الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله
[باب ما جاء في إنشاد الشعر]
أراد أن يبين أن الشعر مثل النثر من الكلام حسنه (1) حسن وقبيحه قبيح، فأثبت أن منه ما هو حكمه يثاب عليه،
(1) حكى ابن عابدين عن الضياء المعنوي العشرون، أي من آفات اللسان الشعر، سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، انتهى. قال القارئ في شرح الشمائل: روى هذا عن عائشة مرفوعًا بإسناد حسن، انتهى. وروى في المشكاة برواية الدارقطني، قال القارئ: وكذا رواه أبو يعلى بإسناد حسن، وقال الحافظ: أخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، وإسناده ضعيف، وقال أيضًا: والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو وعن الإغراق في المدح والكذب المحض والتغزل بمعين لا يحل، ونقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، انتهى. وفي العيني: قال جماعة من التابعين والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا نكب عرض أحد من المسلمين ولا فحش، وقال مسروق وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والحسن البصري وعمرو بن شعيب: يكره رواية الشعر وإنشاده، انتهى.
ثم أورد له دليلاً في هذا الباب، وهو أمره لحسان رضي الله عنه واهتمامه به حتى وضع له المنبر، ثم الانشاد كما يطلق على رفع الصوت بالشعر كذلك هو موضوع لتأليف الشعر إلا أن جواز الثاني منه يستلزم جواز الأول، فلذلك اكتفى في الاستدلال على جواز الإنشاد بأحدهما.
قوله [يضع لحسان منبرًا] وذلك لما أن هذه الهيئة كانت أنكأ في العدو.
قوله [في المسجد] فيه إشارة إلى أن الكراهة في الشعر لما كانت لعارض وأما نفسه فمباح كما أن العارض قد يوجبه (1) استوى فيه المسجد وغيره.
قوله [يفاخر عن إلخ] يتضمن معنى الدفع في المفاخرة (2). قوله [إن الله يؤيد حسان بروح القدس](3) فإنه نوع من الجهاد فإن:
(1) وسيأتي قريبًا أنه صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الجهاد اللساني، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية.
(2)
القدس بضم الدال ويسكن، أي بجبرئيل، سمى به لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب، فهو كالمبدأ لحياة القلب، كما أن الروح مبدأ حياة الجسد، والقدس صفة للروح، وإنما أضيف إليه لأنه مجبول على الطهارة والنزاهة عن العيوب، وقيل: القدس بمعنى المقدس هو الله عز اسمه فإضافة الروح إليه للتشريف، كذا في المرقاة.
(3)
فقد ترجم البخاري في صحيحه ((باب هجاء المشركين)) قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبًا، وقد أخرج أحمد وأبو داؤد والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أنس رفعه: جاهدوا المشركين بألسنتكم، وروى عبد الرزاق في مصنفه من طريق محمد بن سيرين قال: هجا رهط من المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المهاجرون: يا رسول الله ألا تأمر عليًا فيهجو هؤلاء القوم، فقال: إن القوم الذين نصروا بأيديهم أحق أن ينصروا بألسنتهم، فقالت الأنصار: أرادنا والله، فأرسلوا إلى حسان فأقبل، فقال: يا رسول الله والذي منك بالحق ما أحب أن لي بمقولي ما بين صنعاء وبصرى، فقال: أنت لها، فقال: لا علم لي بقريش، فقال لأبي بكر: أخبره عنهم، ونقب له في مثالبهم، انتهى.
جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان.
وكانت الملائكة الكرام قديمًا تجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات كبدر وأحد، فكانت تقوية الروح الأمين وإلقاء مضامينه من هذا القبيل، ولفظ ((ما)) في قوله: ما يفاخر توقيتية.
قوله [بني الكفار] منادى بحذف حرف النداء، وفيه مبالغة في إهانتهم ما ليس في أيها الكفار، فإنه دل على أن كفرهم راسخ فيهم لما أنهم كانوا كذلك من القديم، وأنه تقليد فيهم لا يهتدون بنور البصيرة حتى يتركوه، وأنهم صبيان وولدان ليس فيهم قوة المقابلة.
