الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما زال على مكانته حتّى مات السلطان وقام من بعده الأمير قوصون بتدبير الدولة. [ف] بعثه إلى حماة وطرابلس مبشّرا بسلطنة الأشرف كجك.
فلمّا عاد أخرجه إلى قوص لحفظ المنصور أبي بكر وقد نفاه إليها، وقرّر معه معاونة عبد المؤمن والي قوص على قتله. فعاد بعد قتله. فلم يبق قوصون إلّا أيّاما وثار به الأمير آي دغمش والأمراء وقبض عليه. وطلب جركتمر وسجنه. ثمّ أخرج إلى الإسكندريّة وقتل بها في شوّال سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
وكان يجيد اللعب بالرمح والرمي بالنشّاب، وله يد طولى في صيد الوتر وصيد الطيور ولعب الكرة. وكان جميلا كريما.
1066 - جرمك الناصريّ [- 692]
(1)
[395 أ] جرمك الناصريّ، الأمير سيف الدين، أحد مماليك الناصر يوسف صاحب حلب.
تنقّل في الخدم من أوّل الدولة التركيّة وصار من جملة الأمراء في الأيّام الظاهريّة بيبرس. وأقرّه المنصور قلاوون على إمرته. ثمّ قبض عليه في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستّمائة لمفاوضة جرت بينه وبين الأمير طرنطاي أغلظ له فيها بحضرة الأمراء. ومات [المنصور] وهو في السجن، فأفرج عنه الأشرف خليل عند ما تسلطن وأنعم عليه بالإمرة على عادته.
ثمّ قبض عليه وهو يحاصر عكّا في جمادى الأولى سنة تسعين وسجنه بقلعة الجبل إلى أن قتله في ليلة أوّل المحرّم سنة اثنتين وتسعين وستّمائة فيمن قتل من الأمراء.
وكان سليم الباطن يخدعه المنجّمون بأنّه يلي السلطنة، فتتعلّق نفسه بذلك وينعم عليهم.
وكان تتريّ الجنس من كبار المغل كبير النفس شجاعا معظّما في الدول.
1067 - المقوقس (جريج بن مينا)
(2)
جريج بن مينا بن قرقب المقوقس.
وجّهه هرقل ملك الروم إلى مصر أميرا، وجعل إليها حربها وجباية خراجها، فنزل الإسكندريّة.
وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة (3) بكتابه إليه سنة سبع من الهجرة، فوافاه بالإسكندريّة. فلمّا دخل عليه أجلسه وتناول منه الكتاب وقبّله وضمّه إلى صدره وقال: مرحبا بكتاب النبيّ العربيّ. ثمّ قرأه، فإذا فيه: باسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين. يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64].
وقيل: بل كان في الكتاب بعد البسملة: أمّا بعد، فإنّ الله أرسلني رسولا وأنزل عليّ قرآنا مبينا وأمرني بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفّار حتى يدينوا بديني ويدخلوا في ملّتي. وقد دعوتك إلى الإقرار بالوحدانيّة [لله] الواحد الأحد وأنّي
(1) النجوم 8/ 37.
(2)
الخطط 1/ 45؛ النجوم 1/ 8؛ السيرة الحلبيّة 3/ 280؛ ابن كثير 3/ 515؛ سيرة دحلان 2/ 173.
(3)
حاطب بن أبي بلتعة، انظر ترجمته في المقفّى رقم 1116.
رسول الله. فإن أنت أجبت فقد سعدت، وإن أبيت فقد شقيت. والسلام على من اتّبع الهدى. ويا أهل الكتاب تعالوا [295 ب] إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
…
الآية.
فلمّا قرأه أخذه فجعله في حقّ من عاج وختم عليه. وأنزل حاطب بن أبي بلتعة في داره. ثمّ أرسل إليه ليلة وليس عنده أحد إلّا ترجمان له فقال: ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها، فإنّي أعلم أنّ صاحبك قد تخيّرك حين بعثك.
فقال حاطب: لا تسألني عن شيء إلّا صدقتك.
قال: إلام يدعو محمّد؟
قال: إلى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتخلع ما سواه وتأمر بالصلاة.
قال: فكم تصلّون؟
قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحجّ البيت، والوفاء بالعهد.
وينهى عن أكل الميتة والدم.
قال: من أتباعه؟
قال: الفتيان من قومه وغيرهم.
قال: فهل يقبل قوله (1).
قال: نعم.
قال: صفه لي.
(قال): فوصفته بصفة من صفته [و] لم آت عليها (2).
قال: قد بقيت أشياء لم أرك ذكرتها: أفي عينيه حمرة؟
قلت: ما تفارقه. وبين كتفيه خاتم النبوّة.
ويركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزى بالتمرات والكسر، لا يبالي من عمّ أو ابن عمّ.
