الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب عليهم أن يطرحوا الأحاديث الضعيفة، والمنكرة التي يرويها أقوام قد ذمّهم أئمة هذا الشأن، كمالك، وشبعة، وابن عيينة، ويحيى القطّان، وابن مهديّ، وغيرهم، ويقتصروا على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعرفون بالصدق والأمانة، فلما رأى ذلك سهُل عليه إجابة طلب ذلك الطالب؛ خشيةَ أن يقع في تلك الأخبار الواهية لو لم يجبه إلى طلبه. والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(وَبَعْدُ) أي وبعد ما تقدّم من شرح مذهب المحدثين، والواو هذه نائبة عن "أما" النائبة عن "مهما يكن"، كما سبق بيانه مُسْتَوْفًى في قوله أول هذه المقدّمة:"أما بعد"، و "بعدُ" مبنيّ على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، كما تقدّم تفصيله هناك، واستعمال "وبعد" مما جرى به عرف العلماء، وليس واردًا في السنة، إذ الوارد فيها "أما بعد"، كما تقدم بيانه أدلته هناك أيضًا. وقوله:(يَرْحَمُكَ اللهُ) جملة دعائية معترضة بين الشرط، وهي "وبعدُ"؛ لتضمنها معنى الشرط، كما أشرت إليه آنفًا، وجزائه، وهو قوله:(فَلَوْلَا الذي رأينا الخ) و "لولا" هذه إن دخلت على الجملة الاسمية -كما هنا- حرف امتناع لوجود، أي امتناع جوابه لوجود شرطه، مثلُ لولا زيد لأهنتك، أي موجود، فامتنعت الإهانة لوجود زيد، وإن دخلت على المضارع، أفادت العرض، وهو طلب بلين، نحو قوله سبحانه وتعالى {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 57]، وقوله سبحانه وتعالى:{فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، والتحضيض، وهو طلب بحثّ، نحو قوله سبحانه وتعالى {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} الآية [النمل: 46]، وإن دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، نحو قوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور: 13]. وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع" بقوله:
"لَوْلَا" امْتِنَاعٌ لِوُجُودٍ فِي الْجُمَلْ
…
اسْمِيَّةٍ وَفِي الْمُضَارِعِ احْتَمَلْ
عَرْضًا وَتَحْضِيضًا وَفِي الَّذِي مَضَى
…
تَوَبُّخٌ وَنَفْيُهُ لا يُرْتَضَى
راجع ما كتبتُهُ على "الكوكب الساطع" في مبحث "الحروف" ص 129.
فيكون المعنى هنا امتناع عدم سهولة الإنتصاب لتحقيق رغبة الطالب عليه لوجود رؤيته سوء صنيع الكثيرين ممن نَصَبَ نفسه محدّثًا.
وخلاصة المعنى: أن الذي سهّل عليه القيام بتحقيق ذلك هو رؤيته سوء صنيع كثير ممن يدّعي علم الحديث في كيفية إلقائهم الأحاديث إلى العوامّ. والله تعالى أعلم.
وقوله (الَّذِي رَأَيْنَا) مبتدأ خبره محذوف: أي موجود، وحذف خبر المبتدأ بعد
"لولا" واجب عند أكثر النحاة، وغالب عند بعض النحاة، كابن مالك، كما أشار إليه في "خلاصته" بقوله:
وَبَعْدَ "لَوْلَا" غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ
…
حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِنٍ ذَا اسْتَقَرّ
وقوله: (مِنْ سُوءِ صَنِيعِ كَثِيرٍ) بيان للموصول (مِمَّنْ نَصَبَ) متعلّق بصفة لـ "كثير": أي أقام (نَفْسَهُ مُحَدِّثًا) فيه إشارة إلى أن من يصنع ذلك ليس من محققي المحدّثين، وإنما أدخل نفسه فيهم، حيث لم يَسلُك طريقهم (فِيمَا يَلْزَمُهُمْ) متعلّق "بسوء صنيع": أي في الصنع الذي كان يلزمهم، وهو ما بيّنه بقوله:(مِنْ طَرْحِ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ) أي رميها، وعدم التحديث بها، وقوله:(وَالرِّوَايَاتِ الْمُنْكَرَةِ) من عطف الخاصّ على العامّ، فإن الضعيف أعم من المنكر، وإنما خصّه بالذكر؛ لمزيد الذم في روايته؛ لشدة ضعفه، ، وسيأتي بيان الخلاف في رواية الأحاديث الضعيفة، قريبًا، إن شاء الله تعالى (وَتَرْكِهِمُ الإِقْتِصَارَ عَلَى) رواية (الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ) أي التي اشتهرت أسانيدها بين المحدثين، وتداولوها فيما بينهم، فهو بمعنى قوله السابق أول المقدّمة:"بالأسانيد التي بها نُقلت، وتداولها أهل العلم فيما بينهم"، وليس المراد المشهور المصطلح عليه، وهو ما رواه ثلاثة، فأكثر، ولم يبلغ حدّ التواتر (مِمَّا) متعلّق بحال محذوف: أي حال كون تلك الأحاديث كائنة من جملة الحديث الذي (نَقَلَهُ الثِّقَاتُ) جمع ثقة، ويطلق بلفظ الواحد على غير الواحد أيضًا، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وَثُقَ الشيءُ بالضمّ وَثَاقَةً: قَوِيَ، وثَبَتَ فهو وَثيق: ثابت محكم، وأوثقته: جعلته وَثِيقًا، ووثِقتُ به أَثِقُ بكسرهما ثِقَةً، ووُثُوقًا: ائتمنته، وهو، وهي، وهما، وهم، وهنّ ثقة؛ لأنه مصدرٌ، ويجمع في الذكور، والإناث، فيقال: ثقات. انتهى.
