الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وركبهم دين ثقيل حتى احتاج بعضهم في سنة ستّ وسبعين وخمسمائة إلى بيع تربتهم بالقرافة. ثمّ مضوا إليها وحفروا القبر الذي فيه حظيّة أبيهم المذكورة وغربلوا ما تحتها من التراب فوجدوا فيه من الذهب المسبوك ثلاثمائة وعشرين مثقالا. ثمّ باعوا رخام القبر والتابوت الساج والتربة حتّى وفوا ما عليهم من الدين. فسبحان محيل الأحوال!
1077 - جعفر بن الفرات [308 - 392]
(1)
[380 أ] جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، الوزير أبو الفضل، ابن الوزير أبي الفتح، المعروف بابن حنزابة، البغداديّ الأصل، المصريّ الدار والوفاة.
وزر أبوه للمقتدر في السنة التي قتل فيها المقتدر (2). وولد أبو الفضل في ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثمائة. وسمع من محمّد بن هارون الحضرميّ والحسن بن محمّد الداركي الأصبهانيّ، ومحمد بن زهير الأيليّ، ومحمد بن حمزة بن عمارة، وأبي بكر محمد بن جعفر الخرائطيّ، ومحمد بن سعيد الحمصيّ وجماعة.
وكان يذكر أنّه سمع من أبي القاسم البغويّ (3) مجلسا ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغنيته. وحدّث وأملى. وقدم عليه الدارقطنيّ، وذلك أنّه كان يريد تصنيف مسند (4)، فلزمه الدارقطنيّ
وحصّل منه مالا كثيرا وروى عنه أحاديث. قال السّلفي (5): كان من الحفّاظ الثقات المتبجّحين بصحبة أصحاب الحديث، مع جلاله ورئاسته، و [كان] يروي (6) بمصر في حال الوزارة، ولا يختار على العلم وصحبة أهله شيئا، وعندي من أماليه فوائد، ومن كلامه على الحديث وتصرّفه الدالّ على حدّة فهمه ووفور علمه. وقد روى عنه حمزة الكناني الحافظ مع تقدّمه.
وقال الحسن بن أحمد بن صالح السبيعي (7):
قدم علينا حلب فتلقّاه الناس وكنت فيهم فعرّف أنّي محدّث، فقال لي:[أ] تعرف إسنادا فيه أربعة من الصحابة، كلّ واحد يروي عن صاحبه؟
قلت: نعم.
وذكرت له حديث السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزّى، عن عبد الله بن السّعديّ، عن عمر رضي الله عنهم، في العمالة (8)، فعرف لي ذلك، وصار به لي عنده منزلة. وله مسند روى منه الحرف الموفي ألفا من مسند كذا، والحرف
- الفوات: وكان ابن حنزابة يريد تصنيف مسند.
والدارقطني كان يكبر ابن الفرات بعامين.
(1)
الوافي 11/ 118 (202)؛ تاريخ بغداد 7/ 234 (3723)؛ وفيات 1/ 346 (133)؛ دائرة المعارف الإسلاميّة 3/ 791؛ معجم الأدباء 7/ 166؛ فوات الوفيات 1/ 292 (104)؛ سير أعلام النبلاء 16/ 484 (357).
(2)
قتل المقتدر سنة 320.
(3)
البغويّ المحدّث توفّي سنة 317 (تذكرة الحفّاظ رقم 738)، فعمر ابن الفرات إذ ذاك تسع سنوات.
(4)
الراغب في تصنيف المسند هو ابن الفرات، وفي-
(5)
الحافظ السلفي أحمد بن محمد الأصبهاني (ت 576):
محدّث انتهى إليه علوّ الإسناد (تذكرة الحفّاظ، رقم 1082، والسيوطي: حسن المحاضرة 1/ 354). وانظر ترجمته في المقفّى رقم 660.
(6)
في المخطوط: على ويروي. والتصويب من وفيات الأعيان (ترجمة 133) حيث التعبير أسلم: وكان يملي الحديث بمصر، وهو وزير. وفي معجم الأدباء 7/ 166: وكان عاليالحديث بمصر.
(7)
السبيعي الحافظ الحلبيّ: حدّث بحلب في مدّة سيف الدولة وتوفّي سنة 371 (تذكرة الحفّاظ، رقم 898).