قال: هذه صفته.
وفي رواية: هذا زمان يخرج فيه النبيّ الذي نجد نعته وصفته في كتاب الله تعالى. وإنّا لنجد صفته أنّه لا يجمع بين أختين في ملك يمين ولا نكاح، وأنّه يقبل الهديّة ولا يقبل الصدقة، وأنّ جلساءه المساكين، وأنّ خاتم النبوّة بين كتفيه.
وفي رواية: أنّ المقوقس استدعى بسفط واستخرج منه سمطا (3) فيه صفة الأنبياء عليهم السلام، وفي آخره صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ أمر حاطب بن أبي بلتعة أن يصف له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطابق به ما عنده: فلما نعته حاطب قال المقوقس:
صدقت، هكذا صفته. قد كنت أعلم أنّ نبيّا قد بقي، وقد كنت أظنّ أنّ مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله. فأراه قد خرج في العرب في أرض جهد وبؤس. والقبط لا تطاوعني في اتّباعه، ولا أحبّ أن تعلم بمحاورتي إيّاك.
وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتّى يظهروا على ما ههنا. وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا. فارجع إلى صاحبك.
وفي رواية: لولا الملك- يعني ملك الروم- لأسلمت.
ثمّ دعا كاتبا يكتب بالعربيّة فكتب: لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام. أمّا بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه. وقد علمت أنّ نبيّا قد بقي، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم،
(1) في المخطوط: قومه، والإصلاح من الخطط 1/ 45.
(2)
يعني: بشيء من صفاته، وزدنا الواو من الخطط. وعند دحلان: فوصفته فأوجزت.
(3)
قراءة ظنّيّة، ولعلّها: نمط، وهو ضرب من البسط.
وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام.
ويقال إنّه كتب: باسم فاطر السماوات، ومنزل البركات، والإنجيل والتوراة، الواصف نفسه في الإنجيل صاحب التحريم والتحليل. من المقوقس إلى محمّد بن عبد الله. أمّا بعد، فقد ورد كتابك وقرأته وفهمته. وأنت تقول إنّ الله أرسلك رسولا، وفضّلك تفضيلا، وأنزل عليك كتابا مبينا. فكشفنا عن خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الحقّ، وأفضل من تكلّم بالصدق. ولولا أنّي ملكت ملكا عظيما، كنت أوّل من آمن بك. ولكنّ النفس لا تميل إلى ترك دين نشأ فيه الصغير، واستمرّ عليه الكبير.
وأنا أعوذ بالله من متاركتك إلى أن يدين بدينك الخ [ل] ق في جميع البلاد. وإنّي خاتم على كتابك وجاعله عندي. وما بيني وبينك إلّا أن يقهر جيرانك من العرب، ويهلك الملكان كسرى وقيصر. فإذا استقام لك الأمر كنّا في جملة من دان لك، والسلام.
وإنّه بعث مع حاطب هديّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فرس بسرجه ولجامه، وبغلة شهباء بسرجها ولجامها، وحمار أشهب، وجارية سوداء، وجارية بيضاء من أجمل نساء القبط اسمها مارية، وغلام مجبوب، وطيب وعمامة وألف دينار، وثياب من قباطيّ مصر، وعسل من عسل بنها.
وقيل: بل أهدى إليه أربع جوار، منهنّ جاريتان أختان وهما مارية وسيرين من حفن إحدى ضياع أنصنا (1) لهما شأن في القبط عظيم وجمال بارع لم يكن بمصر أحسن منهما، وغلاما مجبوبا يقال له مابور [
…
] وحمارا أشهب، وبغلة شهباء بسرجها ولجامها، وفرسا، وألف مثقال ذهبا،
وعشرين ثوبا من قباطيّ مصر، مع طرف من طرفهم، وعسلا من عسل بنها وربعة إسكندرانيّة كان صلى الله عليه وسلم يعمل فيها جهازه من مكحلة ومشط وما سوى ذلك.
ووهب لحاطب مائة دينار وخمسة أثواب وأحسن ضيافته.
وقد قيل إن يعفورا حمار النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما هو من هديّة فروة بن عمرو الجذاميّ عامل قيصر على عمان.
وأمر رسوله ابن جبر (2) أن ينظر من جلساء النبيّ صلى الله عليه وسلم وينظر إلى ظهره هل يرى شامة كبيرة ذات شعر، ففعل ذلك الرسول. فلمّا قدم على [369 أ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من السنة المذكورة قدّم إليه الأختين والدّابّتين والعسل والثياب وغيرها، وأعلمه أنّ ذلك كلّه هديّة. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهديّة وكان لا يردّها من أحد من الناس. فلمّا نظر إلى مارية وأختها سيرين- ويقال: حنّة وقيل: قيصرا- أعجبتاه، وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه الأخرى، فقال: اللهمّ اختر لنبيّك! - فاختار الله له مارية، ووهب أختها لمحمّد بن مسلمة الأنصاريّ- وقيل: بل وهبها لدحية بن خليفة الكلبيّ.