فتبيّن بهذا أن معنى الثقة المؤتمنُ، ولا يكون مؤتمنًا إلا إذا جمع بين الصدق، والضبط، فيكون قوله:(الْمَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ) صفة مؤكّدةً لـ "الثقات"، و"الأمانة" هنا مصدر "أمِنَ" بالكسر، فهو أمين، وتستعمل مجازًا في الأعيان، فيقال: الوديعة أمانة، ونحو ذلك.
(بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ) أي بقلوبهم (وَإِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا) بفتح "أن" لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":
وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ
…
مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ
فهي هنا في تأويل المصدر مفعول به لـ "معرفتهم"، ولـ "إقرارهم" على سبيل التنازع، والتقدير: بعد معرفتهم، وإقرارهم استنكاره.
وقوله: (مِمَّا يَقْذِفُونَ بِهِ) بكسر الذال، من باب ضرب: أي يُلقونه إليهم، والمراد
روايته لهم، قال الله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء: 18]. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد يكون "يقذفون" بمعنى يقولون: ما لا يعلمون، كما قال تعالى:{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 53].
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا المعنى الذي ذكره عياض غير صحيح هنا؛ إذ يبطله قول المصنّف: "بعد معرفتهم، وإقرارهم بألستنهم الخ"، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(إِلَى الْأَغْبِيَاءِ مِنَ النَّاسِ) بفتح الهمزة، وسكون الغين المعجمة، وكسر الموحّدة: جمع غبيّ، كنبيّ وأنبياء، والمراد به الْغَفَلَةُ، والْجَهَلَةُ الذين لا فِطْنة لهم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: واختلفت روايات شيوخنا في هذا الحرف، وصوابه "الأغبياء" -بالغين المعجمة، والباء الموحدة، وهي روايتنا من طريق السمرقنديّ، ومعناه: الْجَهَلَة الأَغْفَال، ويدلّ عليه قوله آخر الفصل:"وقذفهم بها إلى العوامّ". انتهى "إكمال المعلم" 1/ 106.
وقوله: (هُوَ مُسْتَنْكَرٌ) خبر "أنّ"، و "هو" ضمير فصل يُؤتَى به للفصل بين الصفة والخبر، و "المستنكَر" اسم مفعول، من الإستنكار، وقد تقدّم البحث عن معنى المنكر، وما يتعلّق به، فلا تنس.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما ذمّ به المصنّف رحمه الله تعالى هؤلاء المنتصبين للتحديث تحديثهم للناس بالروايات الضعيفة، والمنكرة، وتركهمِ الإقتصار على الأحاديث الصحيحة، ثم إنه لو كان هذا لجهلهم بذلك، لكان الذمّ بسيطًا، ولكنهم إنما أقدموا على ذلك بعد أن عرفوه، وأقروا بألسنتهم، وكتبوه في مؤلفاتهم، فيكون الذم مركبًا ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [من الطويل]:
فَإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ
…
وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمَصَائِبُ أَعْظَمُ.
والله تعالى أعلم.
(وَمَنْقُولٌ) بالرفع عطف على "مستنكر"، وهو من عطف السبب على المسبب؛ إذ كونه مستنكرًا إنما هو من أجل كونه منقولًا (عَنْ قَوْمٍ غَيْرِ مَرْضِيِّينَ) بجرّ "غير" صفة لـ "قوم"(مِمَّنْ) متعلق بصفة محذوفة لـ "قوم"، أو بحال كذلك (ذَمَّ) من باب نصر: أي عاب (الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ) بنصب "الرواية" على المفعوليّة، و "رفع "أئمة" على الفاعلية. ثم ذكر أمثلة للأئمة الذين ذمّوا الرواية عن القوم غير المرضيين بقوله:
(مِثْلُ) بالرفع خبر لمحذوف: أي هم مثل (مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، هذا أول محل ذكره من الكتاب.
وهو مالك بن أنس بن مالك رضي الله عنه بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن خُثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح، الأصبحي الحميري، أبو عبد الله المدني الفقيه، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين.
