الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلمّا كان في المحرّم سنة خمس وثمانين وستّمائة خرج عسكر من القاهرة عليه الأمير حسام [الدين] طرنطاي نائب السلطنة بمصر والتقى مع الأمير بدر الصوابيّ بجيش دمشق فنازلها وقطع [430 ب] الميرة عنها، وأرسل [إلى] أهل الكرك حتّى استمالهم إليه. فلم يجد المسعود بدّا من طلب الأمان، فبعث السلطان إليه أمانا. فنزل إلى الأمير طرنطاي ومعه أخوه سلامش في يوم الثلاثاء خامس صفر وسلّمه الكرك. فرحل بهما إلى القاهرة وبجميع عيالهما، وخرج السلطان إلى لقائهم في ثاني عشر ربيع الأوّل، وأكرم المسعود وسلامش وأعطى كلّا منهما إمرة مائة فارس، وصارا يركبان معه في الموكب والميدان بمنزلة أولاده.
ثمّ بلغه عنهما تنكّر له فقبضهما واعتقلهما.
فأقاما في الاعتقال إلى أن أخرجهما الملك الأشرف خليل بن قلاوون في أوّل سنة تسعين وستّمائة [فأرسلهما] ومعهما أمّهما إلى الإسكندريّة مع الأمير عزّ الدين أيبك الموصليّ الأستادار، فسفّرهم من الإسكندريّة في البحر الملح إلى مدينة القسطنطينيّة فأحسن إليهم الأشكريّ (1) ملك الروم بها وأجرى لهم ما يقوم بحالهم، إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين فبعث في طلبهم فحملهم الأشكري في البحر إلى الإسكندريّة، وقد مات الملك العادل سلامش (2) وحمل مصبّرا [في تابوت] ودخل خضر إلى القاهرة في أوائل سنة سبع وتسعين وستّمائة.
فأكرمه الملك المنصور ودفن أخاه بالقرافة، ثمّ جهّزه إلى مكّة بجميع ما يحتاج إليه. فقضى حجّه وعاد في سنة ثمان وتسعين فسكن القاهرة.
فلمّا قتل لاجين قبض عليه وأسكن في برج بالقلعة إلى أن أفرج عنه في ربيع الأوّل سنة ثمان وسبعمائة، فسكن بدار الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم بمدينة مصر قليلا ومات خامس شهر رجب منها.
1365 - الخضر المهرانيّ شيخ الظاهر بيبرس [- 676]
(3)
الخضر بن أبي بكر بن موسى، أبو العبّاس، المهرانيّ، العدويّ، شيخ الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ.
قدم من جبال الأكراد، وأصله من قرية يقال لها المحمّديّة من أعمال جزيرة ابن عمر. ونزل بجبل المزّة خارج دمشق، فعرفه الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ وتردّد إليه. فقال له: لا بدّ أن يتسلطن الأمير بيبرس البندقداريّ- فأخبر البندقداريّ بذلك، فاعتقده وتردّد إليه.
فلمّا تسلطن بعد قتل المظفّر قطز، صار له فيه عقيدة عظيمة، وقرّبه وأدناه وبنى له زاوية بجبل المزّة، وزاوية بظاهر بعلبك، وزاوية بحماه، وزاوية بحمص، وزاوية خارج القاهرة بخطّ زقاق الكحل، ووقف عليها أحكارا [يجيء منها] في السنة ثلاثون ألف درهم، وجعل لجميع هذه الزوايا أوقافا دارّة. وكان ينزل إليه ويزوره في الأسبوع مرّة ومرّتين وثلاثا على قدر ما يتّفق، ويطلعه على غوامض أسراره ويستشيره في أموره ولا يخرج عن رأيه ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته. وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين [محمد] بن رضوان الناسخ [الكامل]:
(1) مرّ بنا أنّ الأشكري صورة معرّبة من اسم. Lascaris
(2)
مات سلامش بالقسطنطينيّة سنة 690 (العبر 5/ 367).
(3)
الوافي 13/ 333 (413) - حسن المحاضرة 1/ 521 (48) - طبقات الشعرانيّ 2/ 2 (302) مسالك الأبصار المخطوط، 8/ 167، والزيادات منه.
