الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب ما جاء أن للنار نفسين
إلخ] إما أن يراد (1) بالنفسين إدخالها وإخراجها، فإخراجها حرها منها نفس، ثم إدخالها وتنفسها داخلاً نفس، أو يقال: كما أن من العذاب ما هو نار وحرارة، فكذلك منه ما هو زمهرير وبرد، فنفس منها للحرارة ونفس للبرودة، فكما يعذب الكافرون بالنار فكذلك يعذبون بالزمهرير، وكما أن النار اشتكت حرها فكذلك الزمهرير اشتكى بردها، فأذن لهما في نفس نفس، ثم يشكل بعد ذلك شدة الحرارة والبرودة في بعض البلاد دون بعض مع أن نسبة جهنم إلى البلاد بأسهرا متساوية، والجواب أنه تبارك وتعالى جعل الشمس وسيلة في إخراج حرارتها كما يتراءى في حماماتنا أيضًا، فإن مخرج النار لا يكون إلا واحدًا مع أن النار متصرفة بالتسخين في المكان بالتمام، فكذلك ثمة لما جعل الشمس مخرج حرارتها كان المدار في كثرة الحرارة والقر وقلتهما هو القرب من الشمس والبعد منها، فتأمل.
قوله [ذرة] بفتح الذال وتشديد ما بعدها صغار النمل، وما نذر يبدو (2)
(1) اختلف في أن المراد بالنفس حقيقة أو مجاز عن غليانها كما جزم به البيضاوي، ورجح الأول ابن عبد البر وعياض والقرطبي والنووي وابن المنير والتوربشتي، هكذا في الأوجز، وبه جزم الحافظان ابن حجر والعيني وغيرهما من المحققين، والحديث أخرجه الشيخان والترمذي ومالك وغيرهم، وبسط شراحهم في شرح الحديث ومع ذلك سكتوا عن الفوائد التي أفادها الشيخ رحمه الله رحمة واسعة فلله دره، وحاصل ما أفاده أن التثنية إما باعتبار إدخال النفس وإخراجها عدهما نفسين، فالأول يوجب البرودة، والثاني يورث الحرارة، أو التثنية باعتبار الطبقتين فتنفس طبقة الحرارة وكذا الزمهرير يوجب مقتضاهما.
(2)
هكذا في المنقول عنه، ويحتمل أن يكون ما نزر أي قل والنزر القليل من كل شيء، أو ما يذر والذر تفريق الحب والملح ونحوه، ويحتمل غيرهما وأيًا ما كان فالمراد الشيء القليل الذي يبدو في شعاع الشمس يعني الهباة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكرة، وجينه نوع من الحبوب.
في الشمس من الرمال وغيرها. قوله [ذرة] بضم الذال وتخفيف ما بعده: جينه، قوله [فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل] فيه اختصار، والحديث بطوله مذكور (1) في بعض كتب الصحاح.
قوله [أتذكر الزمان الذي كنت فيه إلخ] هذا التذكير ليشكر على ما يؤتى من جلائل النعم بعد ما أنقذه الله من ذلك العذاب الأليم.
قوله [حتى بدت نواجذه] النواجذ هي أقصى الأسنان، ثم استعمل اللفظ في الضحك بحيث ينفتح الفم حتى لو أراد أحد أن ينظر إلى النواجذ لأمكنه وإن لم تبد نواجذه، وكان ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم إلا في مراتب عديدة منها هذا الوقت وكان سبب ذلك ما اعتراه من سرور بجرأة العبد على مولاه إذا رآه تلطف به وتحنن بعد ما كان ممنوا بالكرب مبلوًا بالمحن، فسبحان ربي ذي المعالي والمكارم والمنن.
قوله [إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار إلخ] إن أريد بالآخرية الآخرية الحقيقية فهذا الرجل هو الذي قد سبق بعض ذكر حاله في الرواية المتقدمة، ولعل هذا السؤال منه يكون بعد إدخاله الجنة أو في غير ذلك الوقت حيث يناسب، وإن أريد بالآخرية الإضافية فلا يبعد تغايرهما، وسؤال هذا الرجل من ذنوبه كسؤال الرجل الأول ليكون أوقع في تذكير نعمه سبحانه والشكر عليها.
قوله [كما ينبت الغثاء في حمالة السيل] تشبيه في سرعة (2) النبات فإنهم يبرؤن من حرقتهم سريعًا.
(1) أخرجه الشيخان وغيرهما بطرق عديدة وألفاظ مختلفة مختصرًا ومطولاً وذكر بعضها صاحب المشكاة، والقصة مبسوطة جدًا.
(2)
وبذلك جزم النووي كما حكاه القاري إذ قال: إنما شبههم بها لسرعة نباتها وحسنها وطراوتها، انتهى. قال صاحب المجمع: قوله كما تنبت الحبة في غثاء السيل، هو بالضم والمد ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره، وفي مسلم: كما ينبت الغثاء، يريد ما احتمله السيل من البزورات.
قوله [يسمون الجهنميين] ولا يغضبون بتلك التسمية بل (1) يفرحون لتذكرهم بها ما من الله به عليهم من الجنة، وأجارهم الله عنه من الجحيم.
قوله [فرأيت أكثر أهلها النساء] فإن (2) النساء في أنفسها كثيرة نسبة إلى الرجال، فما كان منها في الجنة أكثر من الرجال، وما كان منها في النار
(1) قال الطيبي: ليست التسمية بها تنقيصًا لهم بل استذكارًا ليزدادوا فرحًا إلى فرح وابتهاجًا إلى ابتهاج، وليكون ذلك علمًا لكونهم عتقاء الله تعالى، كذا في المرقاة. قلت: وقد ورد في المشكاة برواية الخدري مرفوعًا: يقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمان، الحديث، فلا يبعد أن يكون التسمية بالجهنميين أولاً ثم بالعتقاء، أو يكون أحدهما اسمًا والثاني لقبًا.
