الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح الإجماليّ لهذه الفقرة:
بيّن رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه سيبدأ -إن شاء الله- في تخريج الكتاب المسؤول، وتأليفه بالطريقة التي يفصّلها، وهي أنه يقصد إلى جملة من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقسمها إلى ثلاثة أقسام، وإلى ثلاث طبقات من الرواة، وذلك بلا تكرار للحديث، إلا إذا كان المقام يستدعي التكرار؛ إلا لوقوع زيادة المعنى في الحديث المكرر؛ إذ الزيادة تقوم مقام الحديث التام المستقلّ، أو لكون الإسناد فيه علّة، لا توجد في الثاني، فلو ترك تكراره لتُوُهّم تأثير تلك العلة في صحة الحديث، فيُكرّره؛ ليُعلم أن تلك العلة غير مؤثّرة فيه، أو كان معنى الحديث يمكن فهمه من الحديث، إلا أن في ذلك عسر، فإعادته بتمامه تقريبًا إلى الفهم أسلم وأولى، فأما ما خلا عن هذه الأسباب، فلا يُعيده. والله تعالى أعلم.
الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(ثُمَّ) بعد أن عرفت ما تقدّم (إِنَّا) بكسر الهمزة؛ لأن محله مَحَلُّ ابتداء كلامِ (إِنْ شَاءَ اللهُ) جملة معترضة بين اسم "إنّ" وهو "نا"، وخبرها، وهو قوله (مُبْتَدِئُون فِي تَخْرِيجِ) مصدر خرّج بتشديد الراء، يقال: خرّج العملَ: جعله ضُرُوبًا، وألوانًا. قاله في "القاموس" أي تنوِيعِ (مَا سَأَلْتَ) من تأليف جملة الأخبار المأثورة عن رسول صلى الله عليه وسلم على الصفة المتقدّمة (وَتَأْلِيفِهِ) أي جمعه (عَلَى شَرِيطَةٍ) بفتح الشين المعجمة، أي طريقة، قال أهل اللغة: الشرط، والشريطة، لغتان بمعنى واحد، وجمع الشرط شُرُوط، وجمع الشريطة شرائط، وقد شرط عليه كذا يشرِطه، ويشرُطُه -بكسر الراء، وضمها، من بابي ضرب، ونصر، لغتان، وكذلك اشترط عليه (سَوْفَ أَذْكُرُهَا لَكَ) أي سأبيّنها، وأفصّلها لأجل أن تفهمها، و"سوف" كلمة وعد، ومنه سوّفت به تسويفًا: إذا مَطَلته بوعد الوفاء، وأصله أن يقول له مرّةً بعد أخرى: سوف أفعل. قاله الفيّوميّ (1). وقال المجد: و"سَوْفَ"، ويقال:"سَفْ"، و"سَوْ"، و"سَيْ": حرفٌ معناه: الاستئنافُ، أو كلمة تنفيس فيما لم يكن بعدُ، وتستعمل في التهديد، والوعيد، والوعد، فإذا شئت أن تجعلها اسمًا نوّنتها انتهى (2).
وقد نظم شيخنا عبد الباسط بن محمد الإتيوبيّ الْمِنَاسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لغات "سوف" المذكورة بقوله:
(1)"المصباح المنير" في مادة سوف.
(2)
"القاموس المحيط" في مادة "سوف".