قال محمد بن إسحاق الثقفي: سئل محمد بن إسماعيل البخاري، عن أصح الأسانيد؟ فقال: مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وقال علي بن المديني، عن ابن عيينة: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال، وأعلمه بشأنهم، قال: وقيل لسفيان: أيما كان أحفظ سُمَيّ، أو سالم أبو النضر؟ ، قال: قد روى مالك عنهما. وقال علي، عن بشر ابن عمر الزهراني: سألت مالكا عن رجل؟ فقال: رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي. قال علي: لا أعلم مالكا ترك إنسانا إلا إنسانا في حديثه شيء. وقال الدوري، عن ابن معين: كل من روى عنه مالك فهو ثقة، إلا عبد الكريم. وقال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أصحاب نافع الذين رووا عنه: أيوب، وعبد الله، ومالك، قال علي: هؤلاء أثبت أصحاب نافع، قال: وسمعت يحيى ابن سعيد يقول: ما في القوم أصح حديثا من مالك -يعني السفيانين- ومالكا، قال: ومالك أحب إلي من معمر، قال: وأصحاب الزهري مالك، فبدأ به، ثم فلان، وفلان، وكان ابن مهدي لا يقدم على مالك أحدا. وقال ابن لهيعة: قدم علينا أبو الأسود، محمد بن عبد الرحمن سنة ست وثلاثين، فقلنا له: من بالمدينة يفتي؟ قال: ما ثَمّ مثل فتى من ذي أصبح، يقال له: مالك. وقال حسين بن عروة، عن مالك: قدم علينا الزهري، فحدثنا نيفا وأربعين حديثا، فقال له ربيعة: ههنا من يرد عليك، ما حدثت به أمس، قال: ومن هو؟ قال: ابن أبي عامر، قال: هات، فحدثته منها بأربعين، فقال: ما كنت أقول: إنه بقي أحد يحفظ هذا غيري. وقال عمرو بن علي، عن ابن مهدي: حدثنا مالك، وهو أثبت من عبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية. وقال الحارث بن مسكين: سمعت بعض المحدثين يقول: قد قرأ علينا وكيع، فجعل يقول: حدثني الثبت، حدثني الثبت، فقلنا: من هو؟ قال: مالك. وقال حرب: قلت لأحمد: مالك أحسن حديثا عن الزهري، أو ابن عيينة؟ قال: مالك، قلت: فمعمر؟ فقدم مالكا، إلا أن معمرا أكبر. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء. وقال الحسين بن حسن الرازي: سألت ابن معين، من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك، قلت: ثم من؟ قال: معمر. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وهو أثبت في نافع من أيوب، وعبيد الله ابن عمر، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: أثبت أصحاب الزهري مالك، وقال عمرو بن علي: أثبت من روى عن الزهري مالك، ممن لا يختلف فيه. وقال يونس بن
عبد الأعلى، عن الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم، ومالك وابن عيينة: القرينان. وقال ابن المديني: سمعت ابن مهدي يقول: كان وُهيب لا يعدل بمالك أحدا. وقال وهيب ليحيى بن حسان: ما بين شرقها وغربها أحدٌ من عندنا -يعني على العلم- من مالك، والعرض على مالك أحب إلي من السماع من غيره. قال ابن عيينة، في حديث أبي هريرة:"يوشك أن يَضرب الناس أكباد الإبل، يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة"، هو مالك، وكذا قال عبد الرزاق.
وقال حرملة، عن الشافعي: مالك حجة الله تعالى على خلقه بعد التابعين. وقال ابن أبي حاتم: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا، أو صاحبكم؟ فذكر القصة، وقَدّم فيها مالكا. وقال أبو مصعب عن مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وقال الفضيل بن زياد: سألت أحمد بن حنبل عن ضرب مالك؟ فقال: ضربه بعض الولاة في طلاق المكره، وكان لا يجيزه. وقال معن بن عيسى: سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فما وافق السنة فخذوا به. وقال ابن أبي خيثمة: ثنا إبراهيم بن المنذر، سمعت ابن عيينة يقول: أخذ مالك، ومعمر عن الزهري عرضا، وأخذت سماعا. قال: فقال يحيى بن معين: لو أخذا كتابا كانا أثبت منه. قال: وسمعت يحيى يقول: هو في نافع أثبت من أيوب، وعبيد الله بن عمر. وقال النسائي: ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل منه، ولا أوثق، ولا آمن على الحديث منه، ولا أقل رواية عن الضعفاء، ما علمناه حدث عن متروك، إلا عبد الكريم. وقال ابن حبان في "الثقات": كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة، مع الفقه والدين والفضل والنسك، وبه تخرج الشافعي. وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عن ابن عيينة قال: إنما كنا نتبع آثار مالك، وننظر إلى الشيخ، إن كتب عنه، وإلا تركناه، وما مثلي ومثل مالك، إلا كما قال الشاعر:
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنِ
…
لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ (1)
قال أبو جعفر الطبري: إني سمعت ابن مهدي يقول: ما رأيت رجلا أعقل من مالك.
(1) معنى "لُزَّ" شُدَّ. والقَرَن بفتحتين: الجبل. و"البُزْل" جمع بازل وهو من الإبل ما دخل في التاسعة وطلع نابه. و"القناعِيسُ" جمع قِنْعاس بالكسر، العظيم.
قال ابن سعد، عن مصعب الزبيري: إني أحفظ الناس لموت مالك، مات في صفر سنة تسع وسبعين ومائة، ومالك كان ثقة، مأمونا ثبتا ورعا فقيها عالما حجة، قال: وقال إسماعيل بن أبي أويس: توفي صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول، سنة تسع وسبعين، وكان ابن خمس وثمانين سنة. وقال الواقدي: كان ابن تسعين سنة.
ومناقبه كثيرة جدا لا يمكن استيعابها في مثل هذه العجالة، وقد أفردت بالتصنيف.
وجعله في "التقريب": من الطبقة السابعة. انتهى.
أخرج له الجماعة. روى له مسلم (346) حديثًا.
(وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ) الإمام المشهور، هذا أول محلّ ذكره من الكتاب.
وهو شعبة بن الحجاج بن الوَرْد الْعَتَكِيّ الأزدي مولاهم، أبو بِسْطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ، متقنٌ، عابد، أمير المؤمنين في الحديث.
