الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في الكلام على "صحيح مسلم"، وفيه مسائل
المسأله الأولى: في بيان حال الكتاب، وفضله
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمهُ الله تعالى: هذا الكتاب ثاني كتاب صُنِّفَ في صحيح الحديث، ووُسم به، ووضع له خاصةً، سَبَقَ البخاري إلى ذلك، وصلَّى (1) مسلم، ثم لم يلحقهما لاحق، وكتاباهما أصح ما صنفه المصنفون، والبخاري وكتابه أعلى حالا في الصحيح وانتقاده أخر جمه (2) وكان مسلم مع حِذْقه، ومشاركته له في كثير من شيوخه أحد المستفيدين منه، والمقِرِّين له بالأُستاذية. رَوَينا عن مسلم رحمهُ الله تعالى قال: صَنَّفتُ هذا "المسند الصحيح" من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وبلغنا عن مكي بن عَبْدان، وهو أحد حفاظ نيسابور، قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديثَ، فمدارهم على هذا المسند -يعني مسنده الصحيح-. قال: وسمعت مسلما يقول: عَرَضتُ كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكلُّ ما أشار أن له عِلّةً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح، وليس له علة أخرجته. وورد عن مسلم أنه قال: ما وضعت شيئا في هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة. قال أبو عمرو: أخبرني الشيخ المسنِدُ أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي بن المقرىء بقراءتي عليه، بِشَاذْيَاخ نيسابور، عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد الشيباني، قال: أخبرنا الحافَظ أبو بكر أحمد بن
(1) يقال: صَلَّى الفَرَسُ: إذا تلا السابقَ. قاله في "القاموس". وفي "المصباح": والصَّلَا وزانُ العَصَا مَغْرِزُ الذَّنَب من الفَرَسِ، والتثنية صَلَوَان، ومنه قيل للفرس الذي بعد السابق في الحَلْبَةِ: المُصَلِّي؛ لأنه عند رأسَ صلَا السابق. انتهى. جـ 1 ص 346.
(2)
هكذا نسخة "الصيانة" ص 67 والظاهر أنه مصحّف، والصواب:"وأنقى رجالًا منه". والله تعالى أعلم.
علي بن ثابت، قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علي السُّوذِرْجَاني بأصبهان، قال: سمعت محمد بن إسحاق بن منده، قال: سمعت أبا علي الحسين ابن علي النيسابوري، يقول: ما تحت أَدِيم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث. ورويناه من وجه آخر عن ابن منده الحافظ هذا، وقال فيه: سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري، وما رأيت أحفظ منه هذا، مع كثرة من لقيه ابن منده من الحفاظ. وقول أبي علي هذا، إن أراد به أن كتاب مسلم أصح من غيره على معنى أنه غير ممزوج بغير الصحيح، فإنه جَرَّد الصحيح، وسرده على التوالي بأصوله، وشواهده، على خلاف كتاب البخاري، فإنه أودع تراجم أبواب كتابه كثيرا من موقوفات الصحابة، ومقطوعات التابعين، وغير ذلك، مما ليس من جنس الصحيح، فذلك مقبول من أبي علي، وإن أراد ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري في نفس الصحيح، وفي إتقانه، والإضطلاع بشروطه، والقضاء به، فليس ذلك كذلك، كما قدمناه، وكيف يُسَلَّم لمسلم ذلك، وهو يرى على ما ذكره من بعدُ في خطبة كتابه أن الحديث المعنعن، وهو الذي يقال في إسناده: فلان عن فلان، ينسلك في سلك الموصول الصحيح، بمجرد كونهما في عصر واحد، مع إمكان تلاقيهما، وإن لم يثبت تلاقيهما، وسماع أحدهما من الآخر، وهذا منه توسع يَقعُد به عن الترجيح في ذلك، وإن لم يلزم منه عمله به فيما أودعه في "صحيحه" هذا، وفيما يورده فيه من الطرق المتعددة للحديث الواحد، ما يؤمن من وهن ذلك. والله أعلم.
