الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ رَوَى مَتْنًا صَحِيحًا يَجْزِمُ
…
أَوْ وَاهِيًا أَوْ حَالُهُ لا يُعْلَمُ
مِنْ غَيْرِ مَا إِسْنَادِهِ يُمَرِّضُ
…
وَتَرْكَهُ بَيَانَ ضُعْفٍ قَدْ رَضُوا
فِي الْوَعْظِ أَوْ فَضَائِلِ الأَعْمَالِ
…
لَا الْعَقْدِ وَالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ
وَلَا إِذَا يَشْتَدُّ ضُعْفٌ ثُمَّ مَنْ
…
ضُعْفًا رَأَى فِي سَنَدٍ وَرَامَ أَنْ
يَقُولَ فِي الْمَتْنِ صَحِيحٌ
…
قَيَّدَا بِسَنَدٍ خَوْفَ مَجِيءِ أَجْوَدَا
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثامنة: فيما يلزم الحديثيّ من تعلّم علم النحو ونحوه:
اعلم: أنه ينبغي لقارىء الحديث أن يعرف من النحو، واللغة، وأسماء الرجال، ما يسلم به من قوله ما لم يُقَل، وإذا صح في الرواية ما يَعلَم أنه خطأ، فالصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، أنه يرويه على الصواب، ولا يغيره في الكتاب، لكن يكتب في الحاشية، أنه وقع في الرواية كذا، وأن الصواب خلافه كذا، ويقول عند الرواية: كذا وقع في هذا الحديث، أو في روايتنا، والصواب كذا، فهذا أجمعُ للمصلحة، فقد يعتقده خطأ، ويكون له وجه يَعرِفه غيره، ولو فُتِح باب تغير الكتاب، لتجاسر عليه غير أهله. قاله النوويّ رحمهُ اللهُ تعالى.
وقال في "التدريب": ينبغي للشيخ أن لا يروي حديثه بقراءة لحان أو مصحف، فقد قال الأصمعي: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم:"من كَذَب علي فليتبوأ مقعده من النار"؛ لأنه لم يكن يَلحَن، فمهما رَوَيتَ عنه، ولحنت فيه كذبت عليه. وشكا سيبويه حمادَ بنَ سلمة إلى الخليل، فقال له: سألته عن حديث هشام بن عروة، عن أبيه، في رجل رَعُف، فانتهرني، وقال أخطأت إنما هو رَعَف -بفتح العين- فقال الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا أسامة؟ .
وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، رَوَى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث، ولم يبصر العربية، كمثل رجل عليه بُرْنُس، وليس له رأس. ورَوَى أيضا عن حماد بن سلمة قال: مثلُ الذي يطلب الحديث، ولا يعرف النحو مثل الحمار، عليه مِخْلاة ولا شعير فيها. ورَوَى الخليلي في "الإرشاد" عن العباس بن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: جاء عبد العزيز الدراوردي في جماعة إلى أبي ليَعْرِضُوا عليه كتابا، فقرأ لهم الدراورديُّ، وكان رديء اللسان يَلْحَن، فقال أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك.
وطريقه في السلامة من التصحيف الأخذُ من أفواه أهل المعرفة والتحقيق، والضبط عنهم، لا من بطون الكتب.
وإذا وقع في روايته لحن أو تحريف، فقد قال ابن سيرين، وعبد الله بن سخبرة، وأبو معمر، وأبو عبيد القاسم بن سلام، فيما رواه البيهقي عنهما: يرويه على الخطأ كما سمعه، قال ابن الصلاح: وهذا غُلُوّ في أتباع اللفظ، والمنع من الرواية بالمعنى، والصواب، وهو قول الأكثرين، منهم ابن المبارك، والأوزاعي، والشعبي، والقاسم بن محمد، وعطاء، وهمَّام، والنضر بن شُميل أنه يرويه على الصواب، لا سيما في اللحن الذي لا يختلف المعنى به، واختار ابن عبد السلام تركَ الخطأ والصواب أيضا، حكاه عنه ابن دقيق العيد، أما الصواب فإنه لم يسمع كذلك، وأما الخطأ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْه كذلك.
وأما إصلاحه في الكتاب، وتغيير ما وقع فيه، فجوزه بعضهم أيضا، والصواب تقريره في الأصل على حاله، مع التضبيب عليه، وبيان الصواب في الحاشية، فإن ذلك أجمع للمصلحة، وأنفى للمفسدة، وقد يأتي من يَظهَرُ له وجه صحته، ولو فتح باب التغيير لجسر عليه من ليس بأهل، ثم الأولى عند السماع، أن يقرأه أوّلًا على الصواب، تم يقول: وقع في روايتنا، أو عند شيخنا، أو من طريق فلان كذا، وله أن يقرأ ما في الأصل أوّلًا، ثم يذكر الصواب، وإنما كان الأوّلُ أَوْلَى، كيلا يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وأحسن الإصلاح أن يكون بما جاء في رواية أخرى، أو حديث آخر.