قال أبو طالب عن أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم، وشعبة أحسن حديثا من الثوري، لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه، قُسِم له من هذا حظ، وروى عن ثلاثين رجلا من أهل الكوفة، لم يرو عنهم سفيان. وقال محمد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله من أثبت شعبة أو سفيان، فقال: كان سفيان رجلا حافظا، وكان رجلا صالحا، وكان شعبة أثبت منه، وأنقى رجلا، وسمع من الحكم قبل سفيان بعشر سنين. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن -يعني في الرجال- وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته للرجال. وقال معمر: كان قتادة يسأل شعبة عن حديثه. وقال حماد بن زيد: قال لنا أيوب: الآن يَقدَم عليكم رجل من أهل واسط، هو فارس في الحديث، فخذوا عنه. وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد ابن سلمة: إذا أردت الحديث فالزم شعبة. وقال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني، إذا وافقني شعبة، فإذا خالفني شعبة في شيء تركته. وقال ابن مهدي: كان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وقال الثوري لِسَلْم بن قتيبة: ما فعل استأذنا شعبة. وقال أبو قطن، عن أبي حنيفة: نعم حشو المصر هو. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق. وقال أبو زيد الهروي: قال شعبة: لأن أنقطع أحبّ إلي من أن أقول لما لم أسمع سمعت. وقال يزيد بن زريع: كان شعبة من أصدق الناس في الحديث. وقال أبو بحر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على ظهره. وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت
صلاة قط، إلا رأيته قائما يصلي. وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه. وقال قراد أبو نوح: رأى عليَّ شعبة قميصا، فقال: بكم أخذت هذا؟ قلت: بثمانية دراهم، قال لي: ويحك أما تتقي الله، تلبس قميصا بثمانية، ألا اشتريت قميصا بأربعة، وتصدقت بأربعة، قلت: أنا مع قوم نتجمل لهم، قال: أيشٍ نتجمل لهم؟ . وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات؛ لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال يحيى القطان: ما رأيت أحدا قط أحسن حديثا من شعبة. وقال ابن إدريس: ما جعلت بينك وبين الرجال مثل شعبة وسفيان. وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد أيما كان أحفظ للأحاديث الطوال، سفيان، أو شعبة؟ فقال: كان شعبة أمر فيها. قال: وسمعت يحيى يقول: كان شعبة أعلم بالرجال، فلان عن فلان، وكان سفيان صاحب أبواب. وقال أبو داود: لما مات شعبة قال سفيان: مات الحديث. قيل لأبي داود: هو أحسن حديثا من سفيان؟ قال: ليس في الدنيا أحسن حديثا من شعبة، ومالك على قلته، والزهري أحسن الناس حديثا، وشعبة يخطئ فيما لا يضره، ولا يعاب عليه -يعني في الأسماء-. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا ثبتا حجة صاحب حديث. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث. وكان يخطئ في أسماء الرجال قليلا. قال الدارقطني في "العلل": كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيرا؛ لتشاغله بحفظ المتون. وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه القطان، ثم أحمد، ويحيى. وقال صالح بن سليمان: كان لشعبة أخوان يعالجان الصرف، وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: ويلكم الزموا السوق، فإنما أنا عيال على إخوتي. وقال ابن معين: كان شعبة صاحب نحو وشعر. وقال الأصمعي: لم نر أحدا أعلم بالشعر منه. وقال بدل بن المحبر: سمعت شعبة يقول: تعلموا العربية، فإنها تزيد في العقل. وقال ابن إدريس: شعبة قَبّان المحدثين، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما لزمت غيره. وقال أبو قطن: ما رأيت شعبة ركع إلا ظننت أنه قد نسي. وفي "تاريخ ابن أبي خيثمة": قال شعبة: ما رويت عن رجل حديثا إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة أتيته أكثر من عشر مرار. وقيل لابن عوف: ما لَكَ لا تحدث عن فلان؟ قال: لأن أبا بسطام تركه. وقال الحاكم: شعبة إمام الأئمة في معرفة الحديث بالبصرة، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وعمرو بن سلمة الصحابيين، وسمع من أربعمائة من التابعين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلام الحاكم هذا نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون تابعيّا مثل الأعمش، فإنه إنما عدّه في "التقريب" من الطبقة الخامسة؛ لكونه رأى أنسا رضي الله عنه، وقد عدّ شعبة من الطبقة السابعة، ومن الغريب أن الحافظ نقل كلام الحاكم هذا في "التهذيب"، وسكت عليه، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقال ابن سعد: توفي أول سنة (160) بالبصرة. وقال أبو بكر بن منجويه: وُلد سنة (82)، ومات سنة (160)، وله (77) سنة. وكان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا وورعا وفضلا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار علما يقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق. وهذا الكلام لابن حبان في "الثقات" نقله ابن منجويه منه، ولم يعزه إليه، لكن عند ابن حبان أن مولده سنة (83). وذكر ابن أبي خيثمة أنه مات في جمادى الآخرة.
جعله في "التقريب" من الطبقة السابعة. انتهى.
أخرج له الجماعة، وله عند مسلم في "صحيحه"(590) حديثًا.
[تنبيه]: من اسمه شعبة في الكتب الستة ثلاثة:
1 -
هذا الإمام المشهور، وهو من رجالهم جميعًا.