(2)
أشار الشيخ بذلك إلى جواب عن إيراد وارد على الحديث، وتوضيح ذلك ما قال القاري: قد يشكل عليه ما جاء في حديث الطبراني أن أدنى أهل الجنة يمسي على زوجتين من نساء الدنيا، فكيف يكن مع ذلك أكثر أهل النار وهن أكثر أهل الجنة؟ وجوابه أنهن أكثر أهلها ابتداء ثم يخرجن ويدخلن الجنة فيصرن أكثر أهلها إنتهاءًا، والمراد أنهن أكثر أهلها بالقوة، ثم يعفو الله عنهن، هذا ولا بدع لهن يكن أكثر أهلهما لكثرتهن، انتهى. قال الحافظ: وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو منامًا وهو غير رؤيته النار وهو في صلاة الكسوف، وهم من وحدهما. وقال الداؤدي: رأى ذلك ليلة الإسراء، أو حين خسفت الشمس، كذا قال، انتهى.
أكثر من نساء الجنة ومن رجال النار أيضًا.
قوله [إن أهون أهل النار عذابًا إلخ] قيل (1): إنما هو أبو طالب خفف عنه العذاب لنصرته النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفت الروايات (2) فيه فقد ورد في
(1) قال ابن التين: يحتمل أن يراد به أبو طالب، قال الحافظ: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه: أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، انتهى.
(2)
فقد أخرج البخاري برواية أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه، قال الحافظ: ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم: تنفعه شفاعتي بقوله تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الآية تخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي. وقال البيهقي: صحت الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبًا لقلب الشافع لأثوابًا للكافر، لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء، ويجاب أيضًا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما ورد أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابًا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال، فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف. وقال القرطبي: اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص، والثاني يكون معناه أنا أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزى على ذلك بالتخفيف، فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه، انتهى. زاد في الإرشاد الرضى في تقرير هذا الحديث أن ما ألف السيوطي من الرسائل في إسلام والدي النبي صلى الله عليه وسلم وجزم في بعضها بأنهما ماتا على الملة الإبراهيمية، ومال في بعضها إلى إسلامهما بعد إحيائهما، وغير ذلك، تأباه النصوص، والحق عند مشايخنا أنهما ماتا على الكفر كما جزم به في الفقه الأكبر.
بعضها في ضحضاح (1) من النار، والمراد بها واحد. قوله [كل ضعيف متضعف (2)] يعني أنه مع ضعفه الحقيقي لا يظهر من نفسه إلا الضعف دون الكبر.
قوله [عتل](3). قوله [جواظ] المناسب (4) من معانيه هاهنا هو الجموع والمنوع.
(1) قال العيني: بإعجام الضادين وإهمال الحائين: ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير للنار، انتهى.
(2)
قال القاري: بفتح العين ويكسر من باب التأكيد كجنود مجندة، والقناطير المقنطرة، وفائدة التاء الموضوع للطلب أن الضعف الحاصل فيه كأنه مطلوب منه التذلل والتواضع مع إخوانه، وإن كان قويًا مترجلاً مع أعدائه، قال النووي: ضبطوه بفتح العين وكسرها والمشهور الفتح، ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجرؤون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه، وأما على الكسر فمعناه متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، انتهى.
(3)
بياض في المنقول عنه، وقال القاري: بضمتين فتشديد أي جاف شديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ.
(4)
قال القاري: بتشديد الواو أي جموع منوع أو مختال، وقيل: السمين من التنعم، وقيل: الفاجر بالجيم، وقيل: بالخاء، انتهى.
أبواب الإيمان (1) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) اعلم أن الكلام على أبحاث الإيمان طويل لا يسعه هذا المختصر، بسطه شراح البخاري لا سيما العلامة العيني فارجع إليه لو شئت التفصيل، ومما لابد من ذكرها ما أجمله القاري إذ قال: إن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن وطمأنينة لغة، وفي الشرع تصديق القلب بما جاء من عند الرب، واختلف العلماء فيه على أقوال: أولها عليه الأكثرون والأشعري والمحققون أنه مجرد تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما علم مجيئه بالضرورة، تفصيلاً في الأمور التفصيلية وإجمالاً في الإجمالية تصديقًا جازمًا ولو بغير دليل حتى يدخل إيمان المقلد فهو صحيح على الأصح، وهو مذهب الأئمة الأربعة والأكثرين، لأنه صلى الله عليه وسلم قبل الإيمان من غير تفحص عن الأدلة العقلية، وثانيها أنه عمل القلب واللسان معًا، فقيل: الأقراط شرط لإجراء الأحكام لا لصحة الإيمان فيما بين العبد وربه، قال النسفي: وهذا هو المروي عن أبي حنيفة وإليه ذهب أبو منصور الماتريدي والأشعري في أصح الروايتين عنه، وقيل: هو ركن لكنه غير أصلي بل زائد، ومن ثم يسقط عند الإكراه والعجز، ولذا من صدق ومات فجاءة على الفور فإنه مؤمن إجماعًا، وقال بعضهم: الأول مذهب المتكلمين، والثاني مذهب الفقهاء، والحق أنه ركن عند المطالبة وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة، وبهذا يلتئم القولان، والخلافان لفظان. وثالثها أنه فعل القلب واللسان مع سائر الأركان،
_________
ونقل عن أصحاب الحديث، ومالك والشافعي، وأحمد والأوزاعي، والمعتزلة والخوارج، لكن المعتزلة على أن صاحب الكبيرة بين الإيمان والكفر بمعنى أنه لا يقال مؤمن ولا كافر، بل يقال له فاسق مخلد في النار، والخوارج على أنه كافر، وأهل السنة على أنه مؤمن فاسق داخل تحت المشيئة، ولا تظهر المغائرة بين قول أصحاب الحديث وبين سائر أهل السنة، لأن امتثال الأوامر واجتناب الزواجر من كمال الإيمان اتفاقًا لا من ماهيته، فالنزاع لفظي لا على حقيقته، انتهى. قال العيني: أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة: الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان علاحدة، وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر. ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئًا من الطاعات إيمانًا ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئًا من المعاصي كفرًا ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن أصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر. القول الثاني أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها وهي بجملتها إيمان واحد، ومن ترك شيئًا من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه. الثالث أن الإيمان اسم للفرائض دون النوافل، انتهى. وفي شرح العقائد (الإيمان في اللغة التصديق) لجى إدعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا (وفي الشرع التصديق بما جاء به من عند الله) أي تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالقلب في جميع ما علم بالضرورة مجيئه به من عند الله إجمالاً فإنه كاف في الخروج عن عهدة الإيمان ولا تنحط درجته عن الإيمان التفصيلي (والإقرار به باللسان) إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط والإقرار قد يحتمله، وهو مذهب بعض العلماء وهو اختيار شمس الأئمة وفخر الإسلام، وذهب جمهور المحققين إلى أنه هو التصديق بالقلب والإقرار شرط لإجراء الأحكام، انتهى.