ما الظاهر السلطان إلّا مالك ال
…
دنيا: بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في
…
وسط السماء لكلّ عين تنظر:
لمّا رأينا الخضر يقدم جيشه
…
أبدا، علمنا أنّه الإسكندر
وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبر به. فلمّا حاصر الملك الظاهر أرسوف- وهي من أوائل فتوحاته- سأله متى تؤخذ؟ - فعيّن له اليوم الذي تؤخذ فيه فوافق.
وكذلك في قيساريّة وصفد.
ولمّا عاد الظاهر من دمشق إلى جهة الكرك سنة خمس وستّين وستّمائة، استشاره في قصده.
فأشار عليه أن لا يقصده وأن يتوجّه إلى الديار المصريّة. فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده. فلمّا كان ببركة زيزاء (1) تقطّر فانكسرت فخذه وأقام مكانه أيّاما كثيرة، ثمّ حمل في محفّة إلى غزّة، ثمّ إلى الديار المصريّة على أعناق الرجال.
ولمّا قصد الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته اجتاز الشيخ خضر ببعلبك ونزل [431 أ] بالزاوية التي عمّرت له بظاهرها، وخرج نوّاب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته. قال [ابن] اليونيني: وكنت فيمن خرج. فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيت يسأله عن أخذ حصن الأكراد فقال ما معناه: تؤخذ في مدّة أربعين يوما- أو قال: قلت لابني- يشير إلى الملك الظاهر- إنّك تأخذه في أربعين يوما. فوافق ذلك وأخذه في مدّة أربعين يوما.
ولمّا توجّه الملك الظاهر إلى الروم، سأل الشيخ خضر بعض أصحابه عمّا يتمّ للملك الظاهر فأخبر بأنّه يظفر ثمّ يعود إلى دمشق ويموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما- فاتّفق ذلك.
فلهذا وأشباهه تمكّن من السلطان حتّى أطلق يده وصرّفه في مملكته، يحكم ولا يحكم عليه ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير. فاتّقى جانبه الخاصّ والعامّ، حتّى الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين عليّ بن حنّا، وملوك الأطراف، وملوك الفرنج وغيرهم. وكان يكتب إلى صاحب حماة وجميع الأمراء إذا طلب حاجة: الشيخ خضر نيّاك الحمارة.
وهدم بدمشق كنيسة اليهود ونهبها. وكان فيها من الآلات والفرش ما لا يعبّر عنه، وصيّرها مسجدا، وبنى بها المحاريب، وعملها سماعا (2)، ومدّ بها سماطا.
ودخل كنيسة الإسكندريّة، وهي معظّمة عند النصارى ويعدّونها كرسيّا من كراسيّهم ويعتقدون فيها البركة ويزعمون أنّ رأس يحيى بن زكريا فيها وهم يسمّونه يحيى المعمداني، فنهبها وصيّرها مسجدا وسمّاها المدرسة الخضراء وأنفق في تعميرها من بيت المال مالا كثيرا.
وهدم بالقدس كنيسة النصارى المعروفة بالمصلّبة، وهي جليلة عندهم، وقتل قسّيسها بيده وعملها زاوية.
وكان ربع القامة كثّ اللحية يتعمّم عشراوي (3)، وفي لسانه عجمة. وكان واسع الصدر كريم الشمائل يعطي ويفرّق الدراهم والذهب ويعمل الأطعمة الفاخرة في قدور مفرطة
(1) انظر السلوك، 1/ 555، ولم يعرّف بهذه البركة، ونفهم أنّها بين الفوّار والكرك.
(2)
لم نفهم كلمة سماعا، ولعلّها تعني: محلّ للإنشاد الدينيّ.
(3)
عشراويّ: نسبة إلى عشائر العربان.
في الكبر بحيث يحمل القدر الواحدة الجماعة من الحمّالين.
وكانت أحواله عجيبة لا تكيّف ولا تنتظم والأقوال فيه مختلفة: فمن الناس من أثبت صلاحه، ومنهم من رماه بالعظائم [والله أعلم بحقيقة حاله].