2 -
شعبة بن دينار الكوفيّ، لا بأس به [7] تفرد به النسائيّ في "السنن الكبرى" بحديث واحد في "كتاب العتق".
3 -
شعبة بن دينار الهاشميّ، مولى ابن عباس المدنيّ، صدوق، سيء الحفظ [4] تفرّد به أبو داود بحديث واحد في "الغسل". والله تعالى أعلم.
(وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) الإمام العلم المشهور، هذا أول محلّ ذكره من الكتاب.
وهو سفيان بن عُيينة بن أبي عمران، ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي، سكن مكة، وقيل: إن أباه عيينة هو المكنيّ أبا عمران، ثقة حافظ، فقيه، إمام، حجة، إلا أنه تغيّر حفظه بآخره، وكان ربّما دلّس، لكن عن الثقات.
قال ابن المديني: وُلد سنة (107) وكذا قال عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن سفيان، وزاد للنصف من شعبان، وكُتِب عنه الحديثُ سنة (42) قبل موت الأعمش. وقال ابن عيينة. أول من أسندني إلى الأسطوانة مسعر، فقلت: إنّي حَدَثٌ، فقال: إن عندك الزهريَّ، وعمرَو بنَ دينار. وقال علي بن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقن من ابن عيينة. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، وكان حسن الحديث، يُعَدُّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان، لذهب علم الحجاز. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: مالك وسفيان القرينان. وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: ما بقي من معلميَّ أحد غير ابن عيينة، فقلت: يا أبا سعيد سفيان إمام في الحديث، قال سفيان: إمام منذ أربعين سنة. قال علي: وقال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أسمع الحديث من ابن عيينة، فأقوم، فأسمع شعبة يحدث به، فلا أكتبه، قال علي: وسمعت بشر بن المفضل يقول: ما بقي على
وجه الأرض أحد يشبه ابن عيينة. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين، ابن عيينة أحب إليك في عمرو بن دينار، أو الثوري؟ قال: ابن عيينة أعلم به، قلت: فحماد بن زيد؟ قال: ابن عيينة أعلم به، فقلت: فشعبة؟ قال: وأَيْشٍ رَوَى عنه؟ . وقال أبو مسلم المستملي: سمعت ابن عيينة يقول: سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه. وقال ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: ما رأيت أحدا من الناس فيه جزالة العلم ما في ابن عيينة، وما رأيت أحدا أكَفّ عن الفتيا منه. قال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة، أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللَّهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع، فتوفي في السنة الداخلة. وقال الواقدي: مات يوم السبت، أول يوم من رجب، سنة ثمان وتسعين ومائة. وقال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: اشهدوا أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها، فسماعه لا شيء.
قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: أنا أستبعد هذا القول، وأجده غلطا من ابن عمار، فإن القطان مات أول سنة (98) عند رجوع الحجاج، وتحدثهم بأخبار الحجاز، فمتى يُمَكَّن من سماع هذا، حتى يتهيأ له أن يشهد به، ثم قال: فلعله بلغه ذلك في وسط السنة. انتهى. وهذا الذي لا يتجه غيره؛ لأن ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة، ممن حج في تلك السنة، واعتمد قولهم، وكانوا كثيرا، فشهد على استفاضتهم، وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئا يصلح، أن يكون سببا لما نقله عنه ابن عمار فىِ حق ابن عيينة، وذلك ما أورده أبو سعيد بن السمعاني، في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن، من "ذيل تاريخ بغداد"، بسند له قويّ إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم وتزيد في إسناده، أو تنقص منه؟ فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت. وقد ذكر أبو معين الرازي، في زيادة "كتاب الإيمان" لأحمد: أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره بآخره.
ثم قال الذهبي: سمع من ابن عيينة في سنة (7) محمد بن عاصم الأصبهاني صاحب الجزء العالي. وقال أحمد: ما رأيت أحدا من الفقهاء أعلم بالقرآن والسنن منه. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا كثير الحديث حجة. وقال الآجري عن أبي داود: قال أبو معاوية: كنا إذا قمنا من عند الأعمش أتينا ابن عيينة. وقال يحيى بن سعيد:
هو أحب إلي في الزهري من معمر. وقال ابن مهدي: كان أعلم الناس بحديث أهل الحجاز. وقال أبو حاتم الرازي: ابن عيينة ثقة إمام، وأثبت أصحاب الزهري مالك، وابن عيينة. وحكى الحميدي عنه أنه قال: أدركت سبعا وثمانين تابعيا. وقال ابن خراش ثقة مأمون ثبت. وقال الترمذي: سمعت محمد يقول: هو أحفظ من حماد بن زيد. وقال أبو معاوية: قال ابن عيينة: قال لي زهير الجعفي: أخرج كتبك، فقلت أنا أحفظ من كتبي. ونسبه ابن عدي إلي شيء من التشيع، فقال في ترجمة عبد الرزاق: ذكر ابن عيينة حديثا، فقيل له: هل فيه ذكر عثمان؟ قال: نعم، ولكني سكت لأني غلام كوفي.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مثل هذا الطعن لهذا الإمام الجليل يحتاج إلى التثبت في صحة الحكاية، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقال ابن حبان في "الثقات" كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين.