قوله [فإذا قالوها] أي هذه الكلمة (1)، والمراد بها هي بما يلزمها من الإقرار بفرضية الفرائض الفعلية وإن لم يصح بذلك في الرواية، فمن الظاهر أن الإقرار بالرسالة داخل فيه قطعًا مع أنه غير مذكور ها هنا فترك ما سوى
(1) قال القاري: أكثر الشراح على أن المراد بالناس عبدة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ولا يرفع عنهم السيف إلا بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إعطاء الجزية، ويؤيده رواية النسائي: أمرت أن أقاتل المشركين، وقال العيني: هذا الحديث في حال قتاله لأهل الأوثان الذين قال الله تعالى فيهم {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فدعاهم إلى الوحدانية وخلع الأوثان، وأما الآخرون المنكرون النبوة فقال فيهم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويشهدوا أن محمدًا رسول الله، فإسلام هؤلاء الإقرار بما كانوا به جاحدين، وعلى هذا تحمل الأحاديث، انتهى. وقال الطيبي: المراد العم لكن خص أهل الكتاب بالآية، قيل: وهو الأولى لأن الأمر بالقتال نزل بالمدينة مع كل من يخالف الإسلام، والتحقيق أن يقال: الشهادة إشارة إلى تخلية لوح القلب عن الرك الجلي والخفي وسائر النقوش الفاسدة الردية ثم تحليته بالمعارف اليقينية، والحكم الإلهية، والاعتقادات الحقية، وأحوال المعاد وما يتعلق بالأمور الغيبية، والأحوال الأخروية، لأن من أثبت ذات الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته التي دل عليها اسم الله ونفى غيره، وصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الصدق والأمانة. فقد وفى بعهدة عهده وبذل نهاية جهده في بداية جهده، وآمن بجميع ما وجب من الكتب والرسل والمعاد، ولذا لم يتعرض لإعداد سائر الأعداد، ملخص من القاري. ويشكل على الحديث ترك الجزية، وحاصل ما أجاب عنه العيني أن المراد بمجموع ما ورد إعلاء كلمة الله وهو يحصل بذلك في بعضهم وفي بعضهم بالجزية، وفي بعضهم بالمهادنة، مع احتمال أن حكم الجزية ورد بعد ذلك بل هو الظاهر، وأيضًا المراد من وضع الجزية أن يضطروا إلى الإسلام وسبب السبب سبب فيكون التقدير حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ولكنه اكتفى بما هو المقصود الأصلي، أو نقول: إن المقصود القتال أو ما يقوم مقامه، أو المقصود الإسلام منهم أو ما يقوم مقامه في دفع القتال، وهو إعطاء الجزية، وكل هذه التأويلات لأجل ما ثبت بالإجماع سقوط القتال بالجزية، انتهى.
الشهادتين أو ما سوى الشهادة الأولى في الروايات إما أن يكون اختصارًا (1) من الرواة، أو يقال: إنه مبنى على ما كانوا عليه من أن المقر بوحدانيته تعالى لم ينكر الرسالة، ومن أقربهما فأتى كان كل مساغ في ترك الفرائض القطعية فضلاً عن إنكارها ويجوز أن يقال فيه ما قال (2) الزهري كما يذكره المؤلف عن قريب، لكنه بعيد جدًا فإن الأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة وقد نزلت فرضية صلاة (3) التهجد في مكة، فكيف يقال: إنه لم يكن بعد فريضة، نعم تأويل الزهري يتمشى من غير تكلف في الأحاديث التي لم يذكر فيها القتال وغيره، كقوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.
(1) كما يدل عليه رواية للبخاري بلفظ: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، وحذفتا في رواية استغناء عنهما بالشهادتين لأنهما الأصل، كذا في المرقاة.
(2)
بلفظ وقد روى عن الزهري أنه سأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: إنما كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، انتهى.
(3)
لعل ذكر التهجد ليس باحتراز فإن فرضة الصلوات كلها كانت قبل ذلك بل ذكرها لكونها أول ما فرض.
قوله [إلا بحقها] أي إلا بحق الكلمة كقتل القاتل ورجم الزاني فإن الكلمة تجوز قتلهما. قوله [كفر من كفر من العرب إلخ] قد صار هؤلاء ثلاث فرق: منهم من ارتد عن الإسلام، ومنهم من أنكر فرضية الزكاة، ومنهم من أنكر أداءها إليه وإن أقر بأنها فريضة الله على عباده، والأولان منهم كافرون دون الثالث، فإطلاق كفر من كفر في الرواية تغليب، أو المقصود بيان الكافرين لا الثالث، وكان هؤلاء (1)
(1) أشار الشيخ إلى دفع إيراد يرد على ظاهر الحديث فإن ظاهر قوله «كفر من كفر» يشير إلى أن مناظرة الشيخين كانت في قتال المرتدين، وهذا مشكل جدًا وبعيد عن مثل عمر، وأيضًا يشكل على قوله «كفر من كفر» ما قال عمر: كيف تقاتل الناس إلخ فدفعهما الشيخ بهذا الكلام، وحاصله أن قوله «كفر من كفر» لا دخل له في المناظرة بل إشارة إلى معظم ما وقع في هذا الزمان وبيان للطائفتين الكافرتين لا الطائفة التي وقعت فيها المناظرة، أو يقال: إن إطلاق الكفر على الطوائف كله مجاز لدخول كلهم في منع أهل الردة، وتوضيح ذلك ما في البذل عن العيني أن هؤلاء كلهم كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله «وكفر من كفر» وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة وأصحاب الأسود العنسي، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية للنبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكر حتى قتل الله مسيلمة باليمامة والعنسي بالصنعاء. والطائفة الثانية ارتدوا عن الدين فأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الأمام وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك للزمان خصوصًا لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما، وأرخ قتال أهل البغي في زمان على إذ كانوا منفردين ولم يختلطوا بأهل الشرك، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين من لا يمنعها إلا أن رؤسائهم صدوهم عن ذلك كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة وفرقتها فيهم، انتهى. وقال الحافظ تحت قول الصديق لأقاتلن من فرق: يجوز تشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق من أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدًا أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين، فهو في حق من جحد من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليبًا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم، انتهى. وعلم من ذلك أن الصنف الثاني في كلام العيني الذي سماهم أهل البغي كانوا أيضًا على صنفين، ولذا عدهم الشيخ فرقتين وجعل المرتدين كلهم فرقة واحدة لعدم الاحتياج ها هنا إلى تفصيل أحوالهم بخلاف مانعي الزكاة.
