الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظاهر الأمانة، غير مُغَفَّل، وقيل: صفاء السريرة، واستقامة السِّيرة في ظن المعدل، والمعنى متقارب.
قال: لما كانت الشهادة ولاية عظيمة، ومرتبة منيفة، وهي قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة، فمن حُكم الشاهد أن تكون له شمائل ينفرد بها، وفضائل يتحلى بها، حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته، وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات، عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. قال: وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس بالشاهد غفلة، أو ريبة فيرد شهادته لذلك. قال: وقال أبو حنيفة: يُكتَفَى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود، وهذه مناقضة تسقط كلامه، وتفسد عليه مرماه؛ لأننا نقول: حَقٌّ من الحقوق، فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود، قاله ابن العربي. انتهى المقصود من كلام القرطبيّ (1). وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في قوله: "والخبر وإن فارق الخ
":
قال القاضي عياض رحمه اللهُ تعالى في "شرحه" لهذا الكتاب: وقول مسلم رحمه اللهُ تعالى: "والخبر، وإن فارق معناه معنى الشهادة الخ": ما أحسن قول مسلم هذا، وأبينه في الدلالة على كثرة علمه، وقوّة فقهه، فاعلم أن الشهادة والخبر يجتمعان عندنا في خمسة أحوال، ويفترقان في خمسة أحوال.
فالخمسة الجامعة لها: العقل، والبلوغ، والإسلام، والعدالة، وضبط الخبر، أو الشهادة حين السماع والأداء، فمتى اختلّ وصف من هذه الأوصاف في أحد لم يقبل خبره، ولا شهادته.
وأما الخمسة التي يفترقان فيها، فالحرّية، والذكورة، والعدد، ومراعاة الأهلية، والعداوة. انتهى كلام القاضي رحمه اللهُ تعالى (2).
وقال النوويّ رحَمَه اللهُ تعالى في "شرحه": 1/ 61:
اعلم: أن الخبر والشهادة يشتركان في أوصاف، ويفترقان في أوصاف، فيشتركان
(1) انظر "الجامع لأحكام القرآن" 3/ 395 - 396.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 107.
في اشتراط الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة، والمروءة، وضبط الخبر والمشهود به عند التحمل والأداء، ويفترقان في الحرية، والذكورية، والعدد، والتهمة، وقبول الفرع مع وجود الأصل، فيقبل خبر العبد، والمرأة، والواحد، ورواية الفرع مع حضور الأصل الذي هو شيخه، ولا تقبل شهادتهم إلا في المرأة في بعض المواضع مع غيرها، وترد الشهادة بالتهمة، كشهادته على عدوه، وبما يدفع به عن نفسه ضررا، أو يجر به إليها نفعا، ولولده ووالده، واختلفوا في شهادة الأعمى، فمنعها الشافعيّ وطائفة، وأجازها مالك وطائفة، واتفقوا على قبول خبره.
وإنما فرق الشرع بين الشهادة والخبر في هذه الأوصاف؛ لأن الشهادة تخص، فيظهر فيها التهمة والخبر يعمه وغيره من الناس أجمعين، فتنتفي التهمة.
وهذه الجملة قول العلماء الذين يُعتدّ بهم، وقد شَذّ عنهم جماعة في أفراد بعض هذه الجملة.
فمن ذلك شرط بعض أصحاب الأصول أن يكون تحمله الرواية في حال البلوغ، والإجماع يرد عليه، وإنما يعتبر البلوغ حال الرواية، لا حال السماع، وجوز بعض أصحاب الشافعيّ رواية الصبيّ، وقبولها منه في حال الصبا، والمعروف من مذاهب العلماء مطلقا ما قدمناه، وشرط الجبائيّ المعتزليّ وبعض القدرية العدد في الرواية، فقال الجبائيّ: لا بد من اثنين عن اثنين كالشهادة، وقال القائل من القدرية: لا بد من أربعة عن أربعة في كل خبر، وكل هذه الأقوال ضعيفة، ومنكرة مطرحة، وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعية، والحجج العقلية على وجوب العمل بخبر الواحد، وقد قرر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله، وأوضحوه أبلغ إيضاح، وصنف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد، ووجوب العمل به. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ (1).
