الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد كان طلب منه ذلك قبل قتل ابن الزبير، فقال:
حتّى يجتمع الناس! وكتب بعد قتل ابن الزبير إلى عبد الملك يطلب الأمان له ولمن معه فكتب إليه بذلك، فأتي به الحجّاج وبايع لعبد الملك. وبعث لأسماء بنت أبي بكر أمّ عبد الله أن تأتيه، وقد ذهب بصرها فأبت، فأرسل إليها: لتجيئنّ أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك!
فقالت: والله لا آتيك حتّى تبعث إليّ من يسحبني بقروني!
فأتى رسوله فأخبره، فقال: يا غلام ناولني سبتيّتي. فناوله نعليه فقام حتّى أتاها، فقال لها:
كيف رأيت الله صنع بعدوّ الله؟
قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ في ثقيف كذّابا ومبيرا، فأمّا الكذّاب [321 ب] فقد رأيناه (1). وأمّا المبير فأنت ذاك (2)» ! .
فخرج عنها وسار من مكّة إلى المدينة، وقد استعمله عبد الملك على الحرمين مكّة والمدينة.
فقدمها وأقام بها نحو الشهرين يسيء إلى أهلها ويستخفّ بهم، ويقول لهم: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه!
وختم على أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم. ثمّ عاد إلى مكّة وقال: الحمد لله الذي أخرجني من أمّ نتن! أهلها أخبث أهل بلد، وأغشّه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة. والله لولا ما كان ما بيني [وبينهم] من كتب أمير المؤمنين فيهم، لجعلتها
مثل جوف الحمار! إنّما هي أعواد يعوذون بها ورمّة قد بليت! حتّى متى يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله؟
فبلغ قوله جابر بن عبد الله، فقال: إنّ وراءه ما يسوءه. قال فرعون: أنا ربّكم الأعلى، فأخذه الله بعد أن أمطره.
وحجّ بالناس الحجّاج عامه، وهو على مكّة والمدينة واليمن واليمامة. وقيل: إنّ المدينة لم تضف إليه إلّا في سنة أربع وسبعين لمّا عزل عبد الملك طارق بن عمر عنها، وولّى الحجّاج عوضه، فعمل بالصحابة رضي الله عنهم ما تقدّم ذكره وأقام بها شهرا يستخفّ بحرمتها. وخرج منها معتمرا حتى قدم مكّة، فهدم بناء ابن الزبير الذي بناه في الكعبة وأعاد البناء الأوّل. فسدّ الباب الغربيّ، وأخرج الحجر من البيت وردم بالحجارة في الكعبة، حتى صار ما بها على ما هو عليه إلى اليوم.
[ولايته العراقين]
فلمّا كانت سنة خمس وسبعين، مات بشر بن مروان، فكتب إليه عبد الملك أن فد عليّ، فوفد عليه فولّاه العراق. وقيل: إنّ عهد الحجّاج أتاه وهو بالمدينة، وهذا أثبت. وأمره عبد الملك أن يبدأ بالكوفة، فنزلها ولم يأت البصرة خوفا منه على خالد بن عبد الله، فإنّ بشر بن مروان كان قد استخلفه عليها، وكان بين الحجاج وبين خالد عداوة. وكان الحجّاج قد عبث بآل أسيد بمكّة، وعبث خالد بثقيف بالبصرة. وكان الحجّاج يقول لمّا قدم الكوفة: غفر الله لأمير المؤمنين! لو أذن لي فقدمت على خالد لأخذت منه مثل خراج العراق!
(1) مروج الذهب 3/ 318: فهو المختار.
(2)
البصائر والذخائر 2/ 144 (490).
وجعل عبد الملك للحجّاج (1) العراق إلّا خراسان وسجستان. فسار من المدينة في اثني عشر راكبا على النجائب حتّى دخل الكوفة في شهر رمضان حين انتشر النهار. بعثه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وكان بشر بن مروان بعث المهلّب بن أبي صفرة لقتال الخوارج، فعصى عامّتهم المهلّب بعد موت بشر، وأتوا إلى الكوفة والبصرة، وقيل ذلك للحجّاج فبدأ الحجّاج بالمسجد.
قال عبد الملك بن عمير: بينما نحن جلوس نتحدّث في ناحية المسجد بالكوفة، إذ أتى آت فقال: هذا الحجّاج بن يوسف، قدم أميرا على العراق.
فاشرأبّت الناس نحوه، ثمّ أفرجوا إفراجة عن صحن المسجد، فإذا نحن به يمشي، عليه عمامة سوداء متلثّما بها متنكّبا قوسا عربيّة يؤمّ المنبر، فما زلت أرمقه بطرفي حتّى قعد على المنبر. وثاب إليه الناس، ولا يحدّر اللثام ولا ينطق حرفا. وأهل الكوفة يومئذ في حال حسنة وهيئة جميلة وعزّ ومنعة. وكان الرجل يدخل المسجد ومعه خمسة عشر وعشرون رجلا: بنيه ومواليه وأتباعه عليهم القوهيّة والخزون (2). وفي المسجد رجل يقال له:
عمير بن ضابي، لمّا رأى الحجّاج على المنبر قال لصاحب له: أتريد أن أخصيه لك؟
قال: اسكت! حتى تسمع ما يقولون.
فقال الناس بعضهم لبعض: لعن الله بني أميّة حيث يستعملون على العراق مثل هذا! وضيّع الله العراق حيث يكون مثل هذا عليها أميرا. فو الله لو
كان هذا كلّه كلاما ما كان شيئا!
والحجّاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلمّا رأى الحجّاج أنّ المسجد قد غصّ بأهله، قال: اجتمعتم؟
فلم يقل أحد شيئا، ثمّ قال الثانية: إنّي لا أعرف قدر اجتماعكم.
فقال رجل منهم: اجتمعنا، أصلح الله [322 أ] الأمير!
وكان قد أطال السكوت. وتناول محمد بن عمير بن عطارد الحصى ليحصبه، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمّه! والله إنّي لأحسب خبره كرؤياه!
فلمّا تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتثر من يده، وهو لا يعلم به من الخوف. فلمّا رأى الحجّاج عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه ونهض فقال [الوافر] (3):
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله إنّي لأحتمل الشرّ بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله. وإنّي لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنّي والله صاحبها. والله كأنّي انظر إلى الدماء ترقرق بين اللحى والعمائم!
ثم قال:
قد شمّرت عن ساقها فشمّري
…
ليس أوان عشّك فادرجي (4)
ثمّ قال:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم
…
[نام الحداة وابن هند لم ينم](5)
(1) في المخطوط: عبد الله بن الحجّاج، وعبد الله عوض عبد الملك.
(2)
القوهيّة: ثياب من القماش القوهيّ، المصنوع في قوهستان، أمّا الخزون فلم نعرفها.
(3)
جمهرة خطب العرب 2/ 288؛ العقد 4/ 119 - 120 و 5/ 17؛ مروج 3/ 332؛ البيان والتبيين 2/ 308.
(4)
تهذيب بدران 4/ 53؛ مجمع الأمثال 2/ 40؛ الكامل (سنة 75).
(5)
هذا الشطر انفرد به المقريزي.
قد لفّها الليل بسوّاق حطم
…
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر وضم (1)
ثمّ قال:
قد لفّها الليل بعصلبيّ
…
[أروع خرّاج من الدّوي](2)
مهاجر ليس بأعرابيّ
ثمّ قال:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا
…
وجدّت الحرب لكم فجدّوا (3)
والقوس فيها وتر عرد
…
مثل جران العود أو أشدّ (4)
لا بدّ ممّا ليس منه بدّ
إنّي والله يا أهل العراق و [معدن] الشقاق والنفاق، ومساويء الأخلاق، ما أغمز تغماز التّين ولا يقعقع لي بالشّنان (5)، ولقد فررت عن ذكاء (6)، وفتّشت على تجربة، وجريت من الغاية (7).
إنّ أمير المؤمنين كبّ كنانته، ثم عجم عيدانها فوجدني أمرّها عودا وأصلبها عمودا، وأشدّها مكسرا، فوجّهني إليكم ورماكم بي لأنّكم طالما أوضعتم في أودية الفتنة، واضطجعتم في منام الضلال، وسننتم سنن الغيّ. وايم الله! لأنجرنّكم
نجر العود، ولأقرعنّكم قرع المروة، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل!
إنّي والله ما أعد إلّا وفيت، ولا أهمّ إلّا أمضيت، ولا أخلق إلّا فريت (8). فإيّاي وهذه الزرافات والجماعات! وقال وقيل وما تقول، وفيم أنتم وذاك! أما والله لتستقيمنّ على طريق الحقّ أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده.
يا أهل العراق، إنّما أنتم لكأهل قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل: 112]، فأتاها وعيد القرى من ربّها، فاستقيموا واعتدلوا ولا تميلوا! وبايعوا وشايعوا، واخضعوا واسمعوا وأطيعوا وأذعنوا! واعلموا أنّه ليس منّي الإكثار ولا الإهذار، ولا منكم الفرار ولا النّفار، إنّما هو انتضاء السيف، ولا يغمد في الشتاء ولا الصيف، حتى ينتهى إلى أمر الله وطاعته، ويذلّ أمير المؤمنين صعبكم ويقيم أودكم وصعركم. ثمّ إنّي وجدت الصدق مع البرّ، ووجدت البرّ في الجنّة.
ووجدت الكذب مع الفجور، ووجدت الفجور في النار. وإنّ أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم لمجاهدة عدوّكم مع المهلّب بن أبي صفرة. وقد أمرت لكم بذلك وأجّلتكم ثلاثا وأعطيت الله عهدا يأخذني به ويستوفيه منّي. وإنّي أقسم بالله لا آخذ رجلا يتخلّف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيّام إلّا ضربت عنقه! لا يبلغني أنّ أحدا تحلّف يوما واحدا بعد أخذ عطائه إلّا ضربت عنقه وأنهبت ماله! أقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام!
فقام الكاتب فقرأ: باسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك [بن مروان] أمير المؤمنين
(1) قال المرصفي: رغبة الآمل 4/ 75: هذا الرجز قاله رشيد بن رميض العنزيّ في شريح بن ضبيعة.
(2)
هذا الشطر ساقط من المخطوط.
(3)
في العقد 4/ 121: ما علّتي وأنا شيخ إدّ؟
(4)
في المروج والكامل والعقد: مثل ذراع البكر.
(5)
الشنان ج شنّ: الجلد اليابس إذا صوّت نفرت منه الإبل.
(6)
الذكاء: تمام السن أو حدّة الطبع (الكامل للمبرّد 1/ 221)، وفر الدابّة: كشف أسنانها ليعرف عمرها.
(7)
في العقد: وأجريت إلى الغاية القصوى.
(8)
في اللسان (خلق): ما خلقت إلّا فريت. وخلق الأديم:
قدّره قبل أن يقطع منه قربة أو خفّا.