(8)
في المخطوط: المعاملة. والتصويب من فتح الباري للعسقلاني (رقم 7163)، والعمالة بالضمّ والكسر:
الأجرة التي يأخذها القائم على أمور المسلمين من بيت المال.
الموفي خمسمائة من مسند كذا.
وكان يصوم، فإذا [أ] فطر نام نومة، ثمّ نهض فتوضّأ، ودخل بيت مصلّاه وصفّ قدميه إلى الغداة.
ولّاه الأمير أبو القاسم أونوجور ابن الإخشيد وزارة مصر بعد الحسين بن محمد بن علي الماذرائيّ في يوم الأربعاء سابع ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فدبّر الأمور، وعقد له مجلسا بداره في عشيّة كلّ خميس حضره القضاة والفقهاء والمحدّثون [
…
].
ولم يزل مدّة أيّام أونوجور وأيّام أخيه [299 أ] عليّ، وأيّام كافور الإخشيديّ. فلمّا مات كافور في عاشر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة انقسم أمر مصر بين أربعة: فأقيم الأمير أبو الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد في الإمارة، وعمره عشر سنين وعشرة أشهر، وجعل خليفته الحسن بن عبيد الله بن طغج (1) وهو بالرملة، وجعل على تدبير العساكر شمول الإخشيديّ، وعلى تدبير الأموال الوزير أبو الفضل. وقام كلّ من القوّاد في هوى نفسه وانفرد بما يريد. فقبض أبو الفضل على جماعة من الكتّاب، وأخذ البيعة على الجند لابنه أحمد بن جعفر بالإمارة على مصر والشامات والحرمين، واحتجّ بأنّه ابن بنت الإخشيد (2)، فوقع بينه وبين شمول، وكثرت الفتن، ولم يطق رضا الإخشيديّة (3) والكافوريّة
والأتراك وسائر العسكر، ولم يحملوا إليه ما عليهم من أموال الضمانات وطلبوا منه، فاضطرب الأمر عليه، فاختفى في يوم الثلاثاء ثاني عشر شوّال منها ولم يعرف له خبر إلى أن جمع الشريف أبو جعفر مسلّم بن [380 ب] عبيد الله الحسينيّ القوّاد والوجوه بداره في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، وأخرج الوزير إليهم في زيّ الاستتار بقلنسوة نوميّة ورداء ونعل. فاعتذر الجماعة إليه ووعدوه من أنفسهم النصرة والخدمة وعقدوا عليهم الوفاء له بذلك، وكتبوا له كتابا يتوثّق به.
ثمّ ركب من دار أبي جعفر إلى الجامع العتيق، وصلّى الجمعة، وأمر بالنداء بالحجّ في البرّ، وانصرف في جميع العسكر، وصار إلى أمّ عليّ ابن الإخشيد فسلّم عليها وعاد إلى داره، فنظر في أمور الناس، وأمر ونهى، وعزل وولّى. ولم يحجّ أحد من مصر في البرّ، ولا وفى بما عاهد عليه، ولا وفى له من حلف. وصارت أمور مصر إلى تلاش زائد، وضاعت الأموال، وتغيّرت النيّات، وافترق الناس: فطائفة خرجت من مصر إلى الرملة ولحقت بالحسن بن عبيد الله بن طغج تضرّب على الوزير وترميه بالعظائم، وأكثر الناس قد كتبوا إلى بلاد المغرب يستحثّون الإمام المعزّ لدين الله على المسير إلى مصر، وأخذها لعدم من يقوم بأمرها.
وممّن كتب إليه الوزير أبو الفضل.
وطائفة قد خرجت إلى الغرب ولحقت بالمعزّ هذا، وقد اختلطت الأمور وكثر الإرجاف بمسير القرامطة لعلمهم بموت كافور. وقد كثرت الفتن ببلاد الشام، فصار من تغلّب صاحبه يتأمّر بدمشق، والشريف أبو محمد عبد الله أخو مسلّم بالرملة على محاربة الحسن بن عبيد الله بن طغج، وقد جمع معه ثمال العقيلي وطوائف من العرب ودعا إلى نفسه وتلقّب بالمهديّ.
(1) ابن طغج تأتي ترجمته برقم 1172.
(2)
في الترجمة الطويلة التي خصّصها ابن سعيد لمحمّد بن طغج أنّه زوّج ابنته من [أحمد بن] جعفر بن الفرات ابن وزير الراضي العبّاسي (المغرب، قسم مصر، 157).