وقيل: بل أهدى المقوقس لرسول الله ثلاث جوار، منهنّ مارية أمّ إبراهيم عليها السلام، وواحدة وهبها لأبي جهم بن حذيفة العبدريّ، وواحدة وهبها لحسّان بن ثابت. وكانت البغلة والحمار أحبّ دوابّه إليه صلى الله عليه وسلم، وسمّى البغلة الدلدل وسمّى الحمار يعفور، وأعجبه العسل فدعا في عسل بنها بالبركة. وبقيت تلك الثياب حتى كفّن في بعضها صلى الله عليه وسلم.
(1) حفن: من قرى الصعيد، وكذلك أنصنا على شرقيّ النيل (سيرة ابن هشام 1/ 7 هامش 5 و 6). وفي الخطط 1/ 46 أنّ الهدايا وصلت مع حاطب سنة سبع.
(2)
في الخطط 1/ 47: اسمه عبد الله القبطيّ مولى بني غفار.
ولمّا توجّه عمرو بن العاص بالجنود إلى مصر، بلغ ذلك المقوقس، فسار من الإسكندريّة إلى مصر وجهّز الجيوش لقتاله. فما زال عمرو يهزمهم حتّى نزل على الحصن وقد تحصّن به المقوقس وخندق حوله، وجعل للخندق أبوابا وبثّ في أفنيته حسك الحديد. فلمّا اشتدّ الحصار تنحّى المقوقس ومعه أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون المسلمين، حتى لحقوا بجزيرة الفسطاط وقطع الجسر وذلك في جري النيل وترك المندقور (1) على الحصن، فلم يزل يقاتل المسلمين إلى أن غلب وصار إلى المقوقس بالجزيرة. فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنّكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا. وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّكم الروم وجهّزوا إليكم، ومعهم العدّة والسلاح. وقد أحاط بكم هذا النيل وإنّما أنتم أسارى في أيدينا.
فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعلّه أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه.
ولعلّكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم. فابعث إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.
فلم يجبه عمرو. ثمّ بعث إليه عبادة بن الصامت فتحاورا طويلا. ورجع عبادة وقد أبى القبط على المقوقس أن يجيبوه إلى [369 ب] أداء الجزية، وقطعوا الجسر. فقاتلهم المسلمون وقتلوا وأسروا من كان بالقصر من جموع الروم
والقبط. فقال لهم المقوقس: ألم أعلمكم هذا، وأخافه عليكم. ما تنتظرون؟ فو الله لتجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها. فأطيعوني من قبل أن تندموا!
فأذعنوا إلى قوله ورضوا بإعطاء الجزية. فبعث المقوقس إلى عمرو يعلمه أنّه لم يزل حريصا [296 ب] على الإجابة إلى ما أراد، لكنّ القوم أبوا عليّ، فلم يكن لي أن أفتات عليهم، وقد عرفوا نصحي.
فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت، [أنا] في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك.
فاجتمعا على عهد بينهما واصطلحا على أن يكون على كلّ ذكر بلغ الحلم من القبط ديناران دون الروم، فإنّهم يخيّرون بين الإقامة بمصر على هذا أو الخروج منها.
وكتب إلى ملك الروم يعلمه الخبر. فكتب إليه يقبّح رأيه ويؤكّد عليه في القتال. فقال المقوقس لمّا ورد عليه الكتاب: والله إنّ العرب على قلّتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منّا على كثرتنا وقوّتنا. إنّ الواحد منهم ليعدل مائة منّا، فإنّهم قوم الموت أحبّ إليهم من الحياة، يقاتل أحدهم وهو يتمنّى أن لا يرجع إلى أهله وولده، ويرون أنّ لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منّا، ويقولون إن قتلوا: دخلوا الجنّة. وليس لهم رغبة في الدنيا ولا لذّتها. ونحن نكره الموت ونحبّ الحياة ولذّتها. فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم؟ واعلموا معشر الروم أنّي لا أخرج ممّا دخلت فيه. وحذّرهم وأنّبهم وأعلم عمرو بن العاص بذلك كلّه، وأنّه والقبط ثابتون على ما عاهدوا عليه.
فألزمه عمرو أن يقدم بالإنزال والضيافة، وينصب الأسواق والجسور ما بين الفسطاط والإسكندريّة، ففعل ذلك. وصارت القبط أعوانا للمسلمين.
(1) عند الكندي 8: المندقور الذي يقال له الأعرج. وفي الخطط 1/ 290: رجل من الروم يقال له الأعيرج.، وكذلك ياقوت (الفسطاط).