الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطرات، والنزوة بعد النزوات! إن بعثتكم إلى ثغوركم عللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم. لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة.
هل استحقّكم ناكث أو استغواكم غاو، أو استنفركم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلّا تبعتموه وواسيتموه ونصرتموه ورضيتموه. يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نهب ناعب، أو زفر زافر، إلّا كنتم أتباعه وأنصاره؟
يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ (ثمّ التفت إلى أهل الشام فقال: ) يا أهل الشام، إنّما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنّها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذّئاب. يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرداء، وأنتم العدّة والحذاء.
[بعض أخباره]
وخرج يوما فإذا هو بأعرابيّ في زرع، فقال له:
ممّن أنت؟
قال: من أهل عثمان.
قال: فمن أيّ القبائل؟
قال: من الأزد.
قال: كيف علمك بالزرع.
قال: إنّي لأعلم من ذلك علما.
قال: فأيّ الزرع خير؟
قال: ما غلظ قصبه واعتمّ نبته، وعظمت حبّته.
قال: فأيّ العنب خير؟
قال: ما غلظ عموده واخضرّ عوده وعظم عنقوده.
قال: فما خير التمر؟
قال: ما غلظ لحاؤه، ودقّ نواؤه، ورقّ سماؤه.
*** وقال لرجل من الخوارج: أجمعت القرآن؟
قال: أمتفرّقا كان فأجمعه؟
قال: أتقرؤه ظاهرا؟
قال: بل أقرؤه وأنا انظر إليه.
قال: أتحفظه؟
قال: أخشيت فراره فأحفظه؟
قال: ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟
قال: لعنة الله ولعنك معه!
قال: إنّك مقتول، فكيف تلقى الله؟
قال: ألقاه بعملي، وتلقاه بدمي.
*** وقال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجّاج المنبر، ثمّ قال: امرءا زوّر عمله، امرءا حاسب نفسه، امرءا فكّر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه.
امرءا كان عند قلبه زاجرا وعند همّه ذاكرا، امرءا أخذ بعنان عمله كما يأخذ الرجل بخطام جمله.
فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفّه.
وقال الحجّاج لمعلّم ولده: علّم ولدي السّباحة قبل الكتابة، فإنّهم يصيبون من يكتب عنهم، ولا يصيبون من يسبح عنهم.
*** وقال لابن القريّة: ما زالت الحكماء تكره المزاح وتنهى عنه.
فقال: المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: أوّله فرح وآخره ترح، والمراح والمزاح نقائض السفهاء كما الشعر نقائض الشعراء.
والمزاح يوغر صدر الصديق، وينفّر الرفيق عن الرفيق. والمزاح يبدي السرائر لأنّه يظهر المغاير، والمزاح يسقط المروءة ويبدي الخنا، لم يجرّ
المزاح خيرا، وكثيرا ما جرّ شرّا. الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر. المزاح يجلب الشتم صغيره، والحرب كثيره، وليس بعد الحرب إلّا عفو بعد قدرة.
فقال الحجّاج: حسبك! الموت خير من عفو بعد قدرة.
*** ويروى أنّ الحجّاج جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقام رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير، إنّ لي عليك حقّا.
قال: وما حقّك؟
قال: لعنك عبد الرحمن يوما فرددت [334 ب] عليه.
فقال: من يعلم ذلك؟
فقال: أنشد الله رجلا سمع ذلك إلّا شهد به!
فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذلك أيّها الأمير.
فقال الحجّاج: خلّوا عنه!
ثمّ قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟
فقال: لقديم بغضي إيّاك!
قال: وليخلّ عنه لصدقه (1).
*** وقال الحجّاج لرجل من الخوارج: والله إنّي لأبغضكم.
فقال الخارجيّ: أدخل الله أشدّنا بغضا لصاحبه الجنّة!
*** وكان الحجّاج يستثقل زياد بن عمرو بن الأشرف العتكيّ، فلمّا أثنت الوفود على الحجّاج
عند الوليد بن عبد الملك، والحجّاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجّاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم.
فلم يكن أحد بعد [ذلك] أخفّ على قلب الحجّاج منه (2).
*** وكان يقول: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد.
*** ولمّا واقف الحجّاج عبد الرحمن بن الأشعث، نادى منادي الحجّاج: من أتاني برأس فيروز [بن] حصين، فله عشرة آلاف درهم (3).
فنصل فيروز من الصفّ، فصاح بالناس: من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني، فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي. فمن أتاني برأس الحجّاج، فله مائة ألف.
فقال الحجّاج: فو الله لقد تركني أكثر التلفّت، وإنّي لبين خاصّتي.
فأوتي به الحجّاج، فقال: أنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم؟
قال: قد فعلت.
فقال: والله لأمهّدنّك، ثمّ أحملنّك، أين المال؟
فقال: عندي، فهل إلى الحياة من سبيل؟
قال: لا.
قال: أخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال، فلعلّ قلبك يرقّ لي.
(1) الرواية مغايرة في العقد 2/ 172.
(2)
مرّت بنا هذه الرواية، وهي في العقد 2/ 137.
(3)
حاشية في الهامش: فيروز حصين هذا كان من مشاهير العجم فأسلم ووالى حصين بن عبد الله العنبريّ، وكان شجاعا جوادا جميل الصورة جهير الصوت.
وانظر خبره في الوفيات 2/ 38 (ترجمة الحجّاج).