قوله [فقال له عمر رضي الله عنه إلخ] لما كان عمر رضي الله عنه قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ننشد ما فيه هجاء لقوم أو تعييب لهم إلى غير ذلك، وكانت هذه كذلك، أراد أن يستفسر عن وجه الإجازة فيها حيث جوزه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنعه إلا أنه غير العنوان في السؤال، ويمكن أن يكون عمر رضي الله عنه حمل أحاديث النهي عن إنشاد الشعر على الإطلاق فنهى لذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر في الجواب على إباحته أو إجازته له، بل أراد أن ينبه أن الشعر لما كان مثل النثر في الإباحة وكانت حرمته لعارض كما أن استحسانه لعارض، وكما أن المعصية توجب تشديد الجزاء في المواضع المحترمة كذلك الطاعة توجب تكثير المثوبة فيها، وكان قول ابن رواحة
هذا يؤثر (1) فيهم ما لا يؤثر فيهم غيره، كأن هذا القول يوجب له أجرًا ومحمدة افتنهاه يا عمر عن مجاهدة في سبيل الله، ثم يستشكل مبادرة عمر رضي الله عنه بالحكم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الأمر لو كان محظورًا لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه النفيسة، والجواب أن عمر رضي الله عنه كان يعلم من عادة (2) النبي صلى الله عليه وسلم سكوته على ما لا يرضاه رجاء أن يمنعه غيره لحكم ومصالح، منها أن يشترك الآمر في الأجر، ومنها أن المأمور لو كره أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه -والعياذ بالله- كان أضر له بدينه من أن يكره أمر غيره ونهيه، ومنها أن لا يواجه النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوءه مع أن الغرض وهو ترك المأمور المحظور ممكن الحصول بدونه، وإلا فكيف يتصور سكوته صلى الله عليه وسلم على معصية وخلاف.
(1) ففي المشكاة برواية شرح السنة عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل، وفي الاستيعاب لابن عبد البر: أنه قال يا رسول الله! ماذا ترى في الشعر؟ فقال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، وبرواية مسلم عن عائشة: إن رسول صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل.
(2)
وهذا من صفاته المعروفة صلى الله عليه وسلم، فقد روى القاضي بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: كان صلى الله عليه وسلم لطيف البشرة رقيق الظاهر، لا يشافه أحدًا بما يكرهه حياء وكرم نفس، وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ ولكن يقول: مال بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا، ينهي عنه ولا يسمى فاعله، وروى عن أنس أنه دخل عليه رجل به أثر صفرة فلم يقل له شيئًا، وكان لا يواجه أحدًا بما يكره، فلما خرج قال: لو قلتم له يغسل هذا، وفي الباب روايات كثيرة.
قوله [وكعب بن مالك بين يديه] ولا ضير فيه فإنه يمكن الجمع بين الروايتين، فلعل أحدهما أنشد في غير زمان إنشاد الآخر أو في غير مكانه، ولا يصح (1) قول الترمذي بأن هذا أصح فإن غزوة موتة كانت بعد هذه، وكان عبد الله بن رواحة لم يقتل حين جاموا لعمرة القضاء.
قوله [ويأتيك بالأخبار من لم تزود] وهي الأيام، فإن التجارب بطول الأيام تفيد عجائب، وليست تزود منك، ونسبة (2) هذا الشعر إلى ابن رواحة
(1) فقد قال الحافظ في الفتح بعد ما حكى قول الترمذي: هذا هو ذهول شديد وغلط مردود، ما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته، ومع أن في قصة عمرة القضاء اختصام جعفر وأخيه علي وزيد ابن حارثة في بنت حمزة، وجعفر قتل هو وزيد وابن رواحة في موطن واحد، وكيف يخفي على الترمذي هذا، قال: ثم وجدت عن بعضهم أن الذي عند الترمذي من حديث أنس أن ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك فاتجه اعتراضه، لكن الموجود بخط الكروخي راوي الترمذي ما تقدم، والله أعلم، انتهى. قلت: وكذلك عامة أهل السير والتاريخ ذكروا سرية موته بعد الرجوع عن عمرة القضاء، ولذا ترجم البخاري بهذه السرية بعد عمرة القضاء، وكانت في ذي القعدة سنة سبع، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بعدها عدة أشهر وبعث سرية موتة في جمادى الأولى سنة ثمان، وأيضًا فعامة أهل السير حكوا في عمرة القضاء هذه الأبيات عن ابن رواحة لا كعب بن مالك، وكذلك عامة أهل التراجم ذكروها في ترجمة ابن رواحة، فالظاهر التسامح من المؤلف.
