الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: في قوله: "وسنزيد شرحًا وإيضاحًا الخ
":
اعلم: أن هذا الذي ذكره مسلم رحمه الله تعالى من أنه يبيّن علل الأخبار مما اختُلف فيه، فقيل: اخترمته المنيّة قبل جمعه، وقيل: بل ذكره في أبوابه من هذا الكتاب الموجود، وهذا الثاني هو الصواب الذي يدلّ عليه دلالةً واضحة سياق كلامه هنا وقد تقدّم قول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "وكذلك علل الحديث التي ذكر وعد أنه يأتي بها قد جاء بها في مواضعها من الأبواب، من اختلافهم في الأسانيد، كالإرسال، والإسناد، والزيادة، والنقم، وذكر تصاحيف المصحّفين. انتهى.
ولنذكر أمثلةً على ما رجّحناه من أنه وفى بما وعد به من بيان العلل ما تيسّر:
فمنها: ما أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها في المستحاضة التي جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه أنها قالت له: أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلّي". أخرج ذلك من طريق وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه به، ثم أخرجه من طرُق عن حماد بن زيد، عن هشام بمثل حديث وكيع، ثم قال: وفي حديث حمّاد زيادة حرف تركنا ذكره. والحرف الذي ترك ذكره هو قوله: "وتوضئي"(1).
وهذا الحديث قد أخرجه النسائيّ في "سننه" من طريق حماد، وفيه تلك الزيادة، ولفظه:"وإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم، وتوضئي". ثم قال النسائيّ: ولا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث: "وتوضئي" غير حمّاد بن زيد، وقد روى غير واحد عن هشام، ولم يذكر فيه "وتوضئي".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمامان: مسلم والنسائيّ من تفرّد حماد بن زيد بهذه الزيادة غير مسلّم، فقد وافقه أبو معاوية عند البخاريّ في "صحيحه"، والترمذيّ في "جامعه"، وحماد بن سلمة عند الدارميّ، ويحيى بن سُليم، عند السرّاج، وأبو حمزة السُّكَّريّ عند ابن حبّان في "صحيحه"، بلفظ:"فاغتسلي، وتوضّئي لكلّ صلاة".
والحاصل أن زيادة الأمر بالوضوء ليست مما تفرّد بها حماد بن زيد كما ادّعاه المصنّف والنسائيّ، بل رواها جماعة كما سمعت، وقد حقّقت هذا كله في "شرح النسائيّ" 4/ ص 311 - 312 رقم 138/ 217 فراجعه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم بالصواب.
ومنها: ما أخرجه من حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
(1) راجع "صحيح مسلم" 1/ 263.
صومه
…
وسئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال رضي الله عنه: "ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعِثتُ"، قال مسلم: وفي هذا الحديث من رواية شعبة قال: وسُئل عن صوم يوم الاثنين والخميس؟ فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وَهْمًا. انتهى. فقد بيّن رحمه الله تعالى أن ذكر "الخميس" غلط من شعبة، فتركه لذلك، وروى الحديث من رواية أبان العطّار، ومهديّ ابن ميمون كلاهما عن غيلان بن جرير شيخ شعبة فيه، وليس فيه ذكر "الخميس"(1). والله تعالى أعلم.
ومنها: ما يكون بيانه العلة عن طريق الإشارة، مثل ما أخرجه من طريق هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد الأنصاريّ، قال: قال أبو قتادة، واقتصّ الحديث، فقد جرى ههنا على خلاف عادته، من إخراج الحديث التامّ أوّلًا، ثم عطف باقي الأحاديث التي في معناه عليه، وإشارته إلى ما فيها من الزيادة والنقص، فلم يسُق المتن هنا، بل اكتفى بقوله:"واقتصّ الحديث"، إشارة إلى أن له علّةً.