بِأَرْبَعِ اللُّغَاتِ "سَوْفَ" قَدْ رَوَوْا
…
عَنْ مُحْكَمٍ (1)"سَوْفَ" و"سَفْ" و"سَي" و"سَوْ"
(وَهُوَ) الضمير للشأن، وهو ما تفسّره الجملة بعده، أي الشأن والحال (إِنَّا) بكسر الهمزة، ويحتمل فتحها، على أن "هو" ضمير يعود ما ذكره من الشريطة، وإنما ذكّره على تأويله بالمذكور (نَعْمِدُ) أي نَقْصِدُ، يقال: عَمَدت للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعمدت إليه: قصدتُ، وتعمدته: قصدت إليه أيضًا. قاله الفيّوميّ (2)(إِلَى جُمْلَةِ مَا أُسْنِدَ مِنَ الأَخْبَارِ) قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يعني جملة غالبة ظاهرة، وليس المراد جميع الأخبار المسندة، فقد علمنا أنه لم يذكر الجميع، ولا النصف، وقد قال:"ليس كلّ حديث صحيح، وضعته ههنا" انتهى (عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلقٌ بـ "أُسند"(فَنَقْسِمُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَثَلَاثِ طَبَقَاتٍ) جمع طبقة، وهم القوم المتشابهون، من أهل العصر، والمراد هنَا تشابههم في الصفات، كأن يكونوا متشابهين بكون كلهم في الدرجة العليا من الحفظ، والإتقان، أو في الدرجة الوسطى، أو في الدرجة الأدنى، كما يأتي في تفصيل المصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى لذلك، وسيأتي تمام البحث في الطبقة في المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى (مِنَ النَّاسِ) بيان للطبقات. وعطف قوله:"وثلاث طبقات" على قوله: "ثلاثة أقسام"، من عطف السبب على المسبب، وذلك أن سبب انقسام الأخبار على ثلاثة أقسام لانقسام الرواة إلى ذلك، كما يأتي بيانه عند تفصيل المصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى له (عَلَى غير تَكْرَارٍ) متعلّق بحال محذوف، أي حال كون ذلك التقسيم كائنًا على غير تكرار (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعٌ) ببناء الفعل للفاعل، وهو استثناء من غير تكرار، يعني أنه لا يكرّر الحديث، في حال من الأحوال، إلا في حال إتيان موضع (لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرْدَادِ حَدِيثٍ) ببناء الفعل للمفعول، و"فيه" في محل رفع نائب الفاعل، أو متعلّق به، و"عن ترداد حديث" هو النائب، والجملة صفة "موضع"، وجملة قوله (فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى) صفة لـ "حديث".
والمعنى أنه لا يعيد الحديث إلا أن يأتي موضع لا بدّ فيه من إعادة حديث، توجد في ذلك لحديث المعاد زيادة، توضّح معنى الحديث الأول.
(أَوْ إِسْنَادٌ) بالرفع عطفًا على قوله: "موضع"، أي إلا أن يأتي إسناد (يَقَعُ) ذلك الإسناد (إِلَى جَنْب إِسْنَادٍ) مذكور أوّلًا (لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ) علة لوقوع ذلك الإسناد إلى جنب الإسناد السَابق، أي إنما ذكر الإسناد الثاني المعادُ؛ لأجل إزالة علّة تكون في الإسناد الأول، فـ "هناك" إشارة إلى الإسناد الأول، ثم علّل ذلك بقوله (لأَنَّ الْمَعْنَى
(1) هو اسم كتاب في اللغة، لابن سيده البطليوسيّ.
(2)
"المصباح المنير" في مادة "عمد".
الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ، الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ) بالنصب صفة لـ "لمعنى"(يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ) أي يكون بمنزلة حديث مستقلّ، فكأنه لا إعادة، كما أشار إليه بقوله (فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ) حيث جعلته تلك الزياد كحديث مستقلّ، فكأنه لا تكرار.
وحاصل ما أشار إليه رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه يورد الأخبار المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام، كما سيأتي تفصيلها، ولا يكرّر الحديث الوأحد مرّتين، فأكثر، إلا إذا دعت الحاجة إلى التكرار، وذلك في موضعين:
[الأول]: أن يكون الحديث الثاني فيه زيادة توضّح المراد من الحديث الأول، كأن يكون الأول عامّا، ووجد في الثاني ما يخصص عمومه، أو يكون مطلقًا، وفي الثاني تقييده، أو نحو ذلك، فيعيده مرّة أخرى، لأن تلك الزيادة تقوم مقام الحديث المستقلّ، فهو وإن كان تكرارًا ظاهرًا، لكنه كلا تكرار؛ لما ذُكر.
[والثاني]: أن يكون في الإسناد الأول علّة، كأن يكون فيه مدلّس، أو مختلط، ويكون في الثاني ما يزيل ذلك، كأن يقع فيه التصريح بسماع المدلّس، أو يكون الراوي عنه لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما صرّحوا بالسماع، كشعبة، أو يكون الراوي عن المختلط رواه قبل اختلاطه، أو نحو ذلك، فيعيده مرّة أخرى؛ لإزالة تلك العلّة.
فقوله: "لأن المعنى الزائد في الحديث الخ" يتعلّق بكلّ من القسمين، فالزيادة في القسم الأول واضحة، حيث زاد الحديث الثاني معنى لم يوجد في الأول، وكذا الزيادة في الإسناد واضحة أيضًا، حيث إن الثاني أفاد ما لم يفده الأول، من إزالة التدليس، ونحوه. والله تعالى أعلم.
