الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بخلائهم وأمطرهم المطر في غير حينه. (قال: ) فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجّاج فأمرني بالمصير إليه، فألفيته جالسا على فراشه، والسيف منتضى في يده، فقال لي:
«ادن! » فدنوت شيئا، ثمّ قال لي:«ادن! » فدنوت شيئا، ثمّ صاح الثالثة:«ادن، لا أبا لك! » فقلت:
ما بي إلى الدنوّ من حاجة وفي يد الأمير ما أرى!
فأضحك الله سنّه وأغمد سيفه عنّي، وقال:
اجلس! ما كان من حديث الخبيث؟
[نماذج من علوّ نفسه]
فقلت: أيّها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني- ثمّ حدّثته الحديث، فلمّا صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده، أعرض عنّي بوجهه، وأومأ إليّ بيده وقال:«لا تسمّه! » ثمّ قال: [335 ب] إنّ للخبيث نفسا، وقد سمع الأحاديث.
ويقال: إنّ الحجّاج كان إذا استغرب ضحكا، والى بين الاستغفار. وكان إذا صعد المنبر تلفّح بمطرفه، ثمّ تكلّم رويدا فلا يكاد يسمع، ثمّ يتزيّد في الكلام حتّى يخرج يده من مطرفه، ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد.
وكان يطعم في كلّ يوم على ألف مائدة، على كلّ مائدة ثريد [وجنب من شواء وسمكة طريّة ويطاف به في محفّة على تلك الموائد ل] يتفقّد أمور الناس، وعلى كلّ مائدة عشرة، ثمّ يقول: يا أهل الشام، أكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم- وكان له ساقيان، أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللبن (1).
[مدح ليلى الأخيليّة له]
وذكر أبو الحسن المدائنيّ عمّن حدّثه عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاصي (2)، قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجّاج، فدخل يوما ودخلت إليهما، وليس عند الحجّاج أحد غير عنبسة، فقعدت، فجيء الحجّاج بطبق فيه رطب فأخذ الخادم منه شيئا فأتاني به، ثمّ جيء بطبق آخر فأتاني الخادم منه بشيء، ثمّ جيء بطبق آخر وآخر حتّى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلّا جاءني منه بشيء، حتى ظننت أنّ ما بين يديّ أكثر ممّا عندهم.
ثمّ جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب.
فقال الحجّاج: أدخلها.
فدخلت، فلمّا رآها طأطأ رأسه حتّى ظننت أنّ ذقنه قد أصاب الأرض. فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت إليها فإذا هي امرأة قد أسنّت حسنة الخلق، وإذا هي ليلة الأخيليّة، فسألها الحجّاج عن نسبها فانتسبت له. فقال لها: يا ليلى، ما الذي أتاني بك؟
قالت: إخلاف النجوم، وقلّة الغيوم، وكلب البرد، وشدّة الجهد. وكنت لنا بعد الله الرفد!
فقال لها: صفي لنا الفجاج.
فقالت: الفجاج مغبرّة، والأرض مقشعرّة، والمنزل معتلّ، وذو العيال مختلّ، والمال للقلّ، والناس مسنتون، ورحمة الله يرجون، قد أصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعا ولا ربعا، ولا عافظة ولا نافطة (3)، أذهبت الأموال، ومزّقت
(1) العقد 5/ 13 مع بعض الاختلاف، والزيادة منه.
(2)
عنبسة بن سعيد بن العاص الأموي: انقطع إلى الحجّاج وهو أخو عمرو الأشدق، والخبر في الوفيات 2/ 47.
(3)
أبلط القوم: لصقوا بالأرض من شدّة الفقر. والعافطة النعجة والنافطة: العنزة. وفي الأغاني 11/ 226: لم-
الرجال وأهلكت العيال.
ثمّ قالت: إنّي قد قلت في الأمير قولا.
قال: هاتي.
فأنشأت تقول [الطويل]:
أحجّاج، لا يفلل سلاحك، إنّما ال
…
منايا بكفّ الله حيث يراها
أحجّاج، لا تعطي العداة مناهم
…
ولا الله يعطي للعداة مناها
إذا هبط الحجّاج أرضا مريضة
…
تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها
…
غلام إذا هزّ القناة سقاها (1)
فقال: لا تقولي: غلام قولي: همام!