وقد بيّن هذا البيهقيّ رحمه الله تعالى حيث أخرج الحديث من طريق هُشيم، وفيه:"من أقام البيّنة على أسيرٍ فله سَلَبه"، قال: والحفّاظ يرونه خطأ، فمالك بن أنس، والليث ابن سعد روياه عن يحيى، فقال الليث في الحديث:"من أقام البيّنة على قتيل، فله سلبه"، وقال مالك:"من قتل قتيلًا، له عليه بيّنةٌ، فله سلَبه"، ولم يقُل أحدٌ فيه:"على أسير" غير هُشيم، وبيّن البيهقيّ صنيع مسلم في هذا الحديث، فقال: فقد أخرج مسلم إسناد هذا الحديث في "الصحيح"، ولم يسُق متنه.
ومنها: ما أخرجه من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع: ذُكر لابن عمر عُمرةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، قال:"لم يعتمر منها"(2)، وقد خفيت هذه العمرة على ابن عمر لأسباب ذكرها الحافظ في "الفتح"(3)، وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر منها، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فقد أجاد مسلم رحمه الله في صنيعه حيث لم يسق المتن إشارة إلى كونه معلًّا، فلله درّه.
ومنها: ما أخرجه من طرق عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "
…
فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا" (4) ومن بين هذه الطرق طريق ابن عيينة، وقد ابتدأ بسردها، ثم سرد غيرها، ولم يذكر لفظ ابن عيينة؛ لأن الصحيح في رواية
(1) راجع "صحيح مسلم" 2/ 819 - 820 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(2)
راجع "صحيح مسلم" 3/ 1278 رقم 1656.
(3)
راجع "الفتح" 8/ 35 و 6/ 253 و 3/ 600.
(4)
"صحيح مسلم" 1/ 420 - 421 رقم 602.
الزهريّ غيرها، فقد رواها عنه ابن عيينة بلفظ:"فاقضوا". قال الحافظ: وحكم مسلم في "التمييز" عليه بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسنادها في "صحيحه"، لكن لم يسُق لفظه. انتهى (1). وهذا وإن لم يبيّن العلة صريحًا، إلا أن تركه ذكر لفظه يدلّ على الإشارة إليها، ولذا ترى الحافظ الرشيد العطار الذي قدّمنا رسالته في مقدّمة هذا الشرح يُكثر من ذكر الأمثلة على هذا النحو، ثم يوجّهه بأنه أوردها في الشواهد؛ ليكثر طرق الحديث، وليُنبّه على المخالفة فيه، انظر مثلًا "غرر الفوائد المجموعة" الأرقام 14 و 15 و 17 و 18 وغيرها.
ومنها: ما أخرجه من حديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج في حديث القسامة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"أتحلفون خمسين يمينًا، فتستحقّون صاحبكم، أو قاتلكم؟ "، قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا"، قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفّار؟ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أعطى عقله (2).
فقد أخرجه من طرق عن يحيى بن سعيد، عن بُشَير بن يسار به، وأخرجه من طريق سعيد بن عبيد، حدثنا بُشَير بن يسار الأنصاريّ، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره أن نفرًا منهم انطلقوا إلى خيبر، فتفرّقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، قال: وساق الحديث، وقال فيه: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (3).
ففي هذه الرواية علة، حيا ذُكر فيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سألهم البينة، مع أنها لم تأت في الحديث، وحذف موضع حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة، وهي الثابتة في الحديث، فاكتفى مسلم في "الصحيح" بإيراد الإسناد، وأول القصّة، وحذف موضع العلة منه.
وقد ذكر رواية سعيد بن عبيد هذه بتمامها في كتابه "التمييز"، ومثّل بها للحديث الذي نُقل على الوهم في متنه، ولم يُحفظ، ومما قاله فيه بعد كلام طويل: ما نصّه: فقد ذكرنا جملة من أخبار أهل القسامة في الدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها مذكور فيها سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهم قسامة خمسين يمينًا، وليس في شيء من أخبارهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سألهم البينة، إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره، وترك سعيد القسامة في الخبر، فلم يذكره، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة. انتهى (4).
