الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فلم يقدّر له الخ" تقدّم في المسألة السابقة ردّ هذا الكلام، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.
قال: وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة:
الأولى: من وُسِم بالكذب ووضع الحديث.
الثانية: من غَلَب عليه الوهم والغلط، حتى استغرق روايته.
الثالثة: من غلَت في البدعة، ودعت إليها، وحرّفت الروايات، وزادت فيها؛ ليحتجّوا بها.
والسابعة: قوم مجهولون، انفردوا بروايات لم يُتابعوا عليها، فقبِلَهم قوم، وأوقفهم آخرون انتهى كلام الغسّانيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1).
وقد تعقّب القاضي قول الغساني: إن حديث أهل البدعِ الأثبات الذين لا يَدْعون إلى بدعتهم متفق عليه. فقال: لا يسلم له، بل قد اختَلف في ذلك المحدثون، والفقهاء، والأصوليون، وسنبين ذلك بعدُ عند تنبيه مسلم عليه. انتهى (2).
قلت: سيأتي تمام البحث في الرواية عن المبتدعة عندما يتعرض الإمام مسلم رَحِمَهُ اللهُ تعالى لذكرها -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في قوله: "أو أن يُفصَّل ذلك المعنى على اختصاره الخ"، فقد اشتمل على مسألتين
.
المسألة الأولى: رواية الحديث بالمعنى:
اعلم: أنه اتفق العلماء على أن الراوي إذا لم يكن عالمًا بالألفاظ ومدلولاتها، ومقاصدها، ولا خبيرًا بما يُحيل معانيها، ولا بصيرًا بمقادير التفاوت بينها لم تجز له رواية ما سمعه بالمعنى، بل يجب أن يحكي اللفظ الذي سمعه من غير تصرّف فيه، هكذا نقل ابن الصلاح، والنوويّ، وغيرهما الاتفاق عليه.
ثم اختلفوا في جواز الرواية بالمعنى للعارف العالم:
فمنعها أيضًا كثير من العلماء بالحديث والفقه والأصول. وبعضهم قيد المنع بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم المرفوعة، وأجازها فيما سواه، وهو قول مالك، رواه عنه البيهقيّ في "المدخل"، وروى عنه أيضًا أن كان يتحفّظ من الباء، والياء، والتاء في حديث
(1) راجع "مقدمة إكمال المعلم" ص 147 - 149.
(2)
"مقدمة إكمال المعلم" ص 149.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الخليل بن أحمد، واستدلّ له بحديث:"ربّ مُبَلَّغِ أوعَى من سامع"، فإذا رواه بالمعنى، فقد أزاله عن موضعه، ومعرفة ما فيه. وذهب بَعضهم إلى جواز تغيير كلمة بمرادفها فقط. وذهب آخرون إلى جوازها إن أوجب الخبر اعتقادًا، وإلى منعها إن أوجب عملًا. وقال بعضهم بجوازها إذا نسي اللفظ، وتذكّر المعنى، لأنه وجب عليه التبليغ، وتحمل اللفظ والمعنى، وعجز عن أداء أحدهما، فيلزمه أداء الآخر. وعكس بعضهم، فأجازها لمن حفظ اللفظ ليتمكّن من التصرّف فيه، دون من نسيه. قال العلامة أحمد محمد شاكر رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة خيالية في نظري (1).
وجزم القاضي أبو بكر بن العربيّ بأنه إنما يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم، قال في "أحكام القرآن": إن هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة، ومنهم. وأما من سواهم، فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى، وإن استوفى ذلك المعنى، فإنا لو جوّزناه لكلّ أحد لما كنّا على ثقة من الأخذ بالحديث، إذ كلّ أحد إلى زماننا هذا قد بدل ما نقل، وجعل الحرف بدل الحرف فيما رآه، فيكون خروجًا من الأخبار بالجملة، والصحابة بخلاف ذلك، فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان.
أحدهما: الفصاحة والبلاغة، إذ جبلّتهم عربيّة، ولغتهم سلقية.
الثاني: أنهم شاهدوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وفعله، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة، واستيفاء المقصد كلّه، وليس من أُخبر كمن عاين، إلا تراهم يقولون في كلّ حديث: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، ولا يذكرون لفظه، وكان ذلك خبرًا صحيحًا، ونقلًا لازما، وهذا لا يستريب فيه منصف لبيانه انتهى (2).
وقال ابن الصلاح: ومنعه بعضهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازه في غيره، والأصحّ جواز ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه قاطعًا بأنه أدّى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة، والسلف الأولين، وكثيرًا ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معوّلهم كان على المعنى، دون اللفظ.
ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا، ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغيّر لفظ شيء من كتاب منصف، ويثبت بدله فيه لفظًا
(1) راجع تعليقه على ألفية السيوطي في الحديث ص 163.
(2)
"أحكام القرآن" 1/ 10.