وما برح على ذلك إلى ثاني عشر شوّال سنة إحدى وسبعين وستّمائة. فبعث إليه الملك الظاهر الأمير قشتمر العجميّ لإحضاره. فلمّا طلبه للحضور إلى القلعة أنكر ذلك لأنّه لم يكن له به عادة. فعرّفه ما هم فيه فحضر معه. فلمّا دخل لم يجد ما يعهده، وكان السلطان قد تغيّر عليه، وأحضر من دمشق من أصحابه من يحاقفه على أمور نقلت إليه ويقابله عليها. وقد قعد وعنده من أكابر الأمراء فارس الدين الأتابك، وبدر الدين بيسريّ، وسيف الدين قلاوون. فقعد الشيخ خضر منتبذا منهم. فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق. فشرعوا في القول ونسبوه إلى قبائح من الزنا واللواط، ورموه بأمور عظيمة لا تكاد تصدر من مسلم. فقال: ما أعرف ما تقولونه. ومع هذا فأنا ما قلت لكم إنّي رجل صالح. فأنتم قلتم هذا. فإن كان ما يقول هؤلاء صحيحا فأنتم كذبتم.
فقام السلطان ومن معه من عنده وقالوا: قوموا بنا لا نحترق بمجاورته! - وتحوّلوا إلى طرف الإيوان بعيدا منه. فقال السلطان: إيش رأيكم في أمره؟
فقال الأتابك: هذا مطّلع على أسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنّه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه.
فوافقه الحاضرون على ذلك، وقالوا: ببعض ما قد قيل عنه يباح دمه.
ففهم ما هم فيه. فقال للسلطان: اسمع ما أقول لك: أنا أجلي قريب من أجلك، وبيني وبينك مدّة أيّام يسيرة، من مات لحقه صاحبه عن قريب.
فوجم السلطان لذلك وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟
فلم يقل أحد منهم شيئا. فقال: هذا يحبس في موضع لا يسمع له فيه حديث فيكون [431 ب] مثل من قد قبر وهو حيّ.
فقالوا: الذي رآه مولانا السلطان.
فحبسه في مكان مفرد بقلعة الجبل. ولم يمكّن أحدا من الدخول إليه إلّا من يثق به السلطان غاية الوثوق. ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة والأشربة والفواكه، والملابس تغيّر عليه كلّ وقت. وكان حبسه في ثاني عشر شوّال المذكور [سنة إحدى وسبعين وستّمائة].
فلم يزل في سجنه على ذلك إلى أن خرج السلطان لأخذ بلاد الروم في العشرين من شهر رمضان سنة خمس وسبعين وتركه محبوسا. فمات يوم الخميس سادس المحرّم سنة ستّ وسبعين وستّمائة. وأخرج يوم الجمعة من سجنه بقلعة الجبل ميّتا، فسلّم إلى أهله فحملوه إلى زاويته خارج باب الفتوح بخطّ زقاق الكحل قريبا من الجامع الظاهريّ. فغسّل بها، وقد نيّف على خمسين سنة.
واتّفق أنّ السلطان لمّا عاد من بلاد الروم كتب بالإفراج عنه وجهّزه على البريد، فوصل البريد بعد موته. ولم يعش السلطان بعده سوى عشرين يوما ومات في سابع عشرين محرّم المذكور، فكان كما قال الشيخ خضر.
ويقال إنّ سبب تغيّر السلطان عليه مع ما تقدّم ذكره أنّه أعطاه من تحف قدمت عليه من اليمن
كرّا (1) يمانيّا مليحا إلى الغاية فدفعه الشيخ خضر لشابّ أمرد، فبلغ ذلك الأمير بدر الدين بيليك النائب، وكان قد ثقل عليه أمر الشيخ خضر لكثرة تسلّطه حتى لقد قال له مرّة بحضرة السلطان:
كأنّك تشفق على السلطان وعلى أولاده مثلما فعل قطز بأولاد المعزّ أيبك؟ - فأسرّها النائب في نفسه، وعرّف السلطان خبر الكرّ.