الذين أبوا أن يؤدوها إلى الإمام بغاة، وكان اختلاف عمر في هذين، وقد كان مسلمًا (1) فيما بينهم رضي الله تعالى عنهم أن من أنكر فرضية الصلاة كفر فلذلك قال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنكم لما علمتم أن إنكار الصلاة كفر فكذلك إنكار الزكاة يكون كفرًا، فمن فرق بينهما بأن أقر بالصلاة وأنكر الزكاة فإنه كافر.
(1) هكذا في الفتح إذ قال: قال المازري: ظاهر السياق أن عمر كان موافقًا على قتال من جحد الصلاة فألزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة موردًا واحدًا، انتهى.
قوله [فوالله ما هو إلا من رأيت إلخ] يعني أن أبا بكر لما شرح الله صدره للقتال وبين لي أبو بكر وجوهًا عرفت بها أنه الحق علمت أن أبا بكر ما كان يقوله لحق، ويمكن (1) أن يقال في بيان معناه: إن الأمر لم يكن إلا إني رأيت أن الله سبحانه دون غيره شرح صدره أبي بكر للقتال وألهمه، ولم يجعله في ريبة منه، ولا كان ذلك وسوسة من الشيطان، فعرفت بعد ذلك أنه الحق كما كان عرف أبو بكر وتصلب على ذلك كتصلبه عليه.
[باب ما جاء في وصف جبرئيل (2) للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام] إضافة الوصف إلى جبرئيل مجاز فإنه لما كان سبب وصفه صلى الله عليه وسلم لسؤاله إياه جعل كأنه
(1) والفرق بين المعنيين أن عرفان كون القتال حقًا في الأول كان باستدلال أبي بكر، وفي الثاني مستأنف لا يترتب عليه، بل شرح صدره له كما كان شرح له صدر أبي بكر من قبل، وفي البذل عن شروح البخاري: فعرفت أنه أي القتال الحق، أي المحق الثابت بالدليل الشرعي بما ظهر لي من الدليل الذي أقامه الصديق، لا أنه قلده في ذلك لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر، فإن قلت: ما النص الذي اعتمد عليه أبو بكر؟ قلت: روى الحاكم في الإكليل عن عبد الرحمن الظفري وكانت له صحبة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أشجع لتؤخذ صدقته فأبى أن يعطيها فرده إليه الثانية فأبى، ثم رده إليها الثالثة وقال: إن أبي فاضرب عنقه، قال عبد الرحمن- أحد رواة الحديث قلت لحكيم: ما أرى أبو بكر قاتل أهل الردة إلا على هذا الحديث، قال: أجل، انتهى.
(2)
هكذا في النسخ الهندية والمصرية، وبوب عليه البخاري في صحيحه «باب سؤال جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام إلخ» وهو أوضح، ولعل المصنف اختار ذلك إشارة إلى ما في الحديث ذاك جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا، وإليه أشار الشيخ في الجواب الثاني.
هو الواصف، أو يقال: إنه لما صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه من المعاني وأقر بها جعل واصفًا حقيقة ولا ضير فيه إذًا.
قوله [أول من تكلم في القدر] أي أنكره (1).
قوله [فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى (2)] لكوني أقدر على الكلام منه وألسن، قوله [يقرأون القرآن ويتقفرون (3) العلم] ذكر ذلك لأنهم
(1) قال النووي: معناه أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب. وفي شرح المواقف: يلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر، قال النووي: الجهني بضم الجيم نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة، نسب إليهم معبد بن خالد الجهني، كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر، فسلك أهل البصرة بعده مسلكه، وقيل: إنه معبد بن عبد الله بن عويمر، انتهى. وفي البذل: يقال إنه ابن عبد الله بن عكيم، ويقال: ابن عبد الله بن عويم، ويقال: ابن خالد، كان رأسًا في القدر، قدم المدنية فأفسد بها ناسًا، كان الحسن البصري يقول: إياكم ومعبدًا فإنه ضال مضل. قال العجلي: تابعني ثقة كان لا يتهم بالكذب، قتله الحجاج سنة 80 هـ أو بعدها، انتهى. قلت: وهو من رواة ابن ماجة، ويقال: إن معبدًا أخذ ذلك من المجوس.
(2)
قال النووي: معناه يسكت ويفوضه إلى لأقدامي وجرأتي وبسطة لساني فقد جاء عنه في رواياته لأني كنت أبسط لسانًا، انتهى.
(3)
قال النووي: بتقديم القاف على الفاء، معناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل: معناه يجمعونه، ورواه بعض شيوخ المغاربة بتقديم الفاء وهو صحيح أيضًا، معناه يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه، وروى في غير مسلم يتقفون بتقديم القاف وحذف الراء وهو صحيح أيضًا، ومعناه أيضًا يتبعون، وقال عياض: رأيت بعضهم قال فيه: يتقعرون وفسره بأنهم يطلبون قعره أي غامضه، وفي رواية يتقفون ومعناه ظاهر، انتهى. وقال الدمنتي في نفع القوت: يتفقرون، بالنهاية بفاء فقاف والمشهور عكسه، وقال بعض المتأخرين: هي عندي أصح رواياته أي يستخرجون غامضه من فقر البئر حفرها لاستخراج مائها، ومعنى المشهور أي يطلبون العلم، انتهى.
لما كانوا من أهل العلم والفطنة وجب البحث عما يقولونه فإن ظاهرهم يدعو إلى تسليم مقالهم.