ومنها: ما أخرجه من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنس
(1)"فتح" 2/ 118.
(2)
"صحيح مسلم" 3/ 1291 - 1292.
(3)
"صحيح مسلم" 3/ 1294.
(4)
"التمييز" ص 144 - 146.
ابن مالك رضي الله عنه يحدث عن ليلةَ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائمٌ في المسجد الحرام
…
وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البنانيّ، وقدّم فيه شيئًا وأخّر، وزاد ونقص (1).
فقوله: "وقدّم فيه شيئًا وأخّر، وزاد ونقص" يُشعر بأن شريكًا لم يضبطه، وأنه حصل له فيه الوهم، ولذا قال ابن القيم: وقد غلّط الحفّاظ شريكًا في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدّم وأخّر، وزاد، ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد انتهى (2).
وقد بيّن الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح" في "كتاب التوحيد" ج: 13 ص: 485 تلك الإنتقادات، وساقها، وهي أكثر من عشرة، فراجعه تستفد (3).
ومنها: أنه يقوم أيضًا ببيان تصحيفات المصحّفين من الرواة، سواء كان في الإسناد، أم في المتن.
فمنها: قوله: وحدّثنا خلَف بن هشام، حدثنا مالك بن أنس (ح) وحدثنا يحيى
(1)"صحيح مسلم" 1/ 38 رقم 4.
(2)
"زاد المعاد" 3/ 42.
(3)
وحاصل كلامه هناك أن مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك، قال:
(الأول): أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات، وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم، وقد وافقه الزهري في بعض ما ذكر. (الثاني): كون المعراج قبل البعثة. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بأن القبلية هنا في أمر مخصوص، وليست مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلا، أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن يُنذر به، ويؤيده قوله في حديث الزهري:"فُرِج سقف بيتي". (الثالث): كونه مناما. (الرابع): مخالفته في محل سدرة المنتهى، وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة، أو السادسة. (الخامس): مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى. (السادس): شق الصدر عند الإسراء. (السابع): ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة. (الثامن): نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل، والمشهور في الحديث أنه جبريل. (التاسع): تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسع. (العاشر): قوله: فعلا به الجبار، فقال: وهو مكانه. (الحادي عشر): رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع. (الثاني عشر): زيادة ذكر التَّوْر في الطست. قال: فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث، لم أرها مجموعة في كلام أحد ممن تقدم. وقد جزم ابن القيم في "الهدي" بأن في رواية شريك عشرة أوهام، لكن عَدَّ مخالفته لمحالّ الأنبياء أربعة منها، وأنا جعلتها واحدة، فعلى طريقته تزيد العدة ثلاثة. وبالله التوفيق. انتهى كلام الحافظ باختصار.
ابن يحيى -واللفظ له- قال: قرأت على مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن جُدامة بنت وهب الأسديّة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة
…
" الحديث. قال مسلم: وأما خلف فقال: عن جُذامة الأسديّة، والصحيح ما قاله يحيى بالدال. انتهى. وأيد الدارقطنيّ ما قاله مسلم، حيث قال: وهي بالجيم والدال غير معجمة، ومن ذكرها بالذال فقد صحّف. انتهى (1).
ومنها: قوله في آخر حديث أنس رضي الله عنه: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرّة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذَرَّة"(2). فصحف شعبة: "ذَرّة" بفتح الذال، وتشديد الراء إلى "ذُرَة" بضم الذال، وتخفيف الراء.
ومنها: بيانه الإدراج في الحديث، فقد أخرج حديث الملاعنة من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعدن أن عويمرًا الأنصاري
…
قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله
…
الحديث، ثم أخرجه أيضًا عن سهل بن سعد، ثم قال: وساق الحديث بمثل حديث مالك، وأدرج في الحديث قوله:"وكان فراقه إياها بعدُ سنة في المتلاعنين"، وزاد فيه: قال سهل: فكان حاملًا، فكان ابنها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أنه يرثها
…
الخ. وهذا من المدرج وسط المتن.
