الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولكن من أجل ما أعلمناك الخ" هو بمعنى الكلام السابق في قوله: "فلولا رأينا الخ"، أتى به مؤكّدًا له.
وحاصل المعنى: أنه إنما انتصب لبيان ما سأله مُرِيدُ تمييز الصحيح من القسم، وتأليفه في كتاب ملخّص، لا يكثر فيه التكرار؛ لنشر بعض الناس الأخبارَ المنكرةَ، وروايتها لعوام الناس الذين لا يميّزون الصحيح، من السقيم، ذَبّا عن السنة الصحيحة المطهرة، ودفاعًا عنها أن لا يختلط بها ما ليس منها، فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء على هذه الخدمة الطيّبة للسنة النبوية، وقد نفع الله عز وجل بكتابه الأمة جمعاء، منذ أن ألفه إلى يومنا هذا، وسيبقى -إن شاء الله تعالى- ما دامت السنة المطهرة باقية، وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ببقائها إلى أن يأتي أمر الله، فقد أخرج البخاري في "كتاب العلم" من "صحيحه" من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، مرفوعًا:"ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
1 -
(بَاب وُجُوبِ الرِّوَايَةِ عَنِ الثِّقَاتِ وَتَرْكِ الْكَذَّابِينَ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
(وَاعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنَ الْمُتَّهَمِينَ أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَان مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ).
إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفِقْرة:
بيّن رحمه الله تعالى في هذا الكلام أن الذي يجب على كلّ من له تمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وبين الرواة الثقاة والضعفاء من المتّهمين بالكذب وغيره أن لا يُحدّث إلا بما عرف صحة طريقه، وثقة رواته، وأن يجتنب أحاديث المتّهمين، والمبتدعين الذي يعاندون الحقّ، ويَدْعُون إلى الباطل. والله تعالى أعلم.
إيضاح الشرح التفصيليّ لهذه الفقرة:
(وَاعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى) جملة دعائية، معترضة بين العامل، وهو "اعلم"،
ومعموله، وهو قوله:(أَنَّ الْوَاجِبَ) بفتح همزة "أن" لوقوعها موقع المصدر (عَلَى كُلِّ
أَحَدٍ) متعلّق بـ "الواجب"(عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا) أي عرف الفرق بينها، فالمراد بـ "التمييز" التميّز من إطلاق السبب وإرادة المسبّب؛ لأن التمييز فعل الفاعل، وليس مرادًا هنا؛ إذ المراد معرفة الفرق، وهو معنى التميّز، لا التمييز.
قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: مِزْته ميزًا، من باب باع: عزلته، وفصلته من غيره، والتثقيل مبالغة، وذلك يكون في المشتبهات، نحو:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية [الأنفال: 37]، وفي المختلطات، نحو:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]، وتَمَيّزَ الشيءُ: انفصل عن غيره، والفقهاء يقولون: سنّ التمييز، والمراد سنٌّ إذا انتهى إليها عَرَف مضارّه ومنافعه، وكأنه مأخوذ من ميّزتُ الأشياء: إذا فرّقتها بعد المعرفة بها، وبعض الناس يقول: التمييز قُوّة في الدماغ، يُستنبط بها المعاني. انتهى كلام الفيّوميّ (1).
ويحتمل أن يكون التمييز على حقيقته، ويكون المعنى على حذف مضاف: أي عرف طريق التمييز بينها.
والإضافة في "صحيح الروايات"، و "سقيمها" من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي الروايات الصحيحة، والروايات السقيمة، وقد تقدّم تعريف الصحيح، والمراد بالروايات السقيمة: الروايات المعلّة، وقد تقدّم بيانها أيضًا.
وقوله: (وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أيضًا: أي الرواة الثقات. وقوله: (لَهَا) متعلّق بـ "الناقلين"(مِنَ الْمُتَّهَمِينَ) كان الأولى أن يقول: والمتهمين بالواو؛ لأن كلمة "بين" مسلطة عليه؛ إذ هو معطوف على "صحيح الروايات الخ"، أي عرف الفرق أيضًا بين الرواة الثقات، وبين المتّهمين منهم.
والمراد بالمتّهم من يُتّهم بالكذب، وقد تقدّم له أنه يُلحَق بهم مَنَ كان الغالبُ على حديثه المنكرَ، أو الغلط، فكلهم مهجور الحديث، غير جائز الرواية.
وقال النووي رحمه الله تعالى: ما معناه: قوله: "وثقات الناقلين لها من المتّهمين" ليس من باب التكرار، بل له معنى غير ذلك، فقد تصحّ الروايات لمتن، ويكون الناقلون لبعض أسانيده متّهمين، فلا يُشتغل بذلك الإسناد. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويحتمل أن يكون من باب عطف السبب على المسبب نظرًا للغالب؛ إذ معرفة الفرق بين الصحيح والسقيم إنما تتحقّق بمعرفة الثقات والضعفاء غالبًا. والحاصل أن صحة الحديث متوقفة على أمرين:
(1)"المصباح المنير" 2/ 587.