قوله [فأخبرهم أني منهم بريء إلخ] قدم هذا القول مسارعة إلى التبري عن هؤلاء وتعجيلاً لإلقاء النفر (1) عنهم في قلوب السائلين، ثم بين بعد ذلك دليل الرد عليهم وإظهار التبري عنهم، وهو أنهم ليسوا بأهل (2) إيمان، ثم أنشأ إثبات أن ذلك أي الإيمان بالقدر داخل في الإيمان فقال: قال عمر بن الخطاب.
(1) قال الراغب: النفر الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالفزع إل الشيء وعن الشيء، قال تعالى {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} انتهى. وفي الحديث: بشروا الناس ولا تنفروهم، ورود أن منكم منفرين.
(2)
قال النووي: هذا الذي قاله ابن عمر ظاهر في تكفيره القدرية، قال القاضي عياض: هذا في القدرية الأولى الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة، قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة فيكون من قبيل كفران النعم إلا أن قوله: ما قبل الله منهم ظاهر في التكفير فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم لا يقبل عمله معصية وإن كان صحيحًا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة غير محوجة إلى القضاء عند جماهير العلماء بل بإجماع السلف وهي غير مقبولة فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا، انتهى.
قوله [كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم] فيه اختصار والحديث (1) بطوله مذكور في مسلم. قوله [شديد بياض الثياب] بإضافة البياض الصفة إلى الثياب والسواد (2) وبغير الإضافة، وفيه أدب حضور مجالس العلم باللباس الطيب الصافي الغير المتدنس ولا المتسخ، وبإزالة الشعث والغبرة عن رأسه ولحيته.
قوله [لا يرى (3) عليه أثر السفر] حتى يكون من أهل بادية قدم من هناك
(1) لم أجد في مسلم هذا الحديث بأطول مما ذكره المصنف، نعم مجموع رواياته يدل على الاختصار وعلى أن بعضهم ذكر ما لم يذكره غيره، وذكر أبو داود في أول القصة من حديث أبي هريرة وأبي ذر قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا، الحديث.
(2)
هكذا في المنقول عنه فإن كان محفوظًا عن التحريف فهو عطف على البياض حذف ما بعده اختصارًا واتكالاً على ما يفهم من السياق، والمعنى أن البياض مضاف إلى الثياب من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها وكذا السواد الصفة مضاف إلى موصوفها وهو الشعر، وقوله: وبغير الإضافة يتعلق بهما معًا، وفي الإرشاد الرضى: إما بإضافة الشديد إلى البياض أو بدون الإضافة، وهكذا في شديد سواد الشعر، قال القاري: بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظية مفيدة للتخفيف فقط صفة رجل، واللام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرجل، أي شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، وفي نسخة بالتنوين في الصفتين المشبهتين ورفع ما بعدها على الفاعلية، وفيه استحباب البياض والنظافة في الثياب، وأن زمان طلب العلم أوان الشباب لقوته على تحمل أعبائه، انتهى.
(3)
قال القاري: روى بصيغة المجهول الغائب ورفع الأثر، وهو رواية الأكثر والأشهر، وروى بصيغة المتكلم المعلوم ونصب الأكثر والجملة حال من رجل أو صفة له، والمراد بالأثر ظهور التعب والتغير والغبار، والمعنى تعجبنا من كيفية إتيانه، إذ لو كان من المدينة لعرفناه، أو كان غريبًا لكان عليه أثر السفر، قال زين العرب في شرح المصابيح: لا يعرفه منا أي من الصحابة وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عرفه، وقال السيد جمال الدين: قد جاء صريحًا في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفه حتى غاب، كما أفاده الشيخ ابن حجر، انتهى.
قوله [ولا يعرفه منا أحد] حتى يكون من أهل المدينة. قوله [فألزق ركبته بركبته (1) أي قربها بها وليس المراد الإلزاق الحقيقي، بل المراد شدة المقاربة حتى كأنه ألزقها بها، وفيه الجلوس بقرب الأستاذ مؤدبًا حتى لا يحتاج إلى رفع الصوت في البيان، ثم الضمير الأول لجبريل والثاني للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله [ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ ] فيه نداء المخاطب بالاسم الذي (2) يرضيه ليتعين من بين الموجودين،
(1) بإفراد الركبة في النسخ التي بأيدينا، قال القاري: والجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع والأدب، وإيصال الركبة بالركبة أبلغ في الإصغاء وأتم في حضور القلب وأكمل في الاستئناس، والجلوس على هذه الهيئة يدل على شدة حاجة السائل، وإذا عرف المسئول حاجته وحرصه اعتنى وبادر إليه، انتهى.
(2)
وقيل: ناداه باسمه إذ الحرمة تختص بالأمة في زمانه أو مطلقًا وهو مالك معلم، ويؤيده قوله تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} إذ الخطاب للآدميين فلا يشمل الملائكة إلا بدليل، أو قصد به المعنى الوصفي دون العلمي، وما ورد في الصحاح من نداء بعض الصحابة باسمه فذاك قبل التحريم، وقيل: آثره زيادة في التعمية إذ كانوا يعتقدون أنه لا يناديه به إلا العربي الجاف، قيل: ولم يسلم مبالغة في التعميم، أو بيانًا أنه غير واجب، أو سلم ولم ينقل وهو الصحيح لما ورد في الرواية، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، هكذا في المرقاة.
