الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقبلين إلى الحجّاج، فقال لهم: إنّكم تقدمون على رجل لا ينبغي لكم أن يسألكم شيئا إلّا أعطيتموه إيّاه.
قال المغيرة: وإن سألنا ما ليس عندنا؟
قال: نعم، وإن سألكم ما ليس عندكم!
فلمّا قدموا على الحجّاج، قال للمغيرة: أعن الأمير على هديّة أمير المؤمنين!
قال: نعم، حكمك أيّها الأمير.
قال: خمسمائة ألف درهم.
قال: قد فعلت.
ثمّ قال لعبد الملك مثل مقالته، فقال: ما عندي من مال، وما كنت في شيء. فغضب الحجّاج، فقال المغيرة: احكم عليه أيّها الأمير ما بدا لك، وهو عليّ.
فحكم بمائتي ألف درهم، فضمنها المغيرة. ثم قال ليزيد بن المهلّب مثل مقالته لأخويه، ولم يكن يزيد ولي شيئا من الخراج، فقال: والله ما كنت بصاحب جباية، وما كنت إلّا صاحب فرس وسيف.
فغضب الحجّاج وتناوله بمنديل كان في يده، فقال له المغيرة: احكم عليه أيّها الأمير ما بدا لك، وهو عليّ.
فحكم عليه بخمسين ومائة ألف، فضمنها المغيرة وحمل إليه خمسين وثمانمائة ألف. فقال الحجّاج: لقد قدمت العراق وما أحسب أنّ بها رجلا أفضل من المهلّب حتى رأيت هذا الأسود- يعني المغيرة بن المهلّب- فإنّ فيه خلفا من المهلّب. وكانت في المغيرة أدمة، وأحبس الحجّاج قبله عبد الملك بن المهلّب فولّاه شرطته، وأشخص المغيرة ويزيد إلى المهلّب.
واستعمل المغيرة من قبله على خراج خراسان، فكان المهلّب على حربها من قبل عبد الملك، والمغيرة على خراجها من قبل الحجّاج، حتّى مات المهلّب في ذي الحجّة سنة اثنتين وثمانين.
[قتاله لشبيب الخارجيّ]
وكان شبيب (1) بن يزيد بن نعيم الشيبانيّ بدويّا، فقدم دمشق يطلب الفريضة، وكان الناس إذ ذاك يخرجون إلى الشام يطلبون الفرائض في قومهم. وكان معاوية، ومن بعده من خلفاء بني أميّة لا يفرضون لأحد من بني بكر بن وائل ولا لبني تميم بالشام لما فيهم من رأي الخوارج، فنزل شبيب على روح بن زنباع، وكانت الأشراف الذين مع الخلفاء يضيفون من لا يعرفون. فقال شبيب لروح [327 أ]: أنا رجل من بكر بن وائل من بني شيبان، ثمّ أحد بني مرّة، ولي شرف في قومي.
وقد نزعت إليك ورغبت في الجهاد، فإن رأيت أن تكلّم أمير المؤمنين حتى يفرض لي؟
فقال: أفعل.
فكلّم فيه عبد الملك فقال: أبا زرعة، إنّي أكره أن أفرض لبكريّ بالشام.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ له جلدا وعقلا.
قال: فسله عن نسبه.
فذكر ذلك روح لشبيب، وقال: إنّي سأعاوده فيك، فانتسب لي.
فانتسب له شبيب، فذكره لعبد الملك فقال: ما أعرف هذا.
فرجع إليه روح، فقال: ذكر أمير المؤمنين أنّه لا يعرفك.
فولّى شبيب وقال: لعلّه يعرفني!
(1) حاشية في الهامش: شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو- وهو الصلت- بن شراحيل بن مرّة بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان.
فقال روح: أخلق بقفا هذا أن يجرّ شرّا!
