الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل تتعلّق بكلام المصنّف المذكور:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في حكم الرواية عن الضعفاء من أهل التهمة بالكذب، وكثرة الغلط والغفلة:
اعلم: أنهم اختلفوا في ذلك على قولين:
[أحدهما]: جواز الرواية عنهم، حكاه الترمذيّ في "العلل الصغير" عن سفيان الثوريّ، قال الحافظ ابن رجب: لكن كلامه في روايته عن الكلبيّ يدلّ على أنه لم يكن يُحدّث إلا بما يَعرِف أنه صِدْقٌ.
[الثاني]: أنها لا تجوز، ذُكِرَ ذلك عن أبي عوانة، وابن المبارك، وحكاه الترمذيّ عن أكثر أهل الحديث من الأئمة. وقد ذكر الحاكم المذهب الأول عن مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، واعتمد في حكايته عن مالك على روايته عن عبد الكريم أبي أمية، ولكن اعتُذر عنه بأنه لم يعرفه حيث كان من الغرباء، وفي حكايته عن الشافعيّ على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى، وأبي داود سليمان بن عمرو النخعيّ، وغيرهما من المجروحين، وفي حكايته عن أبي حنيفة على روايته عن جابر الجعفيّ، وأبي العطوف الجزريّ، قال: وحدّث أبو يوسف، ومحمد بن الحسن عن الحسن بن عمارة، وعبد الله بن مُحَرَّر، وغيرهما من المجروحين. قال: وكذلك مَنْ بَعدَهم من أئمة المسلمين قرنًا بعد قرنٍ، وعصرًا بعد عصر إلى عصرنا هذا لم يَخْلُ حديث إمام من أئمة الفريقين (1) عن مطعون فيه من المحدّثين، وللأئمة في ذلك غرض ظاهر، وهو أن يَعرِفوا الحديث من أين مخرجه؟ ، والمنفرد به عدلٌ أم لا؟ .
ثم روى بإسناده عن الأثرم قال: رأى أحمد بن حنبل يحيى بنَ معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر عن أبان، عن أنس، فإذا اطّلَع عليه إنسانٌ كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر، عن أبان، وتَعلَم أنها موضوعة، فلو قال لك قائلٌ: أنت تتكلم في أبان، ثم تكتب حديثه على الوجه؟ فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله أكتُبُ هذه الصحيفة عن عبد الرزاق، عن معمر على الوجه، فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء بعده إنسان، فيجعل بدل ابن ثابتًا، ويرويَهَا عن معمر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له: كذبت، إنما هي عن معمر، عن أبان، لا عن ثابت. وذكر أيضًا من طريق أحمد بن عليّ الأبّار قال: قال يحيى بن معين: كتبنا عن الكذّابين، وسجرنا به التنّور، وأخرجنا به خبزًا نضيجًا. وأخرج العقيليّ من طريق أبي غسّان قال: جاءني علي بن المدينيّ، فكتب عنّي عن عبد السلام بن حرب أحاديث إسحاق بن أبي فَرْوة، فقلت:
(1) يعني المجوّزين للرواية عن الضعفاء، والمانعين عنها.
أيّ شيء تصنع بها؟ قال: أعرفها حتى لا تُقْلَبَ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: من المهمّ -كما أشار إليه ابن رجب- أن يُعلم الفرقُ بين كتابة حديث الضعيف، وبين روايته، فإن الأئمة كتبوا أحاديث الضعفاء لمعرفتها، ولم يرووها، كما قال يحيى بن معين: سجرنا به التنّور. وكذلك حرّق أحمد ابن حنبل حديث خلق كثير بعد أن كتب عنهم، ولم يحدّث به، وأسقط من المسند حديث خلق من المتروكين، مثل فائد بن أبي الورقاء، وكثير بن عبد الله المزنيّ، وأبان ابن أبي عيّاش، وغيرهم، وكان يُحدّث عمن دونهم في الضعف. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: قد يَحتاج الرجل يحدّث عن الضعيف، مثل عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكّام، ومحمد بن معاوية، وعليّ بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، ولا يُعجبني أن يُحدّث عن بعضهم. وقال في روايته أيضًا، وقد سأله: ترى أن نكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبدًا منكر. قيل: فالضعفاء؟ قال: قد يُحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأسًا. وقال في رواية ابن القاسم: ابنُ لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للإعتبار، والإستدلال، إنما أكتب حديث الرجل كأني أستدلّ به مع حديث غيره يشدّه، لا أنه حجة إذا انفرد. وقال في رواية المروزيّ: كنت لا أكتب حديث جابر الجعفيّ، ثم كتبته أعتبرُ به. وقال في رواية مهنّا، وسأله: لم تكتب حديث أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف؟ قال: أعرفه. وقال محمد بن رافع النيسابوريّ: رأيت أحمد بين يدي يزيد بن هارون، وفي يده كتاب لزهير، عن جابر الجعفيّ، وهو يكتبه، فقلت: يا أبا عبد الله تنهونا عن جابر، وتكتبوه؟ قال: نَعْرِفَه. وكذا قال في حديث عبيد الله الوصافيّ: إنما أكتبه للمعرفة.