وقال اللالكائي: هو مستغن عن التزكية؛ لتثبته وإتقانه، وأجمع الحفاظ أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار. وجزم ابن الصلاح في "علوم الحديث" بأنه مات سنة ثمان وتسعين ومائة. انتهى. وكان انتقاله من الكوفة إلى مكة سنة (63) فاستمر بها إلى أن مات.
وجعله في "التقريب" من رؤوس الطبقة الثامنة.
روى له الجماعة، وله في "صحيح مسلم"(459) حديثًا. والله تعالى أعلم.
(وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ) الإمام الحجة المشهور، هذا أول محل ذكره.
هو: يحيى بن سعيد بن فروخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، آخره خاء معجمة- القطان التميمي، أبو سعيد البصري، الأحول، ثقة متقن، حافظ، إمام، قدوة.
قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: اختلفت إلى شعبة عشرين سنة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: اختلفوا يوما مع شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حَكَمًا، فقال: قد رضيت بالأحول -يعني يحيى بن سعيد القطان-. وقال خالد بن الحارث: غلبنا يحيى بسفيان الثوري. وقال أبو بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد، كنت إذا أخطأت، قال لي الثوري: أخطأت يا يحيى، قال: فحدث يوما عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بحديث الشرب في آنية الذهب والفضة، فقلت: أخطأت يا أبا عبد الله، هذا أهون عليك، إنما ثنا عبيد الله، عن نافع، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، فقال لي: صدقت. وقال عمرو بن علي، عن يحيى ابن سعيد: ما اجتمعت أنا وخالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ إلا قَدّماني. وقال
القواريري عن ابن مهدي: ما رأيت أحسن أخذا للحديث، ولا أحسن طلبا له من يحيى القطان، وسفيان بن حبيب. وقال ابن المديني: لم يكن ممن طلب، وعُني بالحديث، وأقام عليه، ولم يزل فيه، إلا ثلاثة: القطان، وسفيان بن حبيب، ويزيد بن زريع. وقال ابن عمار: حدث عبد الرحمن بن مهدي، عن يحيى بن سعيد بألفي حديث، وهو حي. وقال الساجي: حُدِّثتُ عن علي بن المديني قال: ما رأيت أعلم بالرجال من يحيى القطان، ولا رأيت أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مهدي، فإذا اجتمعا على ترك رجل تركته، وإذا أخذ عنه أحدهما حدثت عنه. وقال أحمد بن يحيى بن الجارود، عن ابن المديني: ما رأيت أثبت من يحيى القطان. وقال إبراهيم بن محمد التيمي: ما رأيت أعلم بالرجال من يحيى القطان. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان، وما رأت عيناي مثله، قال: وقلت لأبي: من رأيت في هذا الشأن؟ قال: ما رأيت مثل يحيى القطان. قلت: فهشيم؟ قال: هشيم شيخ، قلت: فعبد الرحمن بن مهدي؟ قال: لم نر مثل يحيى. وقال أحمد أيضا: كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: يحيى بن سعيد أثبت من هؤلاء -يعني ابن مهدي، ووكيعا، وغيرهما-. وقد رَوَى عن خمسين شيخا ممن روى عنه سفيان، قيل له: كان يكتب عند سفيان؟ قال: إنما يتسمع ما لم يكن سمعه فيكتبه. وقال الفضل ابن زياد: سمعت أحمد يقول: لا والله ما أدركنا مثله، ثم قال: سمعت ابن مهدي وذكره، فقال: لا ترى عيناك مثله. وقال الدوري عن ابن معين، عن ابن مهدي مثله. وجاء نحو هذا عن أحمد من عدة أوجه. وقال الأثرم: سمعته يقول: رحم الله تعالى يحيى القطان، ما كان أضبطه، وأشد تفقّده، كان محدثا، وأثنى عليه، فأحسن الثناء. وقال أبو داود عن أحمد: ما رأيت له كتابا، كان يحدثنا من حفظه. وقال حنبل عن أحمد: ما رأيت أقل خطأ من يحيى، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومن يَعْرَى من الخطأ والتصحيف؟ وقال الدوري عن ابن معين: يحيى القطان أثبت من ابن مهدي في سفيان. وقال أبو بكر بن خلاد: سمعت ابن مهدي يقول: لو كنت لقيت ابن أبي خالد لكتبت عن يحيى القطان عنه؛ لأعرف صحيحها من سقيمها. قال أبو بكر: وسمعت يحيى يقول: جَهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفا، فما أمكنه، قال مرة: ثنا أبو سهل عن الشعبي، فقلت له: أبو سهل محمد بن سالم، فقال: يا يحيى ما رأيت مثلك، لا يذهب عليك شيء. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لابن معين: يحيى القطان فوق ابن مهدي؟ قال: نعم. وقال ابن خزيمة عن بندار: ثنا يحيى بن سعيد، إمام أهل زمانه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند، فيقف بين يديه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن
معين، والشاذكوني، وعمرو بن علي، يسألونه عن الحديث، وهم قيام، هيبةً له. وقال ابن عمار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان، ظننت أنه لا يحسن شيئا، فإذا تكلم أنصت له الفقهاء. وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله تعالى قط. وقال حفيده: لم يكن جدي يمزح، ولا يضحك إلا تبسما، وما دخل حماما قط. وقال أبو داود عن يحيى بن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة، يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا، رفيعا حجة. وقال العجلي: بصري ثقة في الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة. وقال أبو زرعة: كان من الثقات الحفاظ. وقال أبو حاتم: حجة حافظ. وقال النسائي: ثقة ثبت مرضي. قال عمرو ابن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: وُلدت سنة عشرين ومائة، في أولها، ومات في سنة ثمان وتسعين ومائة، وفيها أرخه غير واحد، زاد علي بن المديني في صفر. وقال الدوري عن بن معين، عن عفان بن مسلم: رأى رجل ليحيى بن سعيد قبل موته بعشرين سنة: بَشِّرْ يحيى بن سعيد بأمان من الله تعالى يوم القيامة. وقال أبو حاتم بن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه، حفظا وورعا وفهما وفضلا ودينا وعلما، وهو الذي مَهَّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، ومنه تعلم أحمد، ويحيى، وعلي، وسائر أئمتنا، وكان إذا قيل له في علته: عافاك الله تعالى، قال: أحبه إلي أحبه إلى الله تعالى. وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، وهو أجل أصحاب مالك بالبصرة، وكان الثوري يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم، وقالوا: من تركه يحيى تركناه. أخرج له الجماعة، وله في "صحيح مسلم"(214) حديثًا.