وخرج شبيب من العراق ومنزلة الكوفة، وقد سبقه صالح بن مسرّح التميميّ بالخروج، فانضمّ إليه حتّى قتل. فبايع الخوارج شبيبا، فأقبل حتى كان فيما بين الموصل والعراق. فبعث إليه بشر بن مروان خيولا فهزمها. وأقام نحوا من سنة، فكثف أمره واشتدّ، ومات بشر بن مروان، وولي الحجّاج العراق، فقام قطريّ بن الفجاءة (1) خطيبا، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنّ الله قد قيّض للفاسق أخي ثمود- يعني الحجّاج- رجلا من الصفريّة- يعني شبيبا- قد أشجاه الله وشغله بنفسه، والله ما يبالي في أيّ الفريقين كان الفتح.
فوجّه الحجّاج إلى شبيب عبيد بن أبي المخارق في رجال أهل الشام، وقد نزل شبيب الأنبار، فهزمه شبيب. ثمّ وجّه إليه يزيد بن هبيرة المجاري فهزمه. ثمّ بعث إليه زحر بن قيس فهزمه، وأصابته ثمانون طعنة وضربة، فعاد وهو يحمل في القطن، وعينه مفلوقة، فقال الحجّاج: يا أهل الشام، من أحبّ منكم أن ينظر إلى الشهيد الحيّ فلينظر إلى هذا! إنّ عين هذا لتنفخ مسكا في الجنّة!
فقال زحر للّذي يحمله: ما أرضانا بالزيت!
ثمّ بعث الحجّاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس فهزمه شبيب، فبعث عتّاب بن ورقاء التميميّ فلقيه شبيب وقتله. فبعث إليه الجزل الكندي مولى آل عتبة بن أبي معيط فقتله، فبعث إليه أبا الورد مولاه فقتله. فبعث إليه زياد بن عمرو العتكيّ فانهزم وقتل. فبعث إليه محمد بن
موسى بن طلحة بن عبيد الله فقتله شبيب، فبعث إليه أبا الضريس مولى بني تميم فقتله.
ومكث شبيب أربع سنين، ثمّ ضرب الحجّاج البعث على الكوفة وخرج حتى عسكر في السبخة (2)، وأقبل شبيب ينتقل فيها بين السواد والجبل، فبعث إليه الحجّاج عبد الله بن رميثة الطائيّ، ولم يكن مع الحجّاج يومئذ من أهل الشام إلّا نحو من سبعمائة رجل، فكتب ابن رميثة يستأمر الحجّاج، فكتب إليه أن: أقم مكانك، فما شعر الحجّاج، وهو في عسكره بالسبخة، إذ أقبل شبيب وقد سبق أصحابه في ثلاثين فارسا ففرّقهم في نواحي عسكر الحجّاج، ثم قال:«لا حكم إلّا لله! » ، فانذعر الناس ودخل عامّتهم الكوفة، وقتل من أصحاب الحجّاج نحوا من ثلاثين ومائة رجل، ولم يقتل من أصحاب شبيب إلّا رجلان.
ثمّ انصرف شبيب فلقي أصحابه في الطريق فردّهم، ثمّ أقبل حتى أتى الفالوجة فأقام بها خمس عشرة ليلة، ثمّ أقبل إلى الكوفة فبلغ الحجّاج فرحل إلى كوثى (3)، وبعث إليه علقمة بن عبد الرحمن الحكميّ. فرجع شبيب إلى الأنبار، فضرب الحجّاج البعث على أهل الكوفة فجعلوا ينهزمون، ومرّ ابن الحرميّة العبدي على بقّال بالكوفة، وكان قد كتب بالبعث فقال: يا بقّال، إنّكم لفي عافية، فلمّا بلغت الحجّاج كتب إلى عبد الملك: الغوث! وجّه إليّ أهل الشام. وإنّ رجلا من أهل العراق مرّ ببقّال، فقال: كذا وكذا.
فأمدّه عبد الملك بأربعة آلاف من أهل الشام، فقدموا عليه وشبيب بالأنبار، وقد أقام بها عشرين
(1) حاشية بالهامش: قطري بن جعونة، وهو الفجاءة، لأنّه كان باليمن فقدم عليه فجأة. وجعونة ابن [مازن] بن يزيد بن زياد بن خنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم (وقد سقط مازن من نسبه في جمهرة ابن حزم 212)، وكنية قطري أبو محمد وأبو نعامة وأبو عبد الله.
