، أو عبد الله، لم يعرف مَن هو؟ ؛ لكثرة المشاركين فى هذا الإسم، ولا يَعْرِف ذلك فى بعض المواطن إلا الخواص، والعارفون بهذه الصنعة، وبمراتب الرجال، فأوضحوه لغيرهم، وخففوا عنهم مؤونة النظر والتفتيش. ذكره النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه"(1).
وهذا كلّه فيما إذا لم يذكره الشيخ بنسبه أو نحوه في أول حديث الكتاب، أما إذا ذكره بتمامه في أول حديثه، ثم اقتصر في باقي الأحاديث، على اسمه، أو بعض نسبه، فقد حكى الخطيب عن أكثر العلماء جواز روايته تلك الأحاديث مفصولة عن الحديث الأول، مستوفيا نسب شيخ شيخه. وعن بعضهم أن الأولى فيه أيضًا أن يقول: يعني ابن فلان. وعن علي بن المديني وغيره، كشيخه أبي بكر الأصبهاني الحافظ، أنه يقول: حدثني شيخي أن فلان ابن فلان حدثه. وعن بعضهم أنه يقول: أنا فلان، هو ابن فلان، واستحب هذا الأخير الخطيب؛ لأن لفظة "أن" استعملهما قوم في الإجازة. قال ابن الصلاح: وكله جائز، وأولاه أن يقول: هو ابن فلان، أو يعني ابن فلان، ثم قوله: أن فلان ابن فلان، ثم أن يذكره بكماله، من غير فصل. ذكره في "التدريب"(2).
وهذا الفصل -كما قال النوويّ- نفيس يعظم الإنتفاع به، فإن من لا يعاني هذا الفن، قد يتوهم أن قوله:"يعني"، وقوله:"هو"، ونحو ذلك زيادة لا حاجة إليها، وأن الأَوْلى حذفها، وهذا جهل قبيح. (3).
وإلى ما تقدّم أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيته"، حيث قال:
(1) راجع "شرح النووي" 1/ 38 - 39.
(2)
راجع "التدريب" 2/ 113 - 114.
(3)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 38 - 39.