وفي يتيمة الدهر 1/ 433 أنّ ابن الفرات كان «يدلّ بعرسه، وهي ابنة الإخشيد» .
(3)
في سير النبلاء: لم يقدر على إرضائهم.
فبينا هم في ذلك بمصر إذ ورد الخبر بقدوم الحسن بن أحمد الأعصم كبير القرامطة (1) إلى الرملة، وانهزام الحسن بن عبيد الله منهم إلى مصر. فشغب الأتراك على الوزير وطالبوه بأرزاقهم فاستتر منهم. ونهبوا داره ودور أصحابه وكتّابه فلم يزل مستترا إلى سلخ ذي الحجّة [سنة 357]، وقد قدم الحسن بن عبيد الله بن طغج، فخرج إليه، وهو نازل بالمختار في الجزيرة تجاه مصر. وركب معه في يوم الجمعة ثاني المحرّم سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة من المختار إلى الجامع العتيق. فلمّا انقضت الجمعة سار خلف الحسن، والناس تسبّه وتشتمه، فخاف عليه الحسن، وأمره أن يمضي إلى داره، فسار إليها.
ونزل الحسن بدار الإمارة، وقبض على الوزير يوم الاثنين سادس المحرّم وعذّبه، وصادره على مال عظيم باع فيه أملاكا كثيرة. وتوسّط أمره الشريف مسلّم فأطلعه إلى داره [381 أ] موكّلا به، فأقام إلى أن أطلق في آخر صفر.
وسار الحسن بن عبيد الله إلى الرملة في ثالث ربيع الآخر ومعه شمول وجماعة من القوّاد، فخلت له البلاد، إلّا أنّ الأخبار وردت بمسير عساكر المعزّ مع القائد جوهر في جمادى الآخرة، فأنفذ أهله إلى الأشمونين مع الشريف عيسى بن عبيد الله أخي مسلّم، وجمع الناس وشاورهم فاتّفقوا على مراسلة جوهر. ثمّ اجتمعوا على محاربته، وأن يولّوا عليهم نحرير شويزان. ثمّ انحلّ ذلك وعادوا إلى المراسلة بالصلح، وكانت رسل القائد جوهر ترد سرّا إليه.
فسار الشريف مسلّم والقاضي أبو طاهر في جماعة إلى القائد جوهر في يوم الاثنين ثامن عشر
رجب [سنة 358] بتقرير الوزير، وعادوا في أوّل شعبان بكتاب جوهر إلى جماعة أهل مصر، وبكتابه إلى الوزير. وخاطبه فيه بالوزارة بعد ما امتنع من ذلك، وقال للشريف مسلّم: كيف أخاطبه بالوزير، وما وزر لخليفة قطّ؟
فما زال الشريف به حتّى خاطبه بالوزارة.
فاجتمع الناس عنده لقراءة كتاب جوهر، وقد نقض الإخشيديّة والكافوريّة حديث الصّلح، وأقاموا عليهم نحرير شويزان، وانفضّوا. وخرجوا للقتال في عاشر شعبان فقتل كثير منهم.
وعبر جوهر إلى مصر، ونزل بمناخه حيث القاهرة اليوم في سابع عشر [شعبان 358]، فخرج إليه فيمن خرج إلى لقائه بالجيزة، فصاح بعض حجّاب جوهر بالناس: الأرض! إلّا الشريف والوزير!
فاستمرّ به جوهر على قرارته، فكان يركب في كلّ يوم إلى القائد جوهر ويلقاه بمناخه فيقبل جوهر منه ما يشير به ويعمل بمقتضاه. وجلس معه في مجلس المظالم كلّ يوم سبت إلى أن ورد عليه كتاب المعزّ في ذي الحجّة [سنة 358]. فبعث ابنه أحمد بن جعفر في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة إلى بلاد المغرب بهديّة إلى المعزّ.
فلمّا قدم القرامطة لقتال جوهر، وكلّ القائد جوهر بالوزير أبي الفضل خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث كان. ثمّ أمره في رابع صفر سنة إحدى وستّين [وثلاثمائة] أن يخرج من داره بمصر، وأن يقيم بالقاهرة، فبنى بها دارا سكنها بعده الوزير يعقوب بن كلّس. وردّ إليه جوهر تدبير الأموال في شهر ربيع الآخر إلى أن قدم المعزّ لدين الله في سابع شهر رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة، وردّ الأمور إلى يعقوب بن كلّس وعسلوج بن الحسن.