وجعله في "التقريب" من كبار الطبقة التاسعة.
[تنبيه]: من يسمّى يحيى بن سعيد في الكتب الستة خمسة:
1 -
يحيى القطّان هذا.
2 -
يحيى بن سعيد بن أبان الأمويّ الكوفيّ، نزيل بغداد، صدوق يُغرب، توفي سنة (194) من كبار الطبقة التاسعة.
3 -
يحيى بن سعيد بن حيّان، أبو حيّان التيميّ الكوفيّ، ثقة عابد، توفي سنة (145) من الطبقة السادسة.
4 -
يحيى بن سعيد بن العاص الأمويّ الأشدق، ثقة مات في حدود (80) من الطبقة الثالثة.
5 -
يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت، مات سنة (144) من الطبقة الخامسة.
وكلهم من رجال الجماعة، إلا الأشدق، فما أخرج له البخاريّ إلا في "خلق أفعال العباد". وأما يحيى بن سعيد العطّار الأنصاريّ الشامي، فليس من رجال الكتب الستة، وإنما ذُكر في كتب الرجال تمييزًا، وهو ضعيف من الطبقة التاسعة. والله تعالى أعلم.
(وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ) الإمام الحجة المشهور، وهذا أول محل ذكره في هذا الكتاب.
هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري، وقيل: الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي، الحافظ الإمام العلم، ثقة ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، يسأل عن عبد الرحمن بن مهدي، أكان كثير الحديث؟ فقال: قد سمع، ولم يكن بذاك الكثير جدا، لكن الغالب عليه حديث سفيان، وكان يشتهي أن يسأل عن غيره، من كثرة ما يسأل عنه، فقيل له يتفقه، قال: كان أوسع فيه من يحيى بن سعيد، كان يحيى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب أهل الحديث، وإلى رأي المدنيين، فذكر لأبي عبد الله عن إنسان أنه يحكي عنه القدر، قال: ويحل له أن يقول هذا؟ هو سمع هذا منه؟ ، ثم قال: يجيء إلى إمام من أئمة المسلمين، يتكلم فيه؟ ، قيل لأبي عبد الله: كان عبد الرحمن حافظا؟ فقال: حافظ، وكان يتوقى كثيرا، كان يحب أن يحدث باللفظ. وقال حنبل عن أبي عبد الله: ما رأيت بالبصرة مثل يحيى بن سعيد، وبعده عبد الرحمن، وعبد الرحمن أفقه الرجلين، وقال أيضا: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن، فعبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب. وقال أحمد بن الحسن الترمذي: سمعت أحمد يقول: اختلف ابن مهدي ووكيع في نحو خمسين حديثا، فنظرنا، فإذا عامه الصواب في يد عبد الرحمن. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان عبد الرحمن أكثر عددا لشيوخ سفيان من وكيع، وروى وكيع عن خمسين شيخا، لم يرو عنهم عبد الرحمن، قلت: فأبو نعيم؟ قال: أين يقع من هؤلاء؟ . وقال محمد بن عثمان بن أبي صفوان، عن ابن مهدي: كُتِب عني الحديث، وأنا في حلقة مالك. وقال صدقة بن الفضل: سألت يحيى بن سعيد عن حديث؟ فقال: الزم عبد الرحمن بن مهدي. وقال أبو حاتم عن أبي الربيع الزهراني: ما رأيت مثل عبد الرحمن، ووصَفَ منه بَصَرًا بالحديث. وقال العجلي: وذكر عبد الرحمن بن مهديّ، قال له رجل: أيما أحب إليك، يغفر الله لك ذنبا، أو تحفظ حديثا، قال: أحفظ حديثا. وقال علي بن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد
الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد، وقال أحمد بن سنان: سمعت علي بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مرارا. وقال ابن أبي صفوان: سمعت علي بن المديني يقول: لو حُلِّفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي. وقال علي بن نصر، عن علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبهت علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر. وقال القواريري عن يحيى بن سعيد: ما سمع عبد الرحمن من سفيان عن الأعمش أحب إلي، مما سمعت أنا من الأعمش. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: سمعت علي بن المديني يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي، قال: وكان يعرف حديثه وحديث غيره. وكان يُذكر له الحديث عن الرجل، فيقول: خطأ، ثم يقول: ينبغي أن يكون أُتي هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، فنجده كما قال: وقال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام ثقة أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان يعرض حديثه على الثوري. وقال ابن المديني: كان وِرْدُ عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن. وقال الأثرم عن أحمد: إذا حدث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدث، وأبي الرواية إلا عن الثقات. وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، ومات الثوري في داره. وقال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، في جمادى الآخرة، وهو ابن (63) سنة، وكذا قال ابن المديني، وغير واحد في سنة وفاته. أخرج له الجماعة، وله في "صحيح مسلم"(154) حديثًا.