وقال السيوطي رحمه اللهُ تعالى في "تدريب الراوي" 1/ 331: من الأمور المهمة تحريرُ الفرق بين الرواية والشهادة، وقد خاض فيه المتأخرون، وغاية ما فرقوا به الاختلاف في بعض الأحكام، كاشتراط العدد وغيره، وذلك لا يوجب تخالفا في الحقيقة، قال القرافي: أقمت مدة أطلب الفرق بينهما، حتى ظفرت به في كلام المازري، فقال: الرواية هي الإخبار عن عام لا تَرافُع فيه إلى الحكام، وخلافه الشهادة.
وأما الأحكام التي يفترقان فيها فكثيرة، لم أَرَ من تعرض لجمعها، وأنا أذكر منها ما تيسر:(الأول): العدد لا يشترط في الرواية، بخلاف الشهادة، وقد ذكر ابن عبد
(1) راجع "شرح النووي على صحيح مسلم" 1/ 61 - 62.
السلام في مناسبة ذلك أمورا: [أحدها]: أن الغالب من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف شهادة الزور. [الثاني]: أنه قد ينفرد بالحديث راو واحد، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة، بخلاف فوت حق واحد على شخص واحد. [الثالث]: أن بين كثير من المسلمين عداوات تحملهم على شهادة الزور، بخلاف الرواية عنه صلى الله عليه وسلم.
(الثاني): لا تشترط الذكورية فيها مطلقا، بخلاف الشهادة في بعض المواضع. (الثالث): لا تشترط الحرية فيها بخلاف الشهادة مطلقا. (الرابع): لا يشترط فيها البلوغ في قول. (الخامس): تقبل شهادة المبتدع إلا الخطابية، ولو كان داعية، ولا تقبل رواية الداعية ولا غيره، إن روى موافقه. (السادس): تقبل شهادة التائب من الكذب دون روايته. (السابع): من كذب في حديث واحد رُدّ جميع حديثه السابق، بخلاف من تبين شهادته للزور في مرة، لا ينقض ما شهد به قبل ذلك. (الثامن): لا تقبل شهادة من جَرّت شهادته إلى نفسه نفعا، أو دفعت عنه ضررا، وتقبل ممن روى ذلك. (التاسع): لا تقبل الشهادة لأصل وفرع ورقيق، بخلاف الرواية. (العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر): الشهادة إنما تصح بدعوى سابقة، وطلب لها، وعند حاكم، بخلاف الرواية في الكل. (الثالث عشر): للعالم الحكم بعلمه في التعديل والتجريح قطعا مطلقا، بخلاف الشهادة، فإن فيها ثلاثة أقوال، أصحها التفصيل بين حدود الله تعالى وغيرها. (الرابع عشر): يثبت الجرح والتعديل في الرواية بواحد، دون الشهادة على الأصح. (الخامس عشر): الأصح في الرواية قبول الجرح والتعديل غير مفسر من العالم، ولا يقبل الجرح في الشهادة إلا مفسرا. (السادس عشر): يجوز أخذ الأجرة على الرواية، بخلاف أداء الشهادة، إلا إذا احتاج إلى مركوب. (السابع عشر): الحكم بالشهادة تعديل، بل قال الغزالي: أقوى منه بالقول، بخلاف عمل العالم، أو فتياه بموافقة المروي على الأصح. (الثامن عشر): لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا عند تعسر الأصل بموت أو غيبة أو نحوها، بخلاف الرواية. (التاسع عشر): إذا روى شيئا ثم رجع عنه سقط، ولا يعمل به، بخلاف الرجوع عن الشهادة بعد الحكم. (العشرون): إذا شهدا بموجب قتل، ثم رجعا وقالا: تعمدنا لزمهما القصاص، ولو أشكلت حادثة على حاكم فتوقف، فروى شخص خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وقتل الحاكم به رجلا، ثم رجع الرواي، وقال: كذبت وتعمدت، ففي فتاوى البغوي ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد إذا رجع، قال الرافعي: والذي ذكره القفال في الفتاوى، والإمام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة، فإنها تتعلق بالحادثة، والخبر لا يختص بها. (الحادي والعشرون): إذا شهد دون أربعة بالزنا حدوا للقذف في الأظهر، ولا تقبل شهادتهم قبل التوبة، وفي قبول روايتهم وجهان:
المشهور منهما القبول، ذكره الماوردي في "الحاوي"، ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية"، والإسنوي في "الألغاز". انتهى "التدريب"(1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ولما ذكر الأدلة على عدم قبول خبر الفاسق من الكتاب أتبعه بذكر الأدلة من السنة، فقال:
(وَدَلَّتِ السُّنَّةُ) النبويّة (عَلَى نَفْيِ رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ) أي على نفي جواز روايته (مِنَ الْأَخْبَارِ) متعلّق بحال مقدّر من "المنكر"(كَنَحْوِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ) أي مثل دلالة القرآن، وهو ما دلّت عليه الآية السابقة (عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ) حيث قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} الآية، فإنها تدل علىَ عدم الاعتماد على خبر الفاسق (وهو الأثر) مبتدأ وخبر، وإنما ذكّره، وإن كان المرجع مؤنّثًا، وهي السنّة؛ نظرًا للخبر، و"الأثر" - بفتحتين- اسم من أثرتُ الحديث أَثْرًا، من باب نصر: إذا نقلته، وحديث مأثور: أي منقولٌ، ومنه الْمَأْثُرة، وهي المكرمة؛ لأنها تُنقل، ويُتحدّث بها. أفاده الفيّوميّ. واصطلاحًا: عبارة عن الأحاديث، مرفوعة كانت، أو موقوفةً على المعتمد. وقصره بعض الفقهاء على الموقوف فقط.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" 1/ 63: هذا جار على المذهب المختار الذي قاله المحدثون وغيرهم، واصطلح عليه السلف، وجماهير الخلف، وهو أن الأثر يُطلق على المرويّ مطلقا، سواء كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابيّ، وقال الفقهاء الخراسانيون: الأثر هو ما يضاف إلى الصحابيّ موقوفا عليه. انتهى.
(المشهور) صفة "الأثر"، والمراد به هنا ما يعم المتواتر؛ إذ الحديث المذكور من المتواتر، كما سيأتي بيانه، والمشهور في اللغة: اسم مفعول من شَهَرتُ الحديثَ من باب نفع شَهْرًا -بالفتح-، وشُهْرةً -بالضمّ-: إذا أفشيته، فاشتهر، واصطلاحًا ما رواه ثلاثة، فأكثر، ولم يبلغ حدّ التواتر، سمي مشهورًا؛ لوضوح أمره.
[تنبيه]: الحديث إذا تفرّد بروايته راو واحد يسمّى غريبًا، وإن رواه اثنان سمي عزيزًا، وإن رواه ثلاثة، فأكثر، سمي مشهورًا، وهو المستفيض على رأي جماعة من أئمة الفقهاء والأصوليين، وبعض المحدّثين، سمي بذلك لانتشاره وشياعه في الناس، من فاض الماء يَفيض فيضًا وفيوضة: إذا كثُر حتى سال على ضَفّة الوادي، ومنهم من غاير بينهما بأن المستفيض يكون في ابتدائه ووسطه وانتهائه سواءً، والمشهور أعمّ من ذلك، بحيث يشمل ما كان أوله منقولا عن الواحد، كحديث "إنما الأعمال بالنيات"،
(1) راجع "تدريب الراوي" 1/ 331.