وإن كان الإصلاح بزيادة الساقط من الأصل، فإن لم يغاير معنى الأصل، فلا بأس بإلحاقه في الأصل من غير تنبيه على سقوطه، بأن يعلم أنه سقط في الكتابة، كلفظة "ابن" في النسب، وكحرف لا يختلف المعنى به، وقد سأل أبو داود أحمدَ بن حنبل، فقال: وجدت في كتابي حجاج "عن جريج" يجوز لي أن أصلحه ابن جريج؟ قال: أرجو أن يكون هذا لا بأس به. وقيل لمالك: أرأيت حديث النبي صلى الله عليه وسلم يزاد فيه الواو والألف، والمعنى واحد؟ فقال: أرجو أن يكون خفيفا.
وإن غاير الساقط معنى ما وقع في الأصل، تأكد الحكم بذكر الأصل، مقرونا بالبيان لما سقط، فإن علم أن بعض الرواة له أسقطه وحده، وأن من فوقه من الرواة أَتَى به فله أيضا أن يُلحقه في نفس الكتاب، مع كلمة "يعني" قبله، كما فعل الخطيب، إذ رَوَى عن أبي عمر بن مهدي، عن المحاملي بسنده إلى عروة، عن عمرة -يعني عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدني إليّ رأسه، فأرجله"، قال الخطيب: كان في أصل ابن مهدي "عن عمرة قالت: كان"، فألحقنا فيه ذكر عائشة -رضي الله عنا-، إذ لم يكن منه
بُدّ، وعلمنا أن المحاملي كذلك رواه، وإنما سقط من كتاب شيخنا، وقلنا له ما فيه "يعني"؛ لأن ابن مهدي لم يقل لنا ذلك، قال: وهكذا رأيت غير واحد من شيوخنا يفعل في مثل هذا، ثم رَوَى عن وكيع، قال: أنا أستعين في الحديث بـ "يعني"، هذا إذا عُلم أن شيخه رواه له على الخطأ، فأما إن رواه في كتاب نفسه، وغلب على ظنه أن السقط من كتابه، لا من شيخه، فيتجه حينئذ إصلاحه في كتابه، وفي روايته عند تحديثه كما تقدم عن أبي داود.
كما إذا دَرَسَ من كتابه بعضُ الإسناد، أو المتن، بتقطع، أو بَلَلٍ، ونحوه، فإنه يجوز له استدراكه من كتاب غيره، إذا عَرَفَ صحتَهُ، ووثِقَ به، بأن يكون أخذه عن شيخه، وهو ثقة، وسكَنَت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط، كذا قال أهل التحقيق، وممن فعله نُعيم بن حماد، ومنعه بعضهم، وإن كان معروفا محفوظا، نقله الخطيب عن أبي محمد بن ماسي، وبيانه حال الرواية أولى، قاله الخطيب.
وهكذا الحكم في استثبات الحافظ ما شك فيه، من كتاب غيره من الثقات، أو حفظه، كما رُوي عن أبي عوانة، وأحمد، وغيرهما، ويحسن أن يبين مرتبته، كما فعل يزيد بن هرون وغيره، ففي "مسند أحمد": حدثنا يزيد بن هرون، أنا عاصم بالكوفة، فلم أكتبه، فسمعت شعبة يحدث به، فعرفته به، عن عاصم، عن عبد الله بن سَرْجِسَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا سافر قال:"اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر"، وفي غير "المسند" عن يزيد: أنا عاصم، وثبتني فيه شعبة.
فإن بَيّن أصل التثبت من دون من ثبّته فلا بأس، فَعَلَه أبو داود في "سننه" عقب حديث الحكم بن حزن، قال ثَبّتني في شيء منه بعض أصحابنا.
وإن وَجَدَ في كتابه كلمةً من غريب العربية، غير مضبوطة، أَشكَلَت عليه، جاز أن يسأل عنها العلماء بها، ويرويها على ما يُخبرونه به، فَعَلَ ذلك أحمد، وإسحق، وغيرهما. ورَوَى الخطيب عن عفّان بن سلمة، أنه كان يجيء إلى الأخفش، وأصحاب النحو، يَعْرِض عليهم نحو الحديث، يُعْرِبه. انتهى ما في "التدريب" ببعض تصرّف. (1).
وإلى ما تقدّم كلّه أشار السيوطيّ رحمهُ اللهُ تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَاحْذَرْ مِنَ اللَّحْنِ أَوِ التَّصْحِيفِ
…
خَوْفًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ
فَالنَّحْوُ وَاللُّغَاتُ حَقُّ مَنْ طَلَبْ
…
وَخُذْ مِنَ الأَفْوَاهِ لَا مِنَ الْكُتُبْ
فِي خَطَإٍ وَلَحْنِ أَصْلٍ يُرْوَى
…
عَلَى الصَّوَابِ مُعْرَبًا فِي الأَقْوَى
(1) راجع "تدريب الراوي على تقريب النووي" 2/ 105 - 111.