(1) الأعصم القرمطيّ: ترجمة 1146.
وتعطّل أبو الفضل إلى أن شكاه ابنه أحمد إلى المعزّ في ربيع الآخر سنة خمس وستّين [وثلاثمائة]، فاستأذن له أبو إبراهيم إسماعيل بن موسى الحسني على المعزّ، فدخل عليه، وشكا ابنه وعقوقه [381 ب] فقبل قوله. وعاد فأقام متعطّلا عن العمل إلى أن كانت غرّة شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [ف] ردّ الخليفة العزيز بالله أبو منصور نزار ابن المعزّ تدبير الأمور إليه، وأمر الكتّاب كلّهم أن يمتثلوا ما يأمرهم به، فركب جميعهم إليه وصاروا إلى داره.
فجلس بها [و] أمر ونهى، وتحدّث في الدواوين إلى نصف شعبان منها فاستعفى من ذلك، فتقدّم العزيز بإعفائه ومحاسبته فحوسب وألزم بمال من قبل الضياع التي حلّها وعقدها تخطيطه في الارتفاع. ثمّ خرّج عليه خراج ضياعه بالشام وضيّق عليه بسببه ولحقه منه عنت شديد.
وأحيل عليه في سنة أربع وثمانين أصحاب منصور الجوذريّ فشدّدوا عليه في المطالبة ومدّوا أيديهم إليه، ورموه عن مركوبه إلى الأرض، ففرّ منهم والتجأ إلى دار القائد أبي عبد الله الحسين بن البازيار، وقد انكسر إصبعه، وطلبوا [ا] بنه فوثبوا به. فقام في أمره القائد حتى سكتوا عنه. فلمّابلغ ذلك العزيز بالله أنكره.
وما زال ملازما داره حتى مات بها في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين (1) وثلاثمائة عن اثنتين وثمانين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيّام، فجعلت في فيه ثلاث شعرات من شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ابتاعها بمال عظيم، وكانت عنده في درج ذهب محتزمة الأطراف بالمسك،
فأوصى أن تجعل في فيه بعد موته [300 أ]، ففعل ذلك. وصلّى عليه القاضي حسين بن [علي بن] النعمان في داره، ودفن بها، وحضر جنازته سائر قوّاد أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبي علي منصور ابن العزيز، وسائر أولياء الدولة وأكابر الناس.
قال المسبّحي (2): وكان رحمه الله من الفضل والعلم والدين والتصرّف في سائر العلوم بمنزلة لم يشاهد مثلها، وحدّث وأسمع وأملى عدّة مجالس، وعمل مستخرجا على صحيحي البخاري ومسلم، وكان كثير البرّ والصّلات لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الصدقة شديد الغيرة على حرمه، مبالغا في الحجاب لهم، لما تمّ عليه من أولاده الكبار، وذلك أنّ فيهم من واقع أخته وأحبلها. فمنع أولاده الذكور من رؤية أمّهاتهم وأخواتهم.
حدّثت طرف المغنّية جارية ابنه أبي محمّد قال [ت]: كنت في منزلي بجواره بعد وفاة مولاي أبي محمّد أنا وابنتي وعدّة جوار يخدمنني.
فلمّا كان نصف الليل إذا بالخدم قد دخلوا عليّ وقالوا: سيّدنا يستدعيك.
فلبست ثيابي ونهضت معهم، فصرفت إليه أنا وابنتي وجوارينا، فإذا به في مجلس، فقبّلت يده أنا وابنتي، فأمر [نا] بالجلوس وباسطنا ثمّ قال: يا بنيّة، تحفظين صوتا [382 أ] كان يغنّي في دارنا؟
فقلت: إن رأى سيّدنا أن يذكره، فعل.
فقال [الطويل]:
أهاجك بالبيداء رسم ومنزل
…
أضرّ به طول البلى فهو محول
(1) في ترجمة الوفيات 1/ 349: إحدى وتسعين، وكذلك في تاريخ بغداد رقم 3723. وإذا كان مولده سنة 308 كما قيل في أوّل الترجمة، فعمره عند الوفاة 84 سنة.