وقد علّق الحافظ في "هدي الساري" 1/ 13 - 14 على كلام أبي عليّ المذكور، فقال:
وأما قول أبي عليّ النيسابوري، فلم نقف فقط على تصريحه بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري، بخلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محيي الدين في مختصره في علوم الحديث، وفي مقدمة شرح البخاري أيضًا، حيث يقول: اتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحا، وأكثرهما فوائد. وقال أبو عليّ النيسابوري، وبعض علماء المغرب. "صحيح مسلم" أصح. انتهى.
ومقتضى كلام أبي عليّ نفي الأصحية عن غير كتاب مسلم عليه، أما إثباتها له فلا؛ لأن إطلاقه يحتمل أن يريد ذلك، ويحتمل أن يريد المساواة. والله أعلم.
قال: والذي يظهر لي من كلام أبي عليّ أنه إنما قدم "صحيح مسلم" لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده، من الشرائط المطلوبة في الصحة، بل ذلك لأن مسلما صَنّف كتابه في بلده، بحضور أصوله، في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في
الألفاظ، ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري، من استنباط الأحكام؛ ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث، دون الموقوفات، فلم يُعَرِّج عليها، إلا في بعض المواضع على سبيل الندور، تبعا لا مقصودا، فلهذا قال أبو عليّ ما قال، مع أني رأيت بعض أئمتنا يُجَوِّز أن يكون أبو عليّ ما رأى "صحيح البخاري"، وعندي في ذلك بُعْدٌ، والأقرب ما ذكرته، وأبو عليّ لو صرح بما نُسب إليه لكان محجوجًا بما قدمناه، مجملا ومفصلا.
قال: وأما بعض شيوخ المغاربة، فلا يُحفظ عن أحد منهم تقييد الأفضلية بالأصحية، بل أطلق بعضهم الأفضلية، وذلك فيما حكاه القاضي أبو الفضل عياض في "الإلماع" عن أبي مروان الطُّبْني -بضم الطاء المهملة، ثم إسكان الباء الموحدة، بعدها نون- قال: كان بعض شيوخي يُفَضّل "صحيح مسلم" على "صحيح البخاري". انتهى.
قال: وقد وجدت تفسير هذا التفضيل عن بعض المغاربة، فقرأت في فهرسة أبي محمد القاسم بن القاسم التُّجيبيّ قال: كان أبو محمد بن حزم يفضّل كتاب مسلم على كتاب البخاري؛ لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السَّرْد. انتهى.
قال: وعندي أن ابن حزم هذا هو شيخ أبي مروان الطُّبْني الذي أبهمه القاضي عياض، ويجوز أن يكون غيره، ومحل تفضيلهما واحد.
وقال أيضًا: ومن ذلك قول مسلمة بن قاسم القرطبي وهو من أقران الدارقطني، لَمّا ذَكَر في تاريخه "صحيح مسلم" -قال: لم يَضَع أحد مثله، فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب، وقد رأيت كثيرا من المغاربة ممن صَنّف في الأحكام بحذف الأسانيد، كعبد الحق في "أحكامه"، و"جمعه" يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها، دون البخاري؛ لوجودها عند مسلم تامة، وتقطيع البخاري لها، فهذه جهة أخرى من التفضيل، لا ترجع إلى ما يتعلق بنفس الصحيح. انتهى كلام الحافظ (1).
وقال الشيخ أبو عمرو: نعم يترجح كتاب مسلم بكونه أسهل متناولًا، من حيث إنه جعل لكل حديث موضعا واحدًا يليق به، يورده فيه بجميع ما يريد ذكره فيه من أسانيده المتعددة، وألفاظه المختلفة، فيسهل على الناظر النظر في وجوهه، واستثمارها، بخلاف البخاري، فإنه يورد تلك الوجوه المختلفة في أبواب شتى متفرقة، بحيث يصعب على الناظر جمع شملها، واستدراك الفائدة من اختلافها. انتهى.
(1)"هدي الساري" 15 - 16.
