الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب الذي في يكذب في حلمه
(1)] قوله [كلف يوم القيامة عقد شعيرة] وجه ذلك (2) أنه أخبر بالمحال فيكلف المحال، ففي الكذب في الرؤيا زيادة نسبة إلى
(1) وافق المصنف في ذلك تبويب البخاري إذ بوب في صحيحه ((باب من كذب في حلمه)) أي باب في إثم الذي يكذب، والحلم بضم المهملة وسكون اللام ما يراه النائم، قال الحافظ: وحديث على هذا سنده حسن، وقد صححه الحاكم، ولكنه من رواية عبد الأعلى بن عامر ضعفه أبو زرعة، انتهى.
(2)
ولفظ البخاري بسنده إلى ابن عباس مرفوعًا: من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعرتين ولن يفعل، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ، قال الحافظ: ومعنى العقد بين الشعرتين أن يفتل إحداهما بالأخرى، وهو مما لا يمكن عادة، ومناسبة الوعيد المذكور للكاذب في منامه وللمصور أن الرؤيا خلق من خلق الله، وهي صورة معنوية فأدخل بكذبه صورة لم تقع، كما أدخل المصور في الوجود صورة ليست بحقيقية، لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح، فكلف صاحب الصورة اللطيفة أمرًا لطيفًا، وهو الاتصال المعبر بالعقد بين الشعرتين، وكلف صاحب الصورة الكثيفة أمرًا شديدًا، وهو أن يتم ما خلقه بزعمه بنفخ الروح، ووقع وعيد كل منهما بأنه يعذب حتى يفعل ما كلف به، وهو ليس بفاعل، فهو كناية عن تعذيب كل منهما على الدوام، وقال أيضًا قال المهلب: في قوله كلف أن يعقد بين شعرتين حجة الأشعرية في تجويزهم تكليف ما لا يطاق، ومثله في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)} وأجاب من منع ذلك بقوله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} وحملوه على أمور الدنيا وحملوا الآية والحديث المذكورين على أمور الآخرة، انتهى. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها، والحق أن التكليف المذكور في قوله: كلف أن يعقد ليس هو التكليف المصطلح، وإنما هو كناية عن التعذيب كما تقدم، انتهى.
غيره من الكذبات، وهو أنه لما كان جزء من النبوة كان الكذب فيه خيانة في التبليغ وهي أشد، وفيه دعوى (1) أنه تعالى ألقى إلي وألهمني مع أنه لم يلق ولم يلهم. قوله [ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب] هذا (2) لا يشير إلى أبي بكر بشيء حتى يجاب عنه، فإن علوم الصحابة وكذا غيرهم من أمته صلى الله عليه وسلم إنما هي من علومه، وليس في ذلك الحديث مقدار علمه أو مرتبته في العلم بين الصحابة ومزيته عليهم فيه، حتى يحتاج إلى الجمع بينه وبين روايات أعلمية أبي بكر.
(1) قال الحافظ: أما الكذب في المنام، فقال الطبري: إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه، إذ قد تكون شهادة في قتل، أوحد أو أخذ مال، لأن الكذب في المنام كذب على الله تعالى أنه أراده ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين، لقوله تعالى {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبًا على الله لحديث الرؤيا جزء من النبوة، وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى، انتهى ملخصًا.
(2)
لله در الشيخ ما أجاد ولم تبق إذًا فاقة إلى توجيهات ذكرها الشراح، ووجه الحافظ بتوجيه آخر، فقال: ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سببًا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي، وفي الحديث فضيلة عمر وأن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها، وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير، ومنها ما يحمل على ظاهره، والمراد بالعلم ههنا العلم بسياسة الناس، بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعًا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له، فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافًا، والفتن إلا انتشارًا، انتهى. وقال القارئ: قال العلماء بين عالم الأجسام وعالم الأرواح عالم آخر يقال له عالم المثال، والنوم سبب لسير الروح في عالم المثال ورؤية ما فيه من الصور غير الجسد، والعلم مصور بصور اللبن في ذلك العالم بمناسبة أن اللبن أول غذاء البدن وسبب صلاحه، والعلم أول غذاء الروح وسبب صلاحه، وقيل: التجلي العلمي لا يقع إلا في أربع صور، الماء، واللبن، والخمر، والعسل، تناولتها آية فيها ذكرت أنهار الجنة فمن شرب الماء يعطي العلم اللدني، ومن شرب اللبن يعطي العلم بأسرار الشريعة، ومن شرب الخمر يعطي العلم بالكمال، ومن شرب العسل يعطي العلم بطريق الوحي، وقد قال بعض العارفين: إن الأنهار الأربعة عبارة عن الخلفاء، ويطابقه تخصيص اللبن بعمر في هذا الحديث، انتهى.
قوله [رأيت الناس إلخ] لا يذهب عليك أن اللام فيه ليس للاستغراق بل المراد بذلك بعض من أمته ليس (1) فيه أبو بكر.
(1) على أنه ليس في الحديث كلمة حصر، وتخصيص يخرج غيره، وقد قال الحافظ: والجواب تخصيص أبي بكر من عموم قوله عرض على الناس، فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر، وإن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ، فلعله كان كذلك إلا أن المراد كان حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها، قال القارئ: قوله ومنها ما دون ذلك، أي قمص أقصر منه أو أطول منه أو أعم، بناء على أن دون ذلك بمعنى غير ذلك، لقوله تعالى {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} وفي فتح الباري: يحتمل أن يريد دونه من جهة السفل وهو ظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يريد دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي من طريق آخر عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري في هذا الحديث: فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان إلى إنصاف ساقيه، وقوله الدين بالنصب أي أولته الدين، وفي نسخة بالرفع أي المؤول به الدين، والمعنى يقام الدين في أيام خلافته مع طول زمان إمارته وبقاء أثر فتوحاته، أو لأن الدين يشيد الإنسان ويحفظه ويقيه المخالفات كوقاية الثوب وشموله، قال النووي: القميص الدين، وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة وسنته الحسنة في المسلمين، انتهى. قلت: ومما يشير إلى أن أبا بكر لا يذكر في هذه المواضع لما أنه يفوق منها بمراحل ما أخرجه صاحب المشكاة برواية رزين عن عائشة قالت: بينا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري في ليلة ضاحية إذ قلت: يا رسول الله هل يكون لأحد من الحسنات عدد نجوم السماء؟ قال: نعم عمر، قلت: فأين حسنات أبي بكر؟ قال: إنما جميع حسنات عمر كحسنة واحدة من حسنات أبي بكر.