الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حنبل وأبو حاتم الرازي والذهلي ويعقوب بن شيبة وإسماعيل القاضي وطائفة. قال أبو حاتم: كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وما سمعت أحدا سماه قط، إنما كان يكنيه تبجيلا له. وعن ابن مهدي قال: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النسائي: كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن.
- من أقواله: التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- روى اللالكائي عن سهل بن محمد، قرأها على علي بن عبد الله بن جعفر المديني فقال له: قلت أعزك الله: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها:
الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها، لا يقال لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها، وإن لم يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم عليه الإيمان به والتسليم. مثل حديث زيد بن وهب عن ابن مسعود قال:"حدثنا الصادق المصدوق"(1) ونحوه من الأحاديث المأثورة عن الثقات، ولا يخاصم أحدا ولا يناظر ولا يتعلم الجدل.
والكلام في القدر وغيره من السنة مكروه ولا يكون صاحبه -وإن أصاب السنة بكلامه- من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم، ويؤمن بالإيمان.
(1) انظر تخريجه ضمن موقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).
والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله عز وجل ليس ببائن منه وليس منه شيء مخلوق، يؤمن به ولا يناظر فيه أحدا. والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن العبد ولا يزن جناح بعوضة. يوزن أعمال العباد كما جاءت به الآثار، الإيمان به والتصديق والإعراض عن من رد ذلك وترك مجادلته.
وإن الله عز وجل يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ليس بينهم وبينه ترجمان، الإيمان بذلك والتصديق.
والإيمان بالحوض، إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا يوم القيامة، ترد عليه أمته، عرضه مثل طوله، مسيرة شهر آنيته، كعدد نجوم السماء على ما جاء في الأثر ووصف. ثم الإيمان بذلك.
والإيمان بعذاب القبر، إن هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله عز وجل وكما أراد، الإيمان بذلك والتصديق، والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإخراج قوم من النار بعدما احترقوا وصاروا فحما، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر، كيف شاء وكما شاء إنما هو الإيمان به والتصديق، والإيمان بأن المسيح الدجال مكتوب بين عينيه (كافر) للأحاديث التي جاءت فيه، الإيمان بأن ذلك كائن. وإن عيسى ابن مريم ينزل فيقتله بباب لد.
والإيمان قول وعمل على سنة وإصابة ونية. والإيمان يزيد وينقص وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا. وترك الصلاة كفر، ليس شيء من
الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، من تركها فهو كافر وقد حل قتله.
وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق، ثم عمر ثم عثمان بن عفان، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يختلفوا في ذلك. ثم من بعد الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك. كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أفضل الناس بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: القرن الذين بعث فيهم كلهم، من صحبه سنة أو شهرا أو ساعة أو رآه أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فأدناهم صحبة، هو أفضل من الذين لم يروه، ولو لقوا الله عز وجل بجميع الأعمال، كان الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل بصحبته من التابعين كلهم، ولو عملوا كل أعمال الخير، ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين، البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليلة إلا عليه إمام برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين. والغزو مع الأمراء ماض إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك.
وقسمة الفيء وإقامة الحدود للأئمة الماضية ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة قد برئ من دفعها إليهم، وأجزأت عنه برا كان أو فاجرا. وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة قائمة ركعتان، من أعادها فهو مبتدع تارك للإيمان مخالف وليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم ير الجمعة خلف الأئمة من كانوا برهم
وفاجرهم، والسنة أن يصلوا خلفهم لا يكون في صدره حرج من ذلك. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد اجتمع عليه الناس فأقروا له بالخلافة بأي وجه كانت -برضا كانت أو بغلبة- فهو شاق هذا الخارج عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية.
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة.
ويحل قتال الخوارج واللصوص إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله أو ما دون نفسه، فله أن يقاتل عن نفسه وماله حتى يدفع عنه في مقامه. وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم ولا يتبع آثارهم وقد سلم منهم، ذلك إلى الأئمة إنما هو يدفع عن نفسه في مقامه، وينوي بجهده أن لا يقتل أحدا، فإن أتى على يده في دفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول. وإن قتل هو في ذلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجونا له الشهادة كما في الأثر، وجميع الآثار إنما أمر بقتاله ولم يؤمر بقتله. ولا يقيم عليه الحد ولكنه يدفعه إلى من ولاه الله أمره فيكون هو يحكم فيه.
ولا يشهد على أحد من أهل القبلة بعمل عمله، بجنة ولا نار؛ نرجو للصالح، ونخاف على الطالح المذنب، ونرجو له رحمة الله عز وجل. ومن لقي الله بذنب يجب له بذنبه النار تائبا منه غير مصر عليه، فإن الله يتوب عليه ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. ومن لقي الله وقد أقيم عليه حد
ذلك الذنب فهو كفارته، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ومن لقيه مصرا غير تائب من الذنوب التي استوجبت بها العقوبة فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. ومن لقيه مشركا عذبه ولم يغفر له.