(2)
زاد الطبري 6/ 275: بين الكوفة والفرات.
(3)
كوثى: بأرض بابل من سواد العراق (ياقوت). ولم يذكرها الطبريّ في خبر الحجّاج مع شبيب (سنتي 76 و 77).
ليلة بعد أن التقى هو وعلقمة بن عبد الرحمن.
فأصبح يوما وقد سقيت خيوله وعلّفت وجمّت فقال لأصحابه: ما ترون؟
قالوا: الرأي رأيك، فمرنا بأمرك!
قال: هل لكم أن تدعوا بابن أبي الرغال الليلة، وذلك بعد ارتفاع الضحى؟
قالوا: يا أمير المؤمنين، قد منع النهار.
قال: وإن.
فقرط فرسه عنانه، وقرّطوها أعنّتها، وسار بهم حتّى دخلوا الكوفة ليلا بعد ما صلّيت العشاء الآخرة، وهو في مائة وخمسين رجلا، ومعه امرأته الجهيرة بنت عمرو، وأمّه غزالة من سبي أصبهان.
وكان الحجّاج قد رحل من البصرة ودخل الكوفة بعد العصر، وتحصّن بالقصر. وفي المسجد أصحاب البرانس يصلّون في السواري، وقد قامت الأحراس في السّكك، وخرج حرس الحجّاج إلى المسجد.
فأقام شبيب على كلّ باب رجلين، وأمرهم أن يقتلوا من مرّ بهم. وقال لأمّه وامرأته: اقعدا على المنبر لا يصيبكما أحد بمعرّة.
ودخل المسجد فقتل المصلّين، ومن فرّ قتله الذين على الأبواب، وأخذ ميمون العذاب مولى حوشب بن يزيد بن رؤيم الشيبانيّ- وكان حوشب يومئذ على الخراج، وميمون خليفته. فقال له شبيب: أين حوشب؟
قال: في منزله.
فأرسل عدّة من أصحابه ليأتوا به فامتنع، فأتاه ميمون، ومعه عدّة من أصحاب شبيب، فأعلمه بقدوم شبيب فذبحه شبيب وجعل أصحاب شبيب يضربون باب القصر على الحجّاج، ويقولون: يا عدوّ الله! يا ابن أبي رغال! يا أخا ثمود!
وفي ذلك يقول عتبان بن وصيلة الشيبانيّ (1) أحد أصحاب شبيب [الطويل]:
لعمري لقد نادى شبيب وصحبه
…
على الباب لو أنّ الأمير يجيب
فأبلغ أمير المؤمنين رسالة
…
وذو النصح لو يدعى إليه قريب
أتذكر إذ دارت عليك رماحنا
…
بمسكن والكلبيّ ثمّ غريب؟
فلا صلح ما دامت منابر أرضنا
…
يقوم عليها من ثقيف خطيب
5 فإنّك إن لا ترض بكر بن وائل
…
يكن لك يوم بالعراق عصيب
فلا ضير إن كانت قريش عدى لنا
…
يصيبون منّا مرّة ونصيب
فإن يك منهم كان مروان وابنه
…
وعمرو ومنهم هاشم وحبيب
فمنّا سويد والبطين وقعنب
…
ومنّا أمير المؤمنين شبيب
ومنّا سنان الموت وابن عميرة
…
ومرّة، فانظر أيّ ذاك تعيب
فقال عبد الملك بن مروان لمّا بلغته الأبيات:
كلامهم والله أعجب!
فلمّا طلع الفجر قال شبيب لبعض أصحابه:
«أذّن وأقم! » فأذّن وأقام. وتقدّم شبيب فصلّى بأصحابه، فقرأ سورة البقرة و [سورة] آل عمران حتى كادت الشمس تطلع، ثمّ جلس وسط المسجد ساعة، فأقبلت الجيوش فقال لأصحابه: اركبوا.
فأمر الحجّاج قوما فقاموا على زوايا المسجد فنادوا: يا خيل الله، اركبي!
(1) في المخطوط: وصيلة بن عتبان، والإصلاح من إحسان عبّاس: خوارج 182 وقد أضاف بيتين.