(أَوْ أَنْ يُفَصَّلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى) بالبناء للمفعول، وتشديد الصاد المهملة، من التفصيل، ويحتمل أن يكون بتخفيف الصاد، من الفصل، والأول يؤيّده قوله الآتي:"ولكن تفصيله الخ". وفي بعض النسخ: "أو أن نُفَصِّلَ" بنون المتكلّم، والبناء للفاعل من التفصيل، ويحتمل كونه من الفصل أيضًا، وهو عطف على "إعادة الحديث"، واسم الإشارة راجع إلى المعنى الزائد، والتقدير: فلا بُدّ من فَصْلِ ذلك المعنى الزائد (مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ) يعني الحديث المشتمل على المعنى الزائد (عَلَى اخْتِصَارِهِ) متعلّق بـ "يُفصَّل"، و"على" بمعنى الباء، كما في قوله تعالى:{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} الآية، أو بمعنى "مع"، كقوله تعالى. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية.
والاختصار هو إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى. وقيل: ردّ الكلام الكثير إلى
قليل، فيه معنى الكثير، وسمِّي اختصارًا؛ لاجتماعه، ومنه الْمِخْصَرةُ، وخصر الإنسان. قاله النوويّ (1).
وقوله (إِذَا أَمْكَنَ) إشارة إلى أن شرط اختصار الحديث إمكان فهم المعنى منه، كما سيأتي بيان ذلك في المسائل، إن شاء الله تعالى.
وقال الكفويّ في "الكليات": الاختصار: تقليل المباني مع إبقاء المعاني، أو حذف عرض الكلام، وهو جلُّ مقصود العرب، وعليه مبنى أكثر كلامهم، ومن ثمة وضعوا الضمائر لأنها أخصر من الظواهر خصوصًا ضمير الغيبة، فإنه في قوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً} قام مقام عشرين ظاهرًا، كما قال بعض المحققين. والاختصار أمر نسبيّ، يُعتبر تارة إضافته إلى متعارف الأوساط، وتارة إلى كون المقام خليقًا بعبارة أبسط من العبارة التي ذُكرت، وقد أكثروا من الحذف، فتارة لحرف من الكلمة، وتارة للكلمة بأسرها، وتارة للجملة كلها، وتارة لأكثر من ذلك، ولهذا تجد الحذف كثيرًا عند الاستطالة، كحذف عائد الصلة، فإنه كثير عند طول الصلة انتهى (2).
(وَلَكِنْ تَفْصِيلُهُ) أي تفصيل ذلك المعنى، يعني إيراده مفصولًا عن الحديث، واختصاره منه (رُبَّمَا عَسُرَ) بضم السين، من باب قَرُب، أي صَعُب (مِنْ جُمْلَتِهِ) متعلّق بـ "تفصيل"، أي من جملة ذلك الحديث، يعني أنه لو أريد اختصار ذلك المعنى الزائد من الحديث لكان عَسِرًا؛ لشدة ارتباطه به (فَإِعَادَتُهُ) أي إعادة ذلك الحديث المشتمل على المعنى الزائد (بِهَيْئَتِهِ) قال المجد: الْهَيئة -أي بفتح الهاء، وتكسر-: حال الشيء، وكيفيته. انتهى. والمراد به هنا جملة الحديث وهيئته التركيبية، أي إعادته بجملته، من غير اختصار ذلك المعنى منه (إِذَا ضَاقَ ذَلِك) أي صعب الفصل المذكور (أَسْلَمُ) من تطرّق الخلل إليه، وأفعل هنا ليس للتفضيل، بل هو بمعنى أصل الفعل، أي يكون سالمًا من تطرّق الخلل إليه.
وحاصل المعنى أنه إذا خيف كون الاختصار يؤدي إلى خلل في المعنى كان محظورًا، لأن شرط جواز اختصار الحديث أن لا يُخلّ بالمقصود، فلا يُختصر إلا ما ليس مرتبطًا بالباقي، فإذا تعسّر ذلك، بأن كان كله مرتبطًا بالباقي، أو شُكّ في ارتباطه به، ففي هاتين الحالتين لا يجوز الاختصار، بل يتعيّن ذكره بتمامه، وهيئته؛ مخافة من الخطأ والزلل (3).
(1)"شرح مسلم" 1/ 49.
(2)
"الكليات" لأبي البقاء الكفويّ ص 60 - 61.
(3)
أفاده النوويّ في "شرح صحيح مسلم" 1/ 49.