قال الحافظ ابن رجب: والذي يتبيّن من عمل الإمام أحمد، وكلامه أنه يترك الرواية عن المتّهمين، والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ، ويحدّث عمن دونهم في الضعف، مثل مَنْ في حفظه شيء، ويَختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه. وكذلك كان أبو زرعة يَفعَل.
وأما الذين كتبوا حديث الكذّابين من أهل المعرفة والحفظ، فإنما كتبوه لمعرفته، كما ذكروا أحاديثهم في كتب الجرح والتعديل، ويقول بعضهم في كثير من أحاديثهم: لا يجوز ذكرُها إلا لِيُبَيَّنَ أمرُها، أو معنى ذلك. وقال ابن أبي حاتم: يجوز رواية حديث من كثرت غفلته في غير الأحكام، وأما رواية أهل التهمة بالكذب، فلا يجوز إلا مع بيان حاله، وهذا هو الصحيح. ذكر هذا كله ابن رجب رحمه الله تعالى (1).
(1)"شرح علل الترمذيّ" ص 83 - 86 بتحقيق صبحي السامرائيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التفصيل المذكور عن الإمام أحمد، وأبي زرعة رحمهما الله تعالى هو الأرجح عندي.
وحاصله أن من كان متّهمًا بالكذب، أو كان كثير الخطإ لشدّة غفلته، وسوء حفظه، فإنه يترك حديثه، إلا لمعرفته وبيان حاله للناس، وأن من كان خفيف الضعف، وهو الذي يختلف الناس فيه توثيقًا وتضعيفًا يُروى عنه، فهذا تفصيل حسنٌ جدّا. والله تعالى أعلم.
وإلى ما ذُكر كله أشرت في "شافية الغُلَل" حيث قلت:
ثُمَّ اعْلَمَنْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْم قَدْ
…
اخْتَلَفُوا فِي الأَخْذِ عَمَّنْ قَدْ وَرَدْ
تَضْعِيفُهُ بتُهْمَةٍ أَوْ غَفْلَةِ
…
أَوْ كَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي الرِّوَايَةِ
فَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ وَقَدْ حُكِي
…
ذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةٍ وَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَكَذَا سُفْيَانُ
…
وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَهُ الْبَيَانُ
وَقَصْدُهُمْ فِي ذَا جَمِيلٌ ظَاهِرُ
…
أَنْ يَعْرِفُوا مَخْرَجَ مَا قَدْ أُخْبِرُوا
وَحَالَ مَنْ أَخْبَرَ عَدْلًا أَوْ لَا
…
وَحُسْنُ ذَا الْقَصْدِ شَهِيرٌ أَجْلَى
فَقَدْ رَأَى أَحْمَدُ يَحْيَى يَكْتُبُ
…
صَحِيفَةً لِمَعْمَرٍ تَكَذَّبُ
فَقَالَ كَيْفَ تَكْتُبُ الصَّحِيفَهْ
…
تَعْلَمُهَا مَوْضُوعَةً كَالْجِيفَهْ
أَجَابَهُ فَقَالَ إِنِّي أَكْتُبُ
…
لِلْحِفْظِ حَتَّى لَا يِجِي مَنْ يَنْسُبُ
مُفْتَرِيًا لِمَعْمَرٍ عَنْ ثَابِتِ
…
عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ
فَإِنَّ تَكْذِيبِي لِذَا مُيَسَّرُ لَوْلَا
…
الْكِتَابَةُ لَكَانَ يَعْسُرُ
وَابْنُ الْمَدِينِيِّ كَذَا فَعَلَ فِي
…
ابْنِ أَبِي فَرْوَةَ إِسْحَاقَ اعْرِفِ
وَلْتَعْلَمِ الْفَرْقَ لَدَى الْكِتَابَةِ
…
حَدِيثَ هَؤُلَاءِ وَالرِّوَايَةِ
فَإِنَّمَا يُكْتَبُ لِلْمَعْرِفَةِ
…
وَلِلْبَيَانِ حَسْبُ لَا الرِّوَايَةِ
تَرَكَ أَحْمَدُ حَدِيثَ الْمُتَّهَمْ
…
وَرَاوِيًا يُرْمَى بِكَثْرَةِ الْوَهَمْ
لِغَفْلَةٍ أَسُوءِ حِفْظٍ وَرَى
…
عَمَّنْ غَدَا أَحْسَنَ حَالًا وَحَوَى
ضَعْفًا لِشَيْ مَّا أَوِ الْخُلْفُ أَتَى
…
فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِيهِ ثَبَتَا
وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ مِثْلُهُ ثَبَتْ
…
فَحَقِّقَنْ مَا جَاءَ أَيُّهَا الثَّبَتْ
قَالَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ كُلُّ مَنْ
…
رَوَى الْحَدِيثَ وَهْوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنْ
لِتُهْمَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ كَثْرَةِ
…
خَطَئِهِ لَيْسَ مَحَلَّ حُجَّةِ
إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ لم يَرِدْ
…
عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الضَّعِيفِ الْمُبْتَعِدْ
وَهَكَذَا قَالَ الإِمَامُ مُسْلِمُ
…
قَدْ أَطْلَقَا الرَّدَّ فَخُذْ يَا مُسْلِمُ
لَكِنَّ مَنْ سِوَاهُمَا قَدْ فَصَّلَا
…
بَيْنَ الَّذِي حَرَّمَ أَوْ قَدْ حَلَّلَا