(2)
"شرح النووي" 1/ 21.
[أحدهما]: ثقة رجاله.
[والثاني]: استقامة متنه، فلو كان سنده صحيحًا إلا أن في متنه نكارة لا يقبل، وكذا العكس. والله تعالى أعلم.
(أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا) أي من تلك الروايات الصحيحة والسقيمة، والمصدر المؤوّل خبر "أن"، والتقدير: أن الواجب على من عرف الفرق بين الصحيح، والسقيم عدم روايته (إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ) بفتح الميم جمع مخرج بمعنى الطريق: أي إلا ما عرف صحة طريقه، وذلك بكون رواته ممن ثبتت عدالتهم، وضبطهم.
وهذا هو القسم الأول الذي تقدّم بيانه في قوله: "فأما القسم الأول، فإنا نتوخّى أن نُقدّم الأخبار التي هي أسلم من العيوب، من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا
…
" إلى آخر كلامه.
(وَالسِّتَارَةَ) -بكسر السين، وتخفيف المثناة الفوقية- ويقال فيه "الستار" بحذف الهاء: وهو ما يُستتر به، قال الفيّومي: السِّتر -أي بالكسر-: ما يُستر به، وجمعه ستور، والسُّترة بالضمّ مثله. قال ابن فارس: السُّترة: ما استررت به كائنًا ما كان، والستارة بالكسر مثله، والستار بحذف الهاء لغة. وسترتُ الشيء سَتْرًا من باب قتل. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: الستارة بكسر السين، وهي ما يُستتر به، وكذلك السُّتْرة، وهي هنا إشارة إلى الصيانة. انتهى (1).
وقوله: (فِي نَاقِلِيهِ) متعلق بـ "الستارة"، و "في" بمعنى اللام، والمراد كونهم مستورين، فهو بمعنى قوله المتقدّم:"فإن اسم الستر والصدق، وتعاطي العلم يشملهم".
وهذا إشارة إلى القسم الثاني الذي تقدّم له بيانه بقوله: "فإذا نحن تقصّينا أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدّم قبلهم
…
" إلى آخر كلامه.
والحاصل أن كلام المصنف رحمه الله تعالى هذا يشير إلى أن ما يجوز روايته من الأخبار ينقسم إلى قسمين:
[أحدهما]: ما كان صحيحًا بكون رواته استوفوا شروط الصحة.
[الثاني]: ما كان دون ذلك، وهو ما نقله المستورون من أهل الصدق، فهذان
(1)"شرح النووي" 1/ 20.
القسمان يجوز روايتهما. والله تعالى أعلم.
(وَأَنْ يَتَّقِيَ) عطف على "أن لا يروي الخ": أي يَحذَر، فـ "يتّقي" بتشديد المثناة الفوقية: مضارع "اتّقى"، وأصله "اوتقى" بوزن افتعل من التقوى، أبدلت الواو تاء، كما قال بن ابن مالك في "الخلاصة":
ذُو اللِّينِ فَا تَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا
…
وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ ائْتَكَلَا
وقال النووي رحمه الله تعالى: قوله: "وأن يتّقي منها" ضبطناه بالتاء المثنّاة فوقُ بعد المثنّاة تحتُ، وبالقاف، من الإتّقاء، وهو الإجتناب. وفي بعض الأصول:"وأن ينفي" بالنون والفاء، وهو صحيح أيضًا، وهو بمعنى الأول. انتهى (1).
(مِنْهَا) أي من تلك الروايات، وهو متعلّق بـ "يتّقي" (مَا كَانَ مِنْهَا) "ما" اسم موصول مفعول "يتّقي": أي يحذر من تلك الرواياتِ التي تُنْقَلُ (عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ) -بضم المثناة الفوقية، وسكون الهاء، وفتحها-: أي أهل الشك والريبة، قال الفيّومي:"التُّهْمة": بسكون الهاء، وفتحها: الشكّ والريبة، وأصلها الواو؛ لأنها من الْوَهْم. انتهى.
والمراد به المتّهمون بالكذب. والله تعالى أعلم.
(وَالْمُعَانِدِينَ) أي المعارضين للسنة، والمخالفين لها، وهو عطف على "أهل التهم"، يقال: عاند فلان عنادًا، من باب قاتل: إذا ركب الخلاف والعصيان. قاله الفيّومي. وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ) متعلّق بحال محذوف من "المعاندين"، وهو حال مؤكّد، كقوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
و"البدع" -بكسر الموحّدة، وفتح الدال المهملة-: جمع بدعة، وهي: ما استُحْدِثت في الدين بعد إكمال الله تعاليله، حيث قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية [المائدة: 3].
وحاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى في هذا الكلام أن مَن لا تحلّ الرواية عنهم قسمان أيضًا:
[أحدهما]: المتّهم بالكذب، وهو مما خلاف بين أهل العلم فيه.
[الثاني]: المبتدع المعاند، والمراد المجاهر ببدعته، والداعي إليها، وهذا فيه اختلاف بين أهل العلم سيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثانية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)"شرح النووي" 1/ 20.