الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب آخر، وقد استُدرِكتْ عليه، وعُلِّلت. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثالثة: في بيان ما وقع في "صحيح مسلم" مما صورته صورة المنقطع:
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: قد وقع في هذا الكتاب، وفي كتاب البخاري ما صورته صورةُ المنقطع، وليس ملتحقا بالمنقطع في إخراج ما وقع فيه ذلك من حيز الصحيح إلى حيز الضعيف، ويُسَمَّى تعليقا، سماه به الإمام أبو الحسن الدارقطني، ويَذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" وغيره من المغاربة، وكأنهم سموه تعليقًا أخذًا من تعليق العتق، والطلاق، وتعليق الجدار؛ لما يشترك فيه الجميع من قطع الإتّصال، فإن ما فيه من حذف رجل، أو رجلين، أو أكثر من أوائل الإسناد قاطع للإتصال، لا محالة، وهو في كتاب البخاري كثير جدّا، وفي كتاب مسلم قليل جدّا، وإذا كان التعليق بلفظ فيه جزم منهما، وحكم بأن من وقع بينهما وبينه الإنقطاع قد قال ذلك، أو رواه واتصل الإسناد منه على الشرط، مثل أن يقولا: روى الزهري، ويسوقا إسناده متصلا ثقة عن ثقة، فحال الكتابين يوجب أن ذلك من الصحيح عندهما، وكذلك ما روياه عمن ذكراه بما لم يحصل به التعريف به، وأورداه أصلا مُحْتَجَّيْنِ به، وذلك مثل حدثني بعض أصحابنا، ونحو ذلك.
وذكر الحافظ أبو علي الغساني الأندلسي أن مسلما وقع الإنقطاع فيما رواه في كتابه في أربعة عشر موضعا:
أولها في "التيمم" قوله في حديث أبي الجهم (2): وروى الليث بن سعد. ثم قوله في "كتاب الصلاة" في "باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا صاحب لنا، عن إسماعيل ابن زكرياء، عن الأعمش، وهذا في رواية أبي العلاء بن ماهان، وسَلِمَت رواية أبي أحمد الجلودي من هذا، وقال فيه عن مسلم: حدثنا محمد بن بكار، قال: حدثنا إسماعيل بن زكرياء. ثم في "باب السكوت بين التكبير والقراءة" قوله: وحُدِّثتُ عن يحيى بن حسان، ويونس المؤدب. ثم قوله في "كتاب الجنائز" في حديث عائشة رضي الله عنها في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ليلا: وحدثني من سمع حجاجا الأعور، واللفظ له، قال: حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا ابن جريج. وقوله في "باب الحوائج" في حديث
(1)"صيانة صحيح مسلم"75.
(2)
"أبو الجهم" هكذا ورد في "صحيح مسلم"، وهكذا نقله ابن الصلاح، ولم يُعقّب عليه، وهو غلطٌ، وصوابه: ما وقع عند البخاريّ وغيره: "أبو الجهيم" بالتصغير، وهكذا وقع في صحيح البخاريّ. واسم أبي جهيم هذا: عبد الله بن الحارث بن الصمّة. أفاده النوويّ في "شرحه" 4/ 63 - 64.
عائشة رضي الله عنها: حدثني غير واحد من أصحابنا، قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس. وقوله في هذا الباب: ورَوَى الليث بن سعد، قال: حدثني جعفر بن ربيعة، وذكر حديث كعب بن مالك في تقاضي ابن أبي حَدْرَد. وقوله في "باب احتكار الطعام" في حديث معمر بن عبد الله العدوي: حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن عون. وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: وحُدِّثتُ عن أبي أسامة، وممن روى ذلك عنه: إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا أبو أسامة. وذكر أبو علي أنه رواه أبو أحمد الجلودي عن محمد بن المسيب الأرغياني، عن إبراهيم بن سعيد. قال أبو عمرو: ورَوَيناه من غير طريق أبي أحمد، عن محمد بن المسيب، ورواه غير ابن المسيب، عن إبراهيم الجوهري. وفي آخر "الفضائل" في حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد"، روايةُ مسلم إياه موصولا عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، ثم قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، ورواه الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلاهما عن الزهري بإسناد معمر، كمثل حديثه. وقال مسلم في آخر "كتاب القدر" في حديث أبي سعيد الخدري:"لَتَرْكَبُنّ سنن من كان قبلكم": حدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم، وهذا قد وصله إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن محمد بن يحيى، عن ابن أبي مريم. قال أبو عمرو: وإنما أورده مسلم على وجه المتابعة والإستشهاد. وقوله فيما سبق في الإستشهاد والمتابعة في حديث البراء بن عازب في الصلاة الوسطى بعد أن رواه موصولا: ورواه الأشجعي، عن سفيان الثوري إلى آخره. وقوله أيضًا في "الرجم" في المتابعة لِمَا رواه موصولا من حديث أبي هريرة، في الذي اعترف على نفسه بالزنا: ورواه الليث أيضًا عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب بهذا الإسناد. وقوله في "كتاب الإمارة" في المتابعة لِمَا رواه متصلا من حديث عوف بن مالك. "خيار أئمتكم الذين تحبونهم": ورواه معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد.
