الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في قبول توبة من كذب في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم
-:
اعلم: أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدًا في حديث واحد فَسَقَ، ورُدّت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب، وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، شيخ البخاري، وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من فقهاء الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم، ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك، ولا تُقبل روايته أبدا، بل يُحتم جرحه دائما، وأطلق الصيرفي، وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك، قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. ولم أر دليلا لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا، وزجرا بليغا عن الكذب صلى الله عليه وسلم؛ لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة، ليست عامة.
قال النوويّ رحمهُ اللهُ تعالى: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحته توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا. انتهى كلام النوويّ رحمهُ اللهُ تعالى في شرحه لهذا الكتاب.
وقال في "التدريب شرح التقريب" 1/ 330: تقبل رواية التائب من الفسق، ومن الكذب في غير الحديث النبوي، كشهادته؛ للآيات، والأحاديث الدالة على ذلك، إلا الكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقبل رواية التائب منه أبدا، وإن حسنت طريقته، كذا قاله أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري، وأبو بكر الصيرفي الشافعي، بل قال الصيرفي، زيادة على ذلك في "شرح الرسالة": كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نَعُد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفناه لم نُقَوِّهَ بعده، بخلاف الشهادة، قال النوويّ: ويجوز أن يُوَجَّهَ بأن ذلك جُعِل تغليظا عليه، وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ لِعظيمَ مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره، والشهادةِ، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة. وقال أبو المظفر السمعاني: مَنْ كَذَبَ في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه،
قال ابن الصلاح: وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي، قال النوويّ: هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا، ومذهب غيرنا، ولا نُقَوِّي الفرقَ بينه وبين الشهادة، وكذا قال في شرح مسلم: المختار القطع بصحة توبته، وقبول روايته كشهادته، كالكافر إذا أسلم.
قال السيوطيّ: وأنا أقول: إن كانت الإشارة في قوله: "هذا كله" لقول أحمد، والصيرفي، والسمعاني، فلا -والله- ما هو بمخالف، ولا بعيد، والحق ما قاله الإمام أحمد؛ تغليظا وزجرا، وإن كانت لقول الصيرفي بناءً على أن قوله:"بكذب" عامٌّ في الكذب في الحديث وغيره، فقد أجاب عنه العراقي بأن مراد الصيرفي ما قاله أحمد، أي في الحديث، لا مطلقا، بدليل قوله:"من أهل النقل"، وتقييده بالمحدِّث في قوله أيضا في "شرح الرسالة": وليس يُطعَن على المحدث، إلا أن يقول: تعمدت الكذب، فهو كاذب في الأول، ولا يقبل خبره بعد ذلك. انتهى. وقولُهُ: ومن ضعفناه، أي بالكذب، فانتظم مع قول أحمد.
وقد وجدتُّ في الفقه فرعين يشهدان لما قاله الصيرفي والسمعاني، فذكروا في "باب اللعان" أن الزاني إذا تاب، وحسنت توبته لا يعود محصنا، ولا يُحَدُّ قاذفه بعد ذلك؛ لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا، وذكروا أنه لو قُذِفَ، ثم زنى بعد القذف قبل أن يُحَدَّ القاذف لم يُحَدّ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يَفضَح أحدا من أول مرة، فالظاهر تقدُّمُ زناه قبل ذلك، فلم يحد له القاذف، وكذلك نقول فيمن تبين كذبه: الظاهر تكرر ذلك منه، حتى ظهر لنا، ولم يتعين لنا ذلك فيما رَوَى من حديثه، فوجب إسقاط الكل، وهذا واضح بلا شك، ولم أَرَ أحدا تنبّه لما حررته -ولله الحمد-.
وإلى هذا أشار في "ألفية الحديث" بقوله:
وَمَنْ يَتُبْ عَنْ فِسْقِهِ فَلْيُقْبَلِ
…
أَوْ كَذِبِ الْحَدِيثِ فَابْنُ حَنْبَلِ
وَالصَّيْرَفِيُّ وَالْحُمَيْدِيُّ أَبَوْا
…
قَبُوَلَهُ مُؤَبَّدًا ثُمَّ نَأَوْا
عَنْ كُلِّ مَا مِنْ قَبْلِ ذَا رَوَاهُ
…
وَالنَّوَوِيُّ كُلَّ ذَا أَبَاهُ
وَمَا رَآهُ الأَوَّلُونَ أَرْجَحُ
…
دَلِيلُهُ فِي شَرْحِنَا مُوَضَّحُ
انتهى كلام السيوطيّ رحمهُ اللهُ تعالى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرره السيوطيّ رحمهُ اللهُ تعالى من ترجيح
(1) راجع "التدريب" 1/ 329 - 331.