ومن الإدراج في آخره ما أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب
…
" قال: وأحبّ القيد، وأكره الغلّ، والقيد ثبات في الدين، فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين. ثم أتبعه طريقًا آخر، وفيه: وقال في الحديث: قال أبو هريرة: فيُعجبني القيد، وأكره الغلّ، والقيد ثبات في الدين، ثم أعقبه طريقًا آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال مسلم: وأدرج في الحديث قوله: "وأكره الغلّ
…
". فقد بيّن بإدراج ذكر القيد والغلّ، وقد صرّح بذلك الخطيب البغداديّ.
ومنها: أنه ربما أشار إلى الإدراج من غير تصريح بلفظ الإدراج، فقد أخرج حديث جرير بن عبد الله: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها -يعني العصر والفجر- ثم قرأ جرير:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 13]. ثم
(1)"المؤتلف والمختلف" 2/ 899.
(2)
"صحيح مسلم" 1/ 182.
أتبعه طريقًا آخر، ثم قال:"قال: ثم قرأ"، ولم يقل: جرير (1).
فقد أشار في الطريق الثانية إلى الإدراج، أي أن قراءة الآية لجرير، وليست مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد صرّح ذلك البيهقيّ في "السنن الكبرى"، والحافظ في "الفتح"(2).
ومنها: أنه ربما أتى بلفظة تؤدّي معنى الإدراج، مثل ما أخرج من طريق عبيد الله ابن عمر، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الْقَزَع، وبيّن أن تفسير القزع من نافع، ثم ساقه من طريقين وجعل التفسير من عبيد الله، ثم ذكره من طريق عثمان بن عثمان الغطفاني، وروح كلاهما عن عمر بن نافع، ولم يسق متنه، بل اكتفى بقوله: مثله، وألحقا التفسير فى الحديث (3)، فنبّه بهذا على أن عثمان ورَوْحًا أدرجا التفسير في روايتهما (4).
ومنها: أنه ربما رتّب الطرق، فبيّن بذلك ما وقع فيها من الإدراج، مثال ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مجيء داعي الجنّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقراءته القرآن عليهم، قال ابن مسعود:"فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كلُّ عظم ذُكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكلُّ بعرة علف لدوابّكم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم".
ثم رواه من طريق إسماعيل بن غبراهيم، عن داود، وقال: بسنده إلى قوله: وآثار نيرانهم، "قال الشعبيّ":"وسألوه الزاد إلى آخره"، فبيّن أنه من قول الشعبيّ منفصلا من حديث عبد الله، ثم أخرجه من طريق عبد الله بن إدريس، عن داود به بدون ذكر "وسألوه" إلى آخره، لا متّصلًا، ولا منفصلًا.
فقد أخرج الحديث في الطريق الأولى متضمنًا الإدراج، ثم أخرجه من الطريق الثاني مبيّنًا أن قوله:"وسألوه الزاد الخ" من قول الشعبيّ مرسلًا، وليس من حديث عبد الله، ثم أخرجه من الطريق الثالث، وليس فيه تلك الزيادة لا متصلة، ولا منفصلة.
وقد جزم الدارقطنيّ بالإدراج، حيث قال:"وآخر الحديث إنما من قول الشعبيّ مرسل، وليس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (5) ".
(1)"صحيح مسلم" 1/ 439 - 440.
(2)
"السنن الكبرى" 1/ 309 "فتح الباري" 2/ 34.
(3)
"صحيح مسلم" 3/ 1675.
(4)
راجع "فتح الباري" 10/ 364 - 365.
(5)
"التتبّع رقم (234). وراجع "شرح النوويّ" 4/ 170.