وفيه تقديم الموقوف عليه الذي هو ملاك الأمر في السؤال، وأيضًا ففيه تقديم السؤال عما هو كاف للنجاة من الخلود في النار والدخول في الجنة وهو الإيمان، فعلم بذلك تقديم الأهم فالأهم. ثم الإيمان باعتبار كونه (1) معقودًا عليه
(1) هذا من المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ومحل بسطه المطولات، قال العيني في أبحاث الإيمان: النوع الرابع في أن الإسلام مغائر للإيمان أو هما متحدان؟ فنقول: الإسلام في اللغة الانقياد والإذعان، وفي الشريعة الانقياد لله بقبول رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات، والانتهاء عن المنكرات، كما دل عليه جواب النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام، ويطلق الإسلام على دين محمد، كما يقال دين اليهودية والنصرانية، قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} واختلف العلماء فيهما، فذهب المحققون إلى أنهما متغائران وهو الصحيح، وذهب بعض المحدثين والمتكلمين وجمهور المعتزلة إلى أن الإيمان هو الإسلام، والاسمان مترادفان شرعًا، قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنًا في بعض الأحوال دون بعض، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا. قال: وهذه إشارة إلى أن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا كما صرح به بعض الفضلاء، والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، لأن الإيمان أيضًا قد يوجد بدون الإسلام، إلى آخر ما بسطه العيني. وفي شرح العقائد للنسفي: الإيمان والإسلام واحد، لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الأحكام والإذعان بها، وذلك حقيقة التصديق، ويؤيده قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا تعني بوحدتهما سوى ذلك، وظاهر كلام المشايخ أنهم أرادوا عدم تغائرهما بمعنى أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم، فإن قيل: قوله تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} صريح في تحقق الإسلام بدون الإيمان، قلنا: المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى انقياد الظاهر من غير انقياد الباطن، بمنزلة التلفظ بكلمة الشهادة من غير تصديق، والمراد بحديث الباب أن ثمرات الإسلام وعلاماته ذلك، إلى آخر ما بسطه.
القلب إيمان، وباعتبار ظهور آثار إسلام، فهما متلازمان أو هما واحد، فإن المرأ إذا أقر بما يجب إقراره وأيقنه بقلبه فهو مؤمن ومسلم وإن لم يصل ولم يصم، وقوله عليه السلام أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلخ مشعر بإقراره بأركان الإسلام بأسرها، فإنه لما صدق الرسل وآمن بالكتب فإنه يقر بما فيها لا جرم، وكذلك بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قوله عليه السلام في بيان الإسلام: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليس المناط فيه على إتيانها، بل المذكور في الإسلام إنما هو الإقرار بها، فالمقر المقصر آت بها حكمًا وملحق بالذي يأتي بها، فلم يكن بين الإسلام والإيمان فرق، وإن أخذ الكامل منهما كان التلازم بينهما أظهر، فإن الإيمان الكامل لا يجوز ترك الأعمال، والإسلام الكامل لا يتصور بدون الاعتقاد بالمعتقدات، هذا والله الهادي إلى سواء السبيل. وهو حسبي ونعم الوكيل.
قوله [فما الإحسان] لما فرغ عن السؤال عما لابد منه لكل مؤمن مسلم أخذ في السؤال عما هو درجة الكمل، فإن إحسان كل شيء هو الإتقان فيه، ومراتبه متفاوتة، فإن إحسان الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء وغيرهم أنواع متفاوتة.
قوله [أن تعبد الله كأنك (1) تراه] وهذا جامع لمراتب الإحسان فكلما زاد
(1) قال القاري: مفعول مطلق أي عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه، أو حال من الفاعل أي حال كونك مشبهًا بمن ينظر إلى الله خوفًا منه وحياء، وهذا من جوامع الكلم فإن العبد إذا قام بين يدي مولاه لم يترك شيئًا مما قدر عليه من إحسان العمل، ولا يلتفت إلى ما سواه، انتهى.
المراقبة حسن الإحسان، وقوله الآتي: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بينه (1) الشارحون بحيث تكون مرتبته أدون من التي قبلها، فقالوا: وإن لم تقدر على ذلك فاعبده كأنه يراك. وهذا بعيد، أما أولاً فلأن المراقبة في ذلك أشد، لأنه تبارك وتعالى لما كان ناظرًا إليه ورائيًا حاله، وراقب العبد ذلك اشتد أمر الإحسان وزاد فيه، لا أنه يكون مرتبة دونى نسبة إلى الأولى، وأما ثانيًا فلأن المناسب حينئذ هو أن يقال كأنه يراك وهذا غير صحيح، بل الرؤية منه سبحانه محققة قطعية، إلا أن يقال: المقصود أنه تعالى وإن كان رائيًا حاله إلا أن الواجب على العابد مراعاة رؤيته، والمراعاة غير متحققة قطعًا، ومع ذلك ففيه بعد كما لا يخفى، فقوله هذا ليس إلا دليلاً على القول الأول، يعني أن المرأ إذا استبعد رؤيته الرب تبارك
و
(1) كما يظهر مما بسطه القاري، وحكاه في الإرشاد الرضى عن الشيخ عبد الحق المحدث، وكذا قال غيرهما، وبسط العيني في أنواع الإحسان فارجع إليه لو شئت، وحاصل ما أفاده الشيخ أن قوله صلى الله عليه وسلم: فإن لم تكن تراه لو كان مرتبة ثانية أدون من الأولى كان حق العبارة أن يقول: فإن لم تكن كأنك تراه فاعبده كأنه يراك، لأن المنفي إذ ذاك لابد أن يكون هو المثبت أولاً، ولم يذكره الشيخ لظهوره، وأيضَا لا يصح هذا الكلام لأن رؤيته تعالى متحققة لا محالة فكيف كأنه يراك. فالصواب أن يقال إنه ليس بمرتبة أدون من الأولى، بل هو دليل وتصوير للكلام السابق إذ كان يشكل عليه أن رؤية العبد إياه تبارك وتعالى محال في الدنيا فكيف يمكن لأحد أن يصوره، فبين صورته بأن تصور أن الله عز اسمه يراه في كل وقت يؤدي إلى الصورة الأولى، فتأمل.
تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه لأنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فكيف تغفل عنه وكيف تصلي وقلبك في مكان وجسمك في مكان، وكيف تسبح الله بلسانك وقلبك مشغول بفلان وفلان.
قوله [قد صدقت] والتصديق نوعان: تصديق التسليم وعدم الإنكار كما يصدر من المسلم الجاهل، وتصديق الاتفاق والإقرار كما يصدر من العالم، وهذا التصديق كان من القبيل الثاني (1) فلذلك تعجبوا منه. قوله [قمتي الساعة] إنما سأل عن ذلك ليعلم يوم يجازون على الحسنات السابقة ذكرها.
قوله [أن تلد الأمة ربتها] اختلفت أقوال (2) العلماء في بيان معانيه، والظاهر المناسب ها هنا منها أن تكثر السبى، والمولود حينئذٍ ولي نعمتها فإن حقوقه الولاء ترجع إليه بعد موت أبيه، وإن لم يكن للولد أن يتملكها، وفيه إشارة أيضًا إلى كثرة النساء لأنه قال ربتها ولم يقل ربها.