(2)
فإن ظاهر سياق المصنف يدل على أن هذا الشعر لابن رواحة ويقوي الإشكال ما في نسخه للشمائل، فإن المصنف أخرج هذا الحديث بهذا السند والمتن في شمائله وفيه نسختان: إحداهما يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل ويقول. ويأتيك إلخ وفي أخراهما يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل بقوله: ويأتيك إلخ، قال القارئ: الظاهر المتبادر أن هذا البيت من كلام ابن رواحة لا سيما على ما في نسخة (ويتمثل بقوله) وقد اتفقوا على أنه من شعر طرفة بن العبد في قصيدته المعلقة، والجواب أنه كلام برأسه والضمير المجرور لقائل، أو شاعر مشهور به معروف عندهم، انتهى، قلت: ويؤيده ما سيأتي من رواية أبي الليث السمرقندي من أن عائشة عزته إلى طرفة، فتأمل.
مشكل، والجواب بالتوارد محوج إلى النقل، وما أجيب بأن عائشة رضي الله عنها لعلها سمعته من ابن رواحة أولاً، ثم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله، فظنت أنه لابن رواحة ينبو عنه (1) أنها كانت أعلم بأخبار العرب وأشعارها، ولكنه غير بعيد مثل بعد الجواب الذي تكلفه بعض الأفاضل ممن حضر مجلس الدرس،
(1) ويرد هذا الجواب أيضًا ما قال القارئ: روى الشيخ أبو الليث السمرقندي في بستانه عن عائشة أنه قيل لها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بالشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر غير أنه تمثل مرة ببيت أخي قيس طرفة فجعل آخره أوله من قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: ما أنا بشاعر، لكن يشكل عليه رواية الكتاب فإنه بظاهره يعارض رواية الشيخ إلا أن يتكلف بأن يقال: تمثل بمادته وجوهر حروفه دون ترتيبه الموزون، أو يحمل على تعدد الواقعة، انتهى. قلت: والمراد بالتعارض أن ظاهر حديث الكتاب أنه عليه السلام أنشده مرتبًا غير معكوس.
فقال: (1) إن لفظة ((يقول)) ليس بيانًا لقوله: يتمثل، بل بيان لـ ((ـغير)) ما بينته أولاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بشعر ابن رواحة وغيره أحيانًا أيضًا، فإنى سمعة يقول إلخ.
قوله [يتناشدون الشعر إلخ] أي ما ليس فيه مفسدة مما يوجب النهي عنه.
قوله [ويتذاكرون أشياء] أي غيره (2) وأمتنانًا منه على أنفسهم، وإظهارًا لإحسان الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم حيث أنقذهم من أمثال هذه الفعال التي تنبو عنها السماع وتنفر عنها الطباع، إلى غير ذلك من الفوائد.
[باب لأن يمتلئ جوف (3) أحدكم قيحًا] قوله [يريه] أي يفسده (4)
(1) وقد عرفت أن جواب بعض الأفاضل مأخوذ من كلام الشراح، فقد تقدم ذلك الجواب في كلام القارئ، وبه جزم المناوي إذ قال: ويتمثل بقوله أي بقول الشاعر وهو طرفة، فالضمير معاد على غير مذكور لشهرة قائلة بينهم، انتهى.
(2)
بيان لبعض مصالح دعت إلى هذا التذاكر، فمن جملة ما ذكر من ذلك قال بعضهم: رأيت ثعلبًا صعد فوق صنمي وبال على رأسه وعينيه حتى عمى فقلت: أرب يبول الثعلبان برأسه
فتركت طريقة الجاهلية ودخلت في شريعة الإسلام، كذا في جمع الوسائل.
(3)
والحديث صريح في ذم الشعر، واختلفوا في محملة فقيل: المراد به النوع الخاص من الشعر، وهو الذي يكون فيه فحش وخثاء، وقال البيهقي عن الشعبي، المراد به الشعر الذي هجى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيدة: الذي فيه عندي غير ذلك لأن ما هجى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرًا، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن والذكر، إلى آخر ما بسطه العيني.
(4)
بفتح المثناة التحتية وكسر راء مضارع، ورى يرى كوعد يعد من الورى كالرمي، داء بداخل الجوف، وقال الجوهري: ورى القيح يريه وريًا أكله: وقال قوم: حتى يصيب رئته، وأنكره غيرهم لأن الرئة مهموزة وإذا بنيت منه فعلاً قلت: رآه يرآه، وقال الأزهري: إن الرئة أصلها من روى وهي محذوفة، والمشهور في الرئة الهمز، قاله العيني وقال القارئ: معناه قيحًا يأكل جوفه ويفسده.