الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسرادقين- يعني: ستارتين- وحجلتين للصدر- يعني شخانتين (1) - وكلّ مرتبة ثماني قطع، ثمن ذلك خمسة آلاف دينار.
فأقبل كلّ [من] حضر يبالغ في صفته، إلّا ابن حميد فإنّه صار ساكتا، فلحظه الوزير. وطاف المجالس وا [ست] عرض كلّ ما أعدّه، وهو يقول: يزاد ههنا كذا، ويترك هنا كذا- ثمّ عدل إلى بيت الطهارة فدخله، وقد أعدّ في دهليزه من الفرش والآلات والطيب، وفي داخله من الفواكه والمشمومات كلّ مستحسن.
واستدعى ابن حميد منفردا، وجلس في دهليزه وقال: يا عمدة الملوك، ما لي لم أسمعك تؤمّن على ما قالته الجماعة؟
فاعتلّ بما لم يقبله الوزير، وألزمه أن يصدقه فقال: يا سيّدنا، عندي أحد رأيين: إمّا أن تأمر بإزالة هذه الفرش ونصب غيرها ممّا هو مستعمل، أوتحمله إلى الخليفة إذا انقضى جلوسه عليه.
فقال: وما هو هذا؟ أليس هو ممّا أنعم به وصار إليّ من فضله؟ وما قدره حتى تمتدّ عينه وتتطلّع نفسه له؟ أمّا إزالته ونصب غيره، فما كنت لأكسر نفس هذا الصبيّ، وإن أمرت بإزالته حزن وانكسرت نفسه، وقام.
[
…
كانت سببا لتنكّر الخليفة على اليازوريّ]
فحضر المستنصر وأقام يومه في الدار، وأحضر إليه ما [أ] عدّ له من الطّرف. وركب آخر النهار وعاد إلى قصره. وحضر خواصّ الوزير عنده على عادتهم، فانفرد بابن حميد وقال له: يا عمدة الدولة، والله ما أخطأ حزرك فيما قلته بالأمس:
منذ دخل الخليفة إلى الدار إلى أن خرج لم يطرف
طرفة عن تأمّل الفرش، فإذا وجّهت طرفي نحوه أطرق وتشاغل.
فقال: يا سيّدي، إذا فات الأمر الأوّل، فلا يفوت الثاني.
فقال: والله لا فعلت، ولا غممت صفيّ الملك بحرمانه إيّاه!
واتّفق أنّ ابن حميد دخل على الوزير في يوم بكرة، وقد قدّمت الدابّة إلى باب المجلس، فخرج ليركب، وعليه ثوب أسمر اللون مليح السمرة، فدنا منه ليصلح ثيابه لمّا ركب، وجعل يلمس الثوب. فسار الوزير وعاد فلمّا انقضت المائدة، قال لابن حميد: قد لحظتك اليوم تنظر الثوب الذي كان عليّ، فعجبت من ذلك. فلمّا مثلت بحضرة مولانا كنت بحيث جرت العادة. فأقبل يتأمّل الثوب، ولم يزل يزحف من الدّست حتّى قرب منّي. فتغافلت عنه، ولحظته وقد مدّ يده إلى الثوب ليلمسه، فقلت في نفسي: زال عجبي من عمدة الدولة إذا كان الخليفة على هذه الصفة، وهو ثوب ملحم (2) خراسانيّ.
فقال: الملوك إذا أنعموا على أحد ممّن في دولتهم نعمة وتظاهر بها، استحال الإحسان والاصطناع حسدا ومللا.
[خصاله الحميدة]
وكان الوزير شريف الأخلاق، عالي الهمّة، كريم الطّباع، وطيء الأكناف، مستحكم الحلم (3)، واسع الصدر، نديّ الوجه، يستقلّ الكثير ويستصغر كلّ كبير. فكان راتب مائدته في كلّ يوم كموائد الملوك في الأعياد والولائم.
(1) الحجلة: ضرب من الفرش: والشخانة لم نعرفها.
(2)
الملحم من الثياب: ما كان قماشه مصنوعا بلحمة من حرير.
(3)
في المخطوط: الحكم، والإصلاح من الاتّعاظ 2/ 245.