وقال مسلمة بن قاسم القرطبيّ: لم يضع أحد مثل "صحيح مسلم" في حسن الصناعة، وجودة الترتيب، لا في الصحّة. انتهى.
ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال (1) [من الطويل]:
تَنَازَعَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِي وَمُسْلِمِ
…
لَدَيَّ وَقَالُوا أَيُّ ذَيْنِ يُقَدَّمُ
فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّة
…
كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ
ومن قال:
قَالُوا لِمُسْلِمٍ فَضْلٌ
…
قُلْتُ الْبُخَارِيُّ أَعْلَى
قَالُوا الْمُكَرَّرُ فِيهِ
…
قُلْتُ الْمُكَرَّرُ أَحْلَى
وقال الحافظ السيوطيّ في "ألفيّة الأثر":
وَأَوَّلُ الْجَامِعِ بِاقْتِصَارِ
…
عَلَى الصَّحِيحِ فَقَطِ الْبُخَارِي
وَمُسْلِمٌ مِنْ بَعْدِهِ وَالأَوَّلُ
…
عَلَى الصَّوَابِ فِي الصَّحِيحِ أَفْضَلُ
وَمَنْ يُفَضِّلْ مُسْلِمًا فَإِنَّمَا
…
تَرْتِيبَهُ وَصُنْعَهُ قَدْ أَحْكَمَا
وقال السيد مصطفى البكريّ رحمه الله تعالى في مدح مسلم، و"صحيحه" [من الكامل]:
بَدْرٌ عَلَا بِصَحِيحِهِ فَلَكَ الْعُلَا
…
إِذْ فَاقَ صُنْعًا كُلَّ هَادٍ ضَيْغَمِ
وَلِذَا حُمَاةُ الْغَرْبِ هَذَا رَجَّحُوا
…
لا سِيَّمَا فَوْقَ السِّمَاكِ الأَفْخَمِ
وَبِقِلَّةِ التَّكْرَارِ فَاقَ مُكَرَّرًا
…
وَبِحُسْنِ تَرْتِيبٍ وَسَبْكٍ مُفْخَمِ
لَكِنْ مُحَمَّدُنَا الْبُخَارِيْ شَيْخُهُ
…
هُوَ عِنْدَ جُلِّ الْخَلْقِ أَعْلَى فَافْهَمِ
رَضِيَ الإِلَهُ عَنْهُمَا مَا بَاكَرَتْ
…
سُحْبُ الْغَمَامِ لِرَوْضِ أُنْسٍ أَعْظَمِ
وَالتِّرْمِذِيُّ مَعَ النَّسَائِيِّ ابْنُ مَا
…
جَهْ ضيفْ (2) أَبَا دَاوُدَ أَهْلُ تَقَدُّمِ
وقال العجلونيّ رحمه الله تعالى [من الكامل]:
لَصَحِيحُ مُسْلِمٍ الإِمَامِ الأَوْحَدِ
…
قَدْ فَاقَ فِي جَمْع الصَّحِيحِ الْمُسْنَدِ
فَبِجَمْعِهِ طُرُقَ الْحَدِيثِ بِمَوْضِعٍ
…
حَازَ الْفَخَارَ عَلى صَحِيحِ مُحَمَّدِ
(1) نسب الشيخ مشهور حسن هذين البيتين، واللذين بعدهما إلى الحافظ عبد الرحمن بن الدَّيبع، تلميذ الحافظ السخاويّ رحمهما الله تعالى، انظر ما كتبه في كتابه "الإمام مسلم بن الحجاج" 2/ 569.
(2)
هكذا النسخة، والكلمة ليست واضحة المعنى، ولا المبنى؛ إذ ينكسر الوزن عندها، ولا تكون "ضف" لأن ضاف بمعنى نزل ضيفًا، ولا يناسب هنا، ولا يمكن أضف بالألف أيضًا لانكسار الوزن، فلو قال:"زد" لاستقام الوزن والمعنى. فليُحرّر. والله تعالى أعلم.