قال أبو عمرو: وذكر أبو علي فيما عندنا من كتابه في الرابع عشر حديث ابن عمر: "أرأيتكم ليلتكم هذه" المذكور في "الفضائل"، وقد ذكره مرة، فيسقط هذا من العدد، والحديث الثاني؛ لكون الجلودي رواه عن مسلمِ موصولا، وروايته هي المعتمدة المشهورة، فهي إذن اثنا عشر، لا أربعة عشر، وأخَذَ هذا عن أبي علي أبو عبد الله المازري، صاحب "المعلم"، وأطلق أن في الكتاب أحاديث مقطوعة، في أربعة عشر موضعا. وهذا يوهم خللا في ذلك، وليس ذلك كذلك، وليس شيء من هذا -والحمد لله- مخرجًا لما وُجد فيه من حيِّز الصحيح، بل هي موصولة من جهات صحيحة، لا سيما ما
كان منها مذكورا على وجه المتابعة، ففي نفس الكتاب وصلها، فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث، كما أنه روى عن جماعة من الضعفاء؛ اعتمادا على كون ما رواه عنهم معروفا من رواية الثقات، على ما سنرويه عنه فيما بعدُ، إن شاء الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سأذكر في آخر المسائل فيما يتعلّق بهذه الأحاديث المنقطعة ما كتبه العلامة رشيد الدين العطّار المتوفّى سنة (662) رحمه الله تعالى في رسالته "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة"، إن شاء الله تعالى.
قال أبو عمرو: وهكذا الأمر في تعليقات البخاري، بألفاظ مثبتة، جازمة، على الصفة التي ذكرناها، كمثل ما قال فيه: قال فلان، أو رَوَى فلان، أو ذكر فلان، أو نحو ذلك، ولم يُصِب أبو محمد بن حزم الظاهري، حيث جعل مثل ذلك انقطاعا، قادحا في الصحة، مُستروحا إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد، في إباحة الملاهي، وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث، مجيبا به عن حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير، والخمر، والمعازف
…
" إلى آخر الحديث، فزعم أنه وإن أخرجه البخاري، فهو غير صحيح؛ لأن البخاري قال فيه: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فهو منقطع فيما بين البخاري وهشام. وهذا خطأ من وجوه: [أحدها]: أنه لا انقطاع في هذا أصلًا، من جهة أن البخاري لقي هشاما، وسمع منه، وقد قررنا في كتاب "معرفة علوم الحديث" أنه إذا تحقق اللقاء والسماع، مع السلامة من التدليس، حُمِل ما يرويه عنه على السماع، بأي لفظ كان، كما يُحْمَل قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه، إذا لم يظهر خلافه، وكذا غير "قال" من الألفاظ. [الثاني]: إن هذا الحديث بعينه معروف الإتصال بصريح لفظه، من غير جهة البخاري. [الثالث]: أنه وإن كان ذلك انقطاعا، فمثل ذلك في الكتابين غير ملتحق بالإنقطاع القادح؛ لما عُرِف من عادتهما، وشرطهما، وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة، فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور، من غير ثَبَث وثبوت، بخلاف الإنقطاع، والإرسال الصادرين من غيرهما، هذا كله في المعلّق بلفظ الجزم. وأما إذا لم يكن ذلك من الشيخين بلفظ جازم، مثبت له على ما ذكراه عنه، على الصفة التي قدمتُ ذكرها، مثل أن يقولا: ورُوي عن فلان، أو ذُكر عن فلان، أو في الباب عن فلان، ونحو ذلك، فليس ذلك في حكم التعليق، الذي ذكرناه، ولكن يستأنس بإيرادهما له.
وأما قول مسلم في خطبة كتابه: وقد ذُكِر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"، فهذا بالنظر إلى أن لفظه ليس لفظا جازما بذلك