وكان لا يبتاع لمطبخه من الطير ما هو معرّق، ولا مصدّر (1)، وسعر المعرّق ستّة أطيار بدينار، والمصدّر أربعة بدينار، والمسمّن ثلاثة بدينار، والفائق اثنان بدينار، فيعمل المسمّن لداره ومن فيها، وأمّا مائدته فلا يقدّم عليها إلّا الفائق.
فاتّفق حدوث الغلاء في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وصار الخبز طرفة من الطّرف لقلّته وغلاء السعر من قصور (2) النيل، والمستنصر يحضر دار الوزير في كلّ يوم ثلاثاء على عادته، وتقدّم إليه المائدة، فيراعي حالها فيجدها على ما يعهد، لم يختلّ منها شيء، حتّى الدجاج الفائق.
فقال لصاحب مطبخه: ويلك! يكون راتب مائدة الوزير الدجاج [366 ب] الفائق، ومائدتي دون ذلك؟
فقال: يا مولانا، ما ذنبي إذا قصّر بك أصحاب دواوينك ومطابخك ولم [يطلقوا لمائدتك ما ألتمسه منهم؟ والوزير، فلا يتجاسر وكلاؤه أن](3) يقصّروا في شيء ممّا جرت به العادة في راتب مائدته وغيرها، مع تقدّمه إليهم في كلّ يوم بالزيادة فيها وفي راتب داره.
وكان الوزير أيضا إذا أعطى هنّأ، وإذا أنعم على إنسان أسبغ، وإذا اصطنع أحدا رفعه إلى ما تقصر عنه الآمال والأماني، مع عظيم الصدقة وجزيل البرّ الذي عمّ به أهل البيوتات بما أقامه لهم من المشاهرات على مقاديرهم، والأشراف سكّان المنامة (4)، والفقراء وأهل الستر بالقرافة بما يواصلهم به من البرّ والكسى، ويجري ذلك على
يد ابن عصفور أحد الشهود بمصر ووكيل السيّدة الوالدة. فكانوا يظنّون أنّ ذلك من إنعامها وبرّها أو من إنعام المستنصر. فلمّا قتل الوزير انقطع عنهم ما كان يصل إليهم من برّه، فاستنصروا بذلك [الوكيل] وواصلوا الخطاب فيه وقالوا: قد جفينا من مولانا ومولاتنا وانقطع برّهما عنّا، فلو أذكرتهما بنا؟ - وأكثروا من ذلك على ابن عصفور. فقال لهم: الذي كنتم ترون ما كان ليجيئكم حتى يبعث الله ناصر دين آخر! فحينئذ يأتيكم منه ما كان يصلكم به.
فقالوا: نحن التمسنا من مولانا ومولاتنا، ولم نلتمس من ناصر الدين؟
فقال: ما كان يجيئكم ذلك إلّا من الوزير، فإن بعثه الله لكم فعساه يبرّكم بما كان يبرّكم به.
فعجبوا من ذلك وأكثروا من الترحّم عليه.
ولمّا تظافر الغلامان (5) على الوزير حتّى تمّ من القبض عليه ما تمّ، لم يشعر مستهلّ المحرّم سنة خمسين وأربعمائة إلّا وقد قبض عليه. فكتب رقعة إلى أبي الفرج البابليّ، لموضع تقدمته له، وبما أحسن به إليه وأنعم عليه، وأنّه هو الذي رفعه على جميع أصحاب الدواوين، واستخلصه دونهم.
وظنّ أنّه يجازيه على ما صنع إليه، ويفي به.
فخاب ظنّه، ونصّ الرقعة بعد البسملة: عرفنا يا أبا الفرج، أطال الله بقاءك وأدام عزّك، تغيّر الرأي فينا، وسوء النيّة والطويّة. فإن يكن هذا الأمر صائرا إليك، فاحفظ الصّحبة وارع واجب الحرمة. وإن يكن صائرا إلى غيرك فابتغ لنفسك نفقا في الأرض. على أنّا نشير عليك إذا دعيت إليه ألّا تتأبّى عنه، فإنّه أصلح لك وأعود علينا، والسلام.
(1) المعرّق: المهزول، والمصدّر: لعلّه غليظ الصدر يابسه.
(2)
أي: نقصان فيضانه.
(3)
زيادة من الاتّعاظ 2/ 240.
(4)
المنامة: ذكرها ابن دقماق 1/ 35 بين الأماكن المذكورة بمدينة مصر قرب غافق.
(5)
قد مرّ ذكرهما: فرج المغراويّ وتنا الفرّاش.