وقال الشهاب أحمد بن يحيى بن فضل الله كاتب السرّ: حكى لي والدي قال: كان الشيخ خضر عظيم المكانة عند الملك الظاهر لا يخالفه في شيء. وكان جريئا باللسان واليد إلى غاية، فضاق منه الوزير بهاء الدين عليّ بن حنّا ضيقا عظيما ولم يجد له سبيلا إلى إبعاده. فشرع في التحيّل عليه. وكانت بدمشق امرأة تعرف ببنت ابن نظيف بارعة في الحسن خالية من الزوج محبّة لأهل الخير. فأتى الشيخ خضر دمشق في بعض أسفاره، فسمعت به وبعثت إليه بأنواع من المأكل، ثمّ دعته إلى دار لها لضيافة عملتها له.
فجاءها وأقام عندها أيّاما في مآكل وأوقات طيّبة لا ريبة فيها. فبلغ ذلك ابن حنّا فجعله سلّما إلى ما يريد، تسلّق منه على الشيخ خضر. وذلك أنّه خلّى ابن ابنه تاج الدين تزوّج بالمرأة وأبقاها في عصمته مدّة طويلة وحملها بالرغبة والرهبة على ما تقوله في الشيخ خضر، ثمّ طلّقها سرّا. وتحيّل جدّه على الملك الظاهر حتّى ألقى في أذنه أنّ الشيخ خضر يشرب الخمر ويزني، وأنّه كان قد أحبّ امرأة من بنات ابن نظيف وأفسدها، وأنّتاج الدين تزوّجها ثمّ لم ينته عنها الشيخ خضر وبقي يأتيها، فطلّقها، وأنّها لو سئلت لأخبرت بالخبر.
فبعث الظاهر إلى نائبه بدمشق في ذلك فأحضر
المرأة وسألها وهي لا تعلم بتطليق تاج الدين لها، فقالت ما قرّر معها أن تقوله. فكتب بذلك إلى الظاهر. ثمّ أضيف إلى الشيخ خضر أقوال أخر ورتّبت له ذنوب لم تكن، وكان منه ما كان.
وقد رأيت أنا في أوراق عمّي رحمه الله يعني شرف الدين عبد الوهّاب (2) ابن فضل الله كاتب السرّ- نسخة المطالعة التي كتبت في ذلك، وفيها عظائم وممّا قيل فيها: وهذه المرأة باقية في عصمة الصاحب تاج الدين- لأنّهم لم يكونوا علموا بإيقاع الطلاق عليها-.
وقال فيه الشهاب ابن فضل الله: قدم من جبال الأكراد، وورد الحياض وراد، فاستخصب المرعى واستنجب المسعى، وتأكّدت له بالملك الظاهر صحبة نفعته لديه، ورفعته عند إفضاء الملك إليه، وحمد به زمانه النضر، وكان [ا] الملك الإسكندر والشيخ الخضر، ووسائله مقبولة، ورسائله للمصائد أحبولة، والأيّام معه، والأنام لدعوته مستمعة، حتى هبّت له بنكباء البأساء، ودبّت إليه دبيب ظلماء المساء، وأنبتت له من الوزراء الظاهريّة أصلالا أراقم، وأسقاما [432 أ] داؤها متفاقم، وكان قد ثقلت عليهم شفاعاته، ونقلت إليهم شناعاته، وما زالوا به حتى أخرجوا خبأه، وأسمعوا منه أيّ نبأة، وأحضرت امرأة تعرف ببنت ابن نظيف فقالت فيه كلاما، وقادت إليه ملاما، فحمل إلى قلعة الجبل (3)، واعتقل حتى هيّئ له بيته في المقابر ونقل، إلّا أنّه مات غير مخترم [وتاب و] لم ير غير مبجّل محترم. وكان موته بدنّو أجل الملك الظاهر منذرا، وكان قد أنذره به وكان منه حذرا.
(1) الكرّ بالفتح والضمّ: فصلة من قماش تصنع منها العمائم (دوزي).
(2)
هذا التوضيح من المقريزي، أمّا بقيّة الكلام فمنقول عن المسالك.
(3)
في المسالك: فحمل إلى القلعة واعتقل.