وجعله في "التقريب" من الطبقة التاسعة.
[تنبيه]: لا يوجد في الكتب الستة من اسمه عبد الرحمن بن مهديّ إلا صاحب الترجمة، والله تعالى أعلم.
(وَغَيْرِهِمْ) أي غير هؤلاء الخمسة (مِنَ الْأَئِمَّةِ) الذين هو القدوة في باب الجرح والتعديل (لَمَا) بفتح اللام هي التي يُتلقّى بها جواب "لولا"؛ لأن القاعدة أن جوابها إذا كان مثبتًا قُرن باللام غالبًا، وإن كان منفيّا بـ "ما" تجرد عنها غالبًا، وإن كان منفيّا بـ "لم" لم يقترن بها، كما هو مشهور في محله من كتب النحو (1)(سَهُلَ عَلَيْنَا) بضم الهاء، يقال: سهُل الشيء سُهُولة: لان، هذه هي اللغة المشهورة، قال ابن القطّاع:
(1) راجع شروح "الخلاصة" في باب "لولا"، و"لو ما".
وقالوا: سَهَل بفتح الهاء، وكسرها أيضًا، والفاعل سهل. ذكره في "المصباح". (الإِنْتِصَابُ) أي القيام، يقال: انتصب فلان، وتنصّب: إذا قام رافعًا رأسه. أفاده في "اللسان"(لِمَا سَأَلْتَ) بكسر اللام، وهي جارّة متعلقة بـ "الإنتصاب"، و "ما" موصولة، والعائد محذوف، كما قال في "الخلاصة":
...................
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنْ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
أي للأمر الذي سألتنيه، وقوله:(مِنَ التَّمْيِيزِ) بيان لـ "ما": و "أل" عوض عن المضاف إليه: أي تمييز الأحاديث الصحيحة من سقيمها (وَالتَّحْصِيلِ) بالجر عطف على "التمييز"، وهو مؤكِّد له؛ لأنه بمعناه، قال ابن فارس: أصل التحصيل: استخراج الذهب من حجر المعدن، يقال: حصل الشيء حصُولًا، وحصل لي عليه كذا: ثبت، ووجب، وحصّلته تحصيلًا. أفاده الفيّوميّ.
(وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ مَا) موصولة: أي من أجل الأمر الذي (أَعْلَمْنَاكَ) أي فيما ذكره آنفًا. وقوله: (مِنْ نَشْرِ الْقَوْمِ) بيان لـ "ما"، والمراد بهم من ينسب إلى الحديث، ويتظاهر بمظاهر أهله، وليس منهم، وإنما غرضه أن يقال له: ما أكثر ما جمعه فلان من الأحاديث، يستبدل الذي هو خير، وهو الحديث النبويّ الشريف، الذي هو شرف في الدارين بالتي هي أدنى، وهي الزُّخْرُفُ الفانية، ومراءات الناس، وهذا هو الخسران المبين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله:(الْأَخْبَارَ الْمُنْكَرَةَ) بالنصب على أنه مفعول به لـ "نشر"؛ لأنه مصدر يعمل عمل فعله؛ إذ هو في تقدير "أن نشر القوم"، قال في "الخلاصة":
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ فِي الْعَمَلْ
…
مُضَافًا أوْ مُجَرَّدًا أَوْ مَعَ "أَلْ"
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ "أَنْ" أَوْ "مَا" يَحُلّ
…
مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
وقوله: (بِالأَسَانِيدِ) متعلّق بـ "نشر"(الضِّعَافِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَذْفِهِمْ بِهَا) بالجر عطفًا على "نشر": أي رميهم بتلك الأسانيد الضعاف (إِلَى الْعَوَامِّ) بتشديد الميم: جمع عامّة، مثلُ دابّة ودوابّ، وهو خلاف الخاصّة، والمراد بهم هنا الجهلاء، كما بينه بقوله (الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ) بكسر الراء، من باب ضرب (عُيُوبَهَا) أي عيوب تلك الأسانيد، وهي كونها ضعيفة، مجهولة (خَفَّ) هو بمعنى سهُل الماضي، يقال: خفّ الشيء خَفًّا، من باب ضرب، وخِفّة بالكسر: ضدّ ثقُلِ، فهو خفيف (عَلَى قُلُوبِنَا) متعلّق بـ "خفّ"(إِجَابَتُكَ) بالرفع فاعل "خفّ"(إِلَى مَا سَأَلْتَ) متعلّق بـ "إجابتك"؛ لأنه مصدر، كما سبق آنفًا، و"ما" موصولة، والعائد محذوف، كما سبق نظيره: أي إلى الذي سألتنيه.