(1) ويؤيد ذلك ما حكى القاري من الروايات، وفي بعضها: انظروا هو يسأله ويصدقه كأنه أعلم منه، وفي أخرى: ما رأينا رجلاً مثل هذا كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: صدقت صدقت.
(2)
قال القاري: ثانيتها في هذه الرواية وإن ذكر في روايات أخر باعتبار التسمية ليشمل الذكور والإناث، أو فرارًا من شركة لفظ رب العباد، وإن جوز إطلاقه على غيره تعالى بالإضافة دون التعريف، أو أراد البنت فيعرف الابن بالأولى، والإضافة إما لأجل أنه سبب عتقها، أو لأنه ولد ربها أو مولاها بعد الأب، وفسر هذا القول كثير من الناس بأن السبى يكثر بعد اتساع رفعة الإسلام فيستولد الناس إماءهم فيكون الولد كالسيد لأمه لأن ملكها راجع إليه، وذلك إشارة إلى قوة الدين، واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات لأن بلوغ الغاية منذر بالتراجع، والانحطاط المؤذن بقيام الساعة، أو إلى أن الأعزة تصير أذلة لأن الأم مربية للولد، فإذا صار الولد ربها سيما إذا كان بنتًا ينقلب الأمر، كما أن القرينة الثانية على عكس ذلك، وهي أن الأذلة ينقلبون ملوك الأرض، فيتلاءم المعطوفان، وهذا إخبار بتغير الزمان، وانقلاب أحوال الناس، وقيل: معناه أن الإماء تلدن الملوك، فتكون أمة من جملة رعيته، ويقرب منه القول بأن السبي إذا كثر قد يسبى الولد صغيرًا ثم يعتق ويصير رئيسًا بل ملكًا، ثم تسبى أمه فيشريها عالمًا أو جاهلاً، ثم يستخدمها وقد يطؤها، وقيل: معناه فساد الأحوال بكثرة بيع أمهات الأولاد فتردد في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها ويطأها وهو لا يعلم، ويؤيده رواية بعلها وإن فسر بسيدها، وقيل: معناه الإشارة إلى كثرة عقوق الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الخدمة وغيرها، وخص بولد الأمة لأن العقوق فيهن أغلب.
قوله [يا عمر هل تدري من السائل؟ ] وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين متشوقين إلى أنه من هو فإنه جمع في سؤاله بين الشريعة والحقيقة، وبين ما لا يمكن استقصاؤه من المسائل، ولم يكن ممن يعرفونه حتى يعلموا أنه من علماء اليهود أو النصارى، فيقضوا بذلك عجبهم فإنهم كانوا عارفين بأحبارهم المشهورين ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه لهم ليزيد بذلك اشتياقهم إليه وهابوا أن يسألوه.
[باب ما جاء في إضافة (1) الفرائض إلى الإيمان] قد طال (2) أقوال العلماء في أن بين العلماء المتكلمين والمحدثين اختلافًا في دخول الفرائض في الإيمان وعدمه، وزيادة الإيمان بها وعدمها، فذهب المتكلمين منعه، وذهب علماء الحديث إلى ثبوته، وهذا مما يتعجب منه، أفترى المحدثين يقولون بأن من لم يعمل فريضة قط فهو كافر أو خالد في النار، أو ترى المتكلمين ينكرون الفرق بين من آمن الآن
(1) غرض المصنف ومن نحا نحوه الرد على المرجئة وهي طائفة من أهل البدع، قال الحافظ: المرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بلا همزن نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، انتهى. وفي شرح المواقف: المرجئة لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية، أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، من أرجاه أي أخره وأخره، أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية فهم يعطون الرجاء، وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجئة، وفرقهم خمس: اليونسية، والعبيدية، والغسانية، والثوبانية، والثومنية، ثم بسط مقالاتهم، وذكر في الغسانية: هم أصحاب الغسان الكوفي قالوا: الإيمان المعرفة بالله ورسوله، وبما جاء من عندهما إجمالاً لا تفصيلاً مثل أن يقول: قد فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة؟ ولعلها بغير مكة، وبعث محمدًا ولا أدري أهو الذي بالمدينة أو غيره؟ وحرم الخنزير ولا أدري أهو هذه أم غيرها؟ وغسان كان يحكي هذا القول عن أبي حنيفة ويعده من المرجئة، وهو افتراء عليه قصد به غسان ترويج مذهبه بموافقة رجل كبير مشهور. قال الأمدي: ومع ذلك فأصحاب المقالات عدوًا أبا حنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة، ولعل ذلك لأن المعتزلة في الصدر الأول كانوا يلقبون من خالفهم في القدر مرجئًا، أو لأنه لما قال: الإيمان هو التصديق ولا يزيد ولا ينقص، ظن به الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان، وليس كذلك إذا عرف منه المبالغة في العمل والاجتهاد فيه، انتهى.
(2)
يعني المشهور بينهم أن المحدثين والمتكلمين مختلفون في ذلك حقيقة وليس كذلك، بل الاختلاف بينهم لفظي مبني على تفسير الإيمان، كما صرح به الرازي وغيره، ومن رد من الفريقين ليس غرضه الرد على الفريق الثاني كما يتوهم، بل من أثبت للإيمان أجزاء وأفرادًا غرضه الرد على المرجئة القائلة بأنه لا يضر مع الإيمان شيء، ومن نفاها عن الإيمان غرضه الرد على المعتزلة القائلة بأن الكبيرة تخرج المرتكب عن الإيمان، وعلى الخوارج القائلة بأن ارتكاب الكبيرة يدخله في الكفر.
ولم يعمل حسنة، وبين من أنفد عمره لله صائمًا ومجاهدًا، حاجًا ومعتمرًا وعابدًا، فليس الأمر كما اشتهر بينهم من أن المحدثين يخالفون المتكلمين في هذه المسألة، بل
الأمر الحق الذي ينبغي أن يعول إليه إنما هو الرد على من قال: لا يضر شيء من المعاصي بعد الإيمان بأن هذه الأفعال داخلة في الإيمان، ومن قال بعدم الدخول فيه فمنشأه الرد على من ذهب منهم إلى أن الإيمان لا يفيد بدون الفرائض، وهذا هو الحق الذي ينطبق عليه كل الروايات، وأما ما زعم من مذهب المحدثين فهو افتراء عليهم يرده الروايات الصريحة كما ستقف عليه.