والرجم على من زنا وهو محصن إذا اعترف بذلك وقامت عليه البينة؛ رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم الأئمة الراشدون من بعده.
ومن تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساوئه فهو مبتدع، حتى يترحم عليهم جميعا فيكون قلبه لهم سليما.
والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله عز وجل ويعبد غيره في السر، ويظهر الإيمان في العلانية مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منهم الظاهر، فمن أظهر الكفر قتل.
وهذه الأحاديث التي جاءت:
"ثلاث من كن فيه فهو منافق"(2) جاءت على التغليظ، نرويها كما جاءت ولا نفسرها.
مثل: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". (3)
(1) أخرجه: أحمد (5/ 320) والبخاري (7/ 278/3892) ومسلم (3/ 1333/1709) والترمذي (4/ 36/1439) والنسائي (7/ 160 - 161/ 4172) من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
أخرجه: أحمد (2/ 536) والبخاري (1/ 120/33) ومسلم (1/ 78/59) والترمذي (5/ 20/2631) والنسائي (8/ 491/5036) بمعناه. كلهم عن أبي هريرة.
(3)
أحمد (1/ 230) والبخاري (8/ 133 - 134/ 4403) ومسلم (1/ 82/66) وأبو داود (5/ 63/4686) والنسائي (7/ 143/4136) وابن ماجه (2/ 1300/3943) عن ابن عمر.
ومثل: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". (1)
ومثل: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". (2)
ومثل: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". (3)
ومثل: "كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق". (4)
ونحو هذه الأحاديث مما ذكرناه ومما لم نذكر في هذه الأحاديث. ما صح وحفظ فإنه يسلم له وإن لم يعلم تفسيره فلا يتكلم فيه ولا يجادل فيه ولا يتكلم فيه ما لم يبلغ لنا منه، ولا نفسر الأحاديث إلا على ما جاءت ولا نردها.
والجنة والنار مخلوقتان كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ورأيت الكوثر"(5) و"اطلعت في الجنة فإذا أكثر أهلها كذا،
(1) أحمد (5/ 43) والبخاري (1/ 115/31) ومسلم (4/ 2214/2888 [15]) وأبو داود (4/ 462/4268) والنسائي (7/ 142/4132) وأخرجه ابن ماجه (2/ 1311/3965) بمعناه. كلهم عن أبي بكرة. وورد أيضا عن عدة من الصحابة.
(2)
أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود.
(3)
أحمد (2/ 112) والبخاري (10/ 630/6104) ومسلم (1/ 79/60) وأبو داود (5/ 64/4687) والترمذي (5/ 23/2637) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه: أحمد (2/ 215) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث أخرجه بلفظ: "كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرفه أو جحده وإن دق". وابن ماجه (2/ 916/2744) والطبراني في الأوسط (8/ 446/7915) وفي الصغير (2/ 377/1045) قال البوصيري في الزوائد: "هذا الحديث في بعض النسخ دون بعض، ولم يذكره المزي في الأطراف، وإسناده صحيح، وأظنه من زيادات ابن القطان".
(5)
أخرج طرفه الأول: أحمد (3/ 309) والبخاري (9/ 399/5226) ومسلم (4/ 1862/2394) من حديث جابر.
واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا" (1).
فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالأثر، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار. وقوله:"أرواح الشهداء تسرح في الجنة"(2). وهذه الأحاديث التي جاءت كلها نؤمن بها.
ومن مات من أهل القبلة موحدا مصليا صلينا عليه واستغفرنا له لا نحجب الاستغفار ولا ندع الصلاة عليه لذنب صغير أم كبير، وأمره إلى الله عز وجل.
وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة ويدعو له ويترحم عليه، فارج خيره واعلم أنه برئ من البدع.
وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن وراء ذلك خيرا إن شاء الله.
وإذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني وابن عون ويونس والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارج خيره. ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة ومعاذ ووهب بن جرير فإن هؤلاء محنة أهل البدع، وإذا رأيت الرجل من أهل الكوفة يعتمد على طلحة بن مصرف وابن أبجر وابن حيان التيمي ومالك بن مغول وسفيان بن سعيد الثوري وزائدة فارجه، ومن بعدهم عبد الله بن إدريس ومحمد بن عبيد وابن أبي عتبة والمحاربي فارجه.
(1) أحمد (4/ 429) والبخاري (6/ 391/3241) والترمذي (4/ 617/2603) والنسائي في الكبرى (5/ 398/9259) من حديث عمران بن حصين.
(2)
أخرجه: مسلم (3/ 1502 - 1503/ 1887) والترمذي (5/ 215 - 216/ 3011) وابن ماجه (2/ 936 - 937/ 2801) عن عبد الله بن مسعود.
وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، فلا تطمئن إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماما. (1)
" التعليق:
هذه عقيدة كاملة من هذا الإمام من قرأها فهم تماما عقيدة السلف.