(قالت: )
5 سقاها فروّاها بشرب سجاله
…
دماء رجال حيث مال حشاها
إذا سمع الحجّاج رزّ كتيبة
…
أعدّ لها قبل النزول قراها (2)
أعد لها مسمومة فارسية
…
بأيدي رجال يحلبون صراها (3)
فما ولد الأبكار والعون مثله
…
ببحر ولا أرض يجفّ ثراها
فقال الحجّاج: قاتلها الله! والله ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها.
ثمّ التفت إلى عنبسة [بن سعيد] فقال: والله إنّي لأعدّ للأمر عسى أن لا يكون أبدا.
والتفت إليها فقال: حسبك!
فقالت: قد قلت أكثر من هذا.
فقال: حسبك، ويحك، حسبك! (ثمّ قال: ) يا غلام، اذهب بها إلى فلان وقل له: اقطع لسانها.
فذهب بها فقال: يقول لك الأمير: اقطع لسانها.
فاستدعى الحجّام، فالتفتت إليه وقالت:
ثكلتك أمّك، أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالبرّ والصلة.
فبعث إلى الحجّاج يستثبته، فاستشاط غضبا وهمّ بقطع لسانه، فقال:«ارددها! » فلمّا دخلت عليه قالت: «كاد والله أيّها الأمير يقطع مقولي» .
ثمّ أنشأت تقول [البسيط]:
حجّاج، أنت الذي ما فوقه أحد
…
إلّا الخليفة والمستغفر الصمد
[336 أ] حجّاج أنت شهاب الحرب إن
…
لقحت وأنت للناس نور في الدجى يقد
فأقبل على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟
قالوا: لا والله أيّها الأمير، إلّا أنّنا لم نر امرأة قطّ أفصح لسانا، ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجها، ولا أرصن شعرا منها.
فقال: هذه ليلى الأخيليّة التي مات توبة بن الحميّر الخفاجي في حبّها.
ثمّ قال لها: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال توبة فيك.
قالت: نعم، أيّها الأمير، هو الذي يقول [الطويل] (4):
وهل تبكين ليلى إذا متّ قبلها
…
وقام على قبري النساء الصوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها
…
وجاد لها دمع من العين سافح
- تدع لنا فصيلا ولا ربعا، والربع: فصل الربيع.
(1)
الداء العقام: الذي لا يرجى منه برء.
(2)
الرزّ بالكسر: صوت الرعد.
(3)
الصرى: البقيّة من اللبن في الضّرع.
(4)
انظر ديوان توبة بن الحمير ص ص 48 - 50 تحقيق خليل إبراهيم العطيّة بغداد 1968.
وأغبط من ليلى بما لا أناله
…
ألا كلّ ما قرّت به العين صالح
ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت
…
عليّ، وفوقي جندل وصفائح (1)
5 لسلّمت تسليم البشاشة، أو زقا
…
إليها صدى من جانب القبر ضابح (2)
فقال: زدينا.
فقالت: نعم، هو الذي يقول [الطويل] (3):
حمامة بطن الواديين ترنّمي
…
سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها
أبيني لنا، لا زال ريشك ناعما
…
ولا زلت في خضراء غضّ نضيرها
وأشرف بالقوز اليفاع لعلّني
…
أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا جئت ليلى تبرقعت
…
فقد رابني منها الغداة سفورها
الأبيات
…
فقال الحجّاج: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورك؟
قالت: أيّها الأمير، كان يلمّ بي كثيرا، فأرسل إليّ يوما:«إنّي آتيك» . ففطن الحيّ فأرصدوا له، فلمّا أتاني سفرت، فعلم أنّ ذلك لشرّ فلم يزد على التسليم والرجوع.
فقال: لله درّك! فهل رأيت منه شيئا تكرهينه؟
قالت: لا، والله الذي أسأله أن يصلحك، غير أنّه قال لي مرّة قولا ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فأنشأت أقول [الطويل]:(4)
وذي