(2)
المسبّحي المؤرخ (366 - 420) محمد بن عبيد الله:
ألّف كتابا في تاريخ مصر. انظر ترجمته في المقفّى (رقم 2632).
وقفت به في الركب أبدي تجمّلا
…
فأبدى الهوى ما كان يخفي التجمّل
فغنّيته إيّاه بعد أن استدعيت العود، فما هو إلّا أن بدأت به حتى وضع كمّه على وجهه وانتحب انتحابا شديدا متداركا. فتوقّفت عن الغناء رحمة له فقال: غنّي! - وأخذ في شأنه من البكاء. ثم قال: حسبك! انصرفي!
فقبّلت يده وقمت. فأخذ الخدم بيدي إلى قاعة قد فرشت وأعدّ فيها سائر ما يحتاج إليه الناس من الآلات والمأكل وغير ذلك، وجيء بابنتي وجواريّ إليّ، ثمّ أغلق علينا الباب. فو الله ما خرجت رجلي منها إلى أن توفّي رحمه الله.
وكان قد تنسّك وعمره أربعون عاما فكان يصوم، وإذا أفطر نام ثمّ نهض وصلّى إلى الصبح.
وكان يحمل كلّ سنة إلى بني حسن وحسين المال والبرّ والدقيق والدهن وغير ذلك، فلا يزالون في الدعاء له والثناء عليه، فمكّنوه لهذا من دفن أمّه بدار في جوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا حضرته الوفاة أوصى أن يدفن عند أمّه فحمل إلى المدينة النبويّة ودفن عندها.
ومن شعره [البسيط]:
من أخمل النفس أحياها وروّحها
…
ولم يبت طاويا منها على ضجر
إنّ الرياح إذا اشتدّت عواصفها
…
فليس ترمي سوى العالي من الثمر (1)
ورآه سيبويه الموسوس بعد موت كافور في موكب عظيم، فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتّابه ولفّق أصحابه وحشد بين يديه حجّابه [382 ب]، وشمّم أنفه (2)، وساق العساكر خلفه؟
أبلغه أنّ الإسلام طرق، أو أنّ ركن الكعبة سرق؟
فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر ومدبّر الدولة.
فقال: يا عجبا! أليس بالأمس نهب الأتراك داره، ودكدكوا آثاره، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيرا، ثمّ قد صيّروه أميرا؟ ما عجبي منهم كيف نصبوه، بل عجبي كيف تولّى أمر عدوّهم ورضوه.
وكان قد زوّج ابنه أبا العبّاس (3) بابنة الوزير يعقوب بن كلّس، فدخل أبو العبّاس علي ابن كلّس يوما، فقال له: يا أبا العبّاس، ما أنا بأجلّ من أبيك ولا بأفضل! أتدري ما أقعد أباك خلف الناس (4)؟
شيل أنفه! بالله، يا أبا العبّاس، لا تشل أنفك كأبيك (5)! أتدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع؟
وتدري ما الإدبار؟ كسل وترافع!
وكان أبو الفضل يهوى النظر إلى الحشرات والأفاعي والحيّات والعقارب وأمّ أربع وأربعين ونحو ذلك [300 ب]، وكان له في داره قاعة لطيفة فيها هذه المذكورات، ولها قيّم وفرّاش وحاو يتعاهدها،
وتراه يصغي للحديث بسمعه
…
وبقلبه، ولعلّه أدرى به
(1)
أورد له ابن سعيد في المغرب- قسم مصر، 252 - ثلاثة أبيات أخرى [الكامل]:
من لي بصحبة من إذا أغضبته
…
وسخطت كان الحلم ردّ جوابه!
وإذا طربت إلى المدام سكرت من
…
أخلاقه وطربت من آدابه
-
(2)
في المخطوط: وشمّر أنفه، والإصلاح من معجم الأدباء 7/ 168.
(3)
هذا الابن هو الفضل (ياقوت، أدباء 7/ 163)، وله ابن آخر يلقّب بسيدوك. ومرّ بنا ابن ثالث اسمه أحمد.
وخصّص المقريزي ترجمة وجيزة لابن آخر يدعى العبّاس وقال إنّه توفّي بمصر. (المقفّى رقم 1430).
(4)
في معجم الأدباء، خلف الباب.
(5)
في النبلاء: بأبيك.