وجميع الأصول التي ذكرها هذا الإمام السلفي هي التي ذكرها من جاء بعده ممن ألف في العقيدة السلفية، إما على طريقة الاختصار أو على طريقة التفصيل. وعلى كل حال نحمد الله على وجود هذه العقائد السلفية في هذا الوقت المبكر تقمع رؤوس البدع في وقتها وبعدها، وترد كيد الكائدين والمفترين الذين ينسبون عقيدة السلف إلى ابن تيمية وأتباعه.
- قال علي بن المديني في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم"(2): هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول ويذبون عن العلم. لولاهم، لم تجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئا من السنن. (3)
- قال الميموني: سمعت علي بن المديني يقول: ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل. قال قلت له: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق؛ إن أبا بكر الصديق كان له أعوان
(1) أصول الاعتقاد (1/ 185 - 192/ 318).
(2)
تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ).
(3)
شرف أصحاب الحديث (10) و (27) وبلفظ مغاير في (52).
وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. (1)
(1) طبقات الحنابلة (1/ 17).
"
التعليق:
قد عاين الإمام علي بن المديني محنة الإمام أحمد ورأى منه الصبر والجلد في سبيل نصرة المذهب الحق، فعظم الإمام أحمد في عين ابن المديني، ونحن نقول رحمة الله على الإمام أحمد وأين لنا مثل أحمد في سعة علمه وتبحره وتضحيته بالنفس والمال والعلم، وصبره وجلده.
نحبه ونثني عليه ونذكر مناقبه ولا نرفعه فوق قدره، وهو من علماء القرون المفضلة وأبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وفضائله مشهورة مأثورة أوضح من نار على علم، وجهوده وتضحياته في سبيل نصرة هذا الدين أوضح من أن تبين، وهي مبثوثة في أبواب السيرة لمن شاء الوقوف عليها، ولن يبلغ أحد بعده ما بلغه في نصرة هذا الدين، قال البخاري في صحيحه حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا فليح قال: حدثني سالم أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر". (1)
(1) أخرجه: أحمد (3/ 18) والبخاري (1/ 734/466) ومسلم (4/ 1854 - 1855/ 2382) والترمذي (5/ 568/3660) عن أبي سعيد الخدري.
قال الحافظ في الفتح: وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره، والله أعلم (1). اهـ
وأورد هنا ما ذكره المقري التلمساني في نفح الطيب من فوائد أبي بكر ابن العربي قال: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: "إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم" فقالوا: بل منهم، فقال:"بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا"(2)، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح:"لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(3)،
فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها
(1) الفتح (7/ 16).
(2)
أخرج القسم الأول منه إلى قوله: "بل منكم": أبو داود (4/ 512/4341) والترمذي (5/ 240/3058) وابن ماجه (2/ 1330 - 1331/ 4014) وابن حبان (الإحسان: 2/ 108 - 109/ 385) عن أبي ثعلبة الخشني. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 182 - 183/ 10394) والبزار (كشف: 4/ 131/3370) عن ابن مسعود. وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 282) وقال: "رواه البزار والطبراني
…
ورجال البزار رجال الصحيح غير سهل بن عامر البجلي وثقه ابن حبان". وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة (1/ 892 - 893/ 494) بعد أن ذكر رواية المعجم: "وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم".
(3)
أحمد (3/ 11) والبخاري (7/ 24/3673) ومسلم (4/ 1967 - 1968/ 2541) وأبو داود (5/ 45/4658) والترمذي (5/ 653/3861) عن أبي سعيد الخدري ..
أحد، ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه، وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام، صعب المرام، لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك، لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه"(1) وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"(2) فلا بد، والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله:"لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا" حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله"(3)
(1) أخرجه بلفظ: "لتتبعن
…
": أحمد (3/ 84) والبخاري (6/ 613/3456) ومسلم (4/ 2054/2669) عن أبي سعيد وفي الباب عن أبي هريرة وغيره.
(2)
أخرجه: مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986) عن أبي هريرة وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما.
(3)
أخرجه: أحمد (3/ 268) ومسلم (1/ 131/148) والترمذي (4/ 426 - 427/ 2207) من حديث أنس بن مالك ..
يروى برفع الهاء ونصبها، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول: أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه"(1) انتهى. (2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في 'الفرقان بين الحق والباطل': لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة، لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة، من الإيمان والجهاد، ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول، وتصديقه وطاعته فيما يُخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد. (3)
وبالجملة فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما ولن يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه وإن ضوعف له في الأجر بسبقهم إلى الإسلام ودفاعهم عنه ومقامهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذبهم عنه وبتبليغهم دعوته بعده، وتزكية الله لهم، والأجر غير الفضل، فقد يزاد للرجل بعدهم في الأجر كما صح في الخبر، ولا يبلغ الفضل الذي خصوا به، وبالله
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي ذر سنة (32هـ).
(2)
نفح الطيب (2/ 37 - 39).
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 65 - 66).