قوله [إنا هذا الحي من ربيعة] إذا نصبت الحي فهو على الاختصاص، ومن ربيعة خبر إن، وإذا (1) رفعته فهو خبر إن وقوله من ربيعة حال.
قوله [فقال: آمركم بأربع إلخ] في الحديث اختصار، ولم يذكر في هذه الرواية ما نهاهم عنه (2) وهو مذكور في الروايات الأخر، وقد ترك (3) في كل روايات الصحاح ذكر الثلاثة من هذه الأربع المأمورة، وإنما المذكور منها واحد، وهو الإيمان المفسر بالأربعة المذكورة بعدها، وهذا الذي ذكرنا أسلم
(1) وبالأول جزم الحافظان ابن حجر والعيني وغيرهما، وعلى كلا الاحتمالين معناه أننا من حي ربيعة، ولا يمكن مجيئها إليك إلا في الشهر الحرام لحيلولة مضر بيننا وبينك، ولفظ المشكاة عن المتفق عليه بلفظ البخاري: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، الحديث.
(2)
وهي الأوعية الأربعة الواردة في جل الروايات: الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت.
(3)
وبذلك جزم البيضاوي كما حكاه عنه الحافظ في الفتح إذ قال: قال البيضاوي: الظاهر أن الخمسة المذكورة هاهنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا، انتهى. وسيأتي إليه الإشارة في كلام السيد جمال كما حكاه القاري، لكن الحافظ لم يرتض بهذا التوجيه.
ما قيل في توجيه الحديث، وبذلك يصح إيراد الحديث هاهنا، وبه يظهر مطابقة الترجمة، وأما ما قال الشراح في توجيهه بأن الإيمان بالله مفسر بالشهادتين فحسب، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس الثلاثة الباقية منها، وقيل (1): الإيمان
(1) هذا هو المشهور عند الشراح في تفسيره، كما حكاه القاري وغيره من عامة مفسري الحديث، ففي المرقاة: قال ابن الصلاح: قوله أن تعطوا عطف على قوله بأربع فلا يكون واحدًا منها، وإن كان واحدًا من مطلق شعب الإيمان، انتهى. فيكون هذا من باب زيادة الإفادة، قال الطيبي: في الحديث إشكالان: أولهما أن المأمورية واحد والأركان تفسير للإيمان بدليل قوله أتدرون ما الإيمان، وثانيهما أن الأركان المذكورة خمسة وقد ذكر أولاً أربعة، وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعة نظرً إلى أجزائه المفصلة، وعن الثاني بأن عادة البلغاء إذا كان الكلام منصبًا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له، وكأن ما سواه مطروح، فها هنا ذكر الشهادتين ليس مقصودًا لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، انتهى. ويدل عليه ما في رواية للبخاري: أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا خمس ما غنمتم، ولا تشربوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت، قال القاري: وبهذه الرواية تندفع الإشكالات، ويرجع إليها التأويلات، لكني ما أقول ما قاله الطيبي من أن ذكر الشهادتين ليس مقصودًا، بل أقول: هو المقصود بالذات وإنما المذكورات بيان شعبها المعظمة وأركانها المفخمة، ومحمل كلام الطيبي أنه ليس مقصودًا من الأربع، بل هو جملة معترضة، وقال السيد جمال الدين: قيل: هذا الحديث لا يخلو عن إشكال لأنه إن قرئ وإقام الصلاة إلخ بالرفع على أنها معطوفة على شهادة ليكون المجموع من الإيمان فأين الثلاثة الباقية؟ وإن قرئت بالجر على أنها معطوفة على قوله بالإيمان يكون المذكور خمسة لا أربعة، وأجيب على التقدير الأول بأن الثلاثة الباقية حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا، وعلى التقدير الثاني بأنه عد الأربع التي وعدهم ثم زادهم خامسة، وهي أداء الخمس لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر وكانوا أهل جهاد وغنائم، انتهى. وفي ذلك أقوال أخر ذكرها الحافظ وغيره كقول ابن العربي يحتمل أن يقال: إنه عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله وتكون الرابعة أداء الخمس.
مفسر بالشهادتين فقط والثلاثة المذكورة بعدهما، وهي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، كما هو مذكور في رواية الصحيحين تتمة الأربع، ثم زاد بعدها من عنده خامسًا، وهو أداء الخمس، ففيه أن الأمر لو كان كذلك لما أورده المؤلف في هذه الترجمة إذ لا يعلم منه بهذا التوجيه دخول الفرائض في الإيمان حتى يتم استدلاله، فصنيعه هذا وكذا صنيع أستاذه البخاري (1) يدل على ما ذكرنا من توجيه الحديث.
قوله [من عند عباد بن عباد بحديثين] وذلك لما له من الفضل على غيره.
قوله [رضيع لعائشة] ليس الرضيع هاهنا بمعناه المشهور وهو المرضع، بل المراد بذلك أخوها رضاعًا.
قوله [يعني وكفركن العشير](2). قوله [وما نقصان عقابها] إنما
(1) إذ بوب على الحديث «باب أداء الخمس من الإيمان» وهذا كالصريح في مختار الشيخ بأنه عد أداء الخمس أيضًا من أجزاء الإيمان فما قبله بالطريق الأولى.
(2)
بياض في الأصل بعد ذلك، ولعل الشيخ أراد توضيح ألفاظ الحديث يظهر من الإرشاد الرضى إذ بين ها هنا كثرة تلون أمزجتهن، وكثرة شكواهن، وقلة صبرهن، حتى ورد في أحاديث الكسوف لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط. قلت: ويحتمل أن الشيخ أراد بيان وجه زيادة لفظ يعني فإن ظاهرها يوهم أنه تفسير لقوله: لعنكن، وليس المقصود ذلك، بل الغرض أن الراوي نسي تعبير الشيخ، فنبه بلفظ يعني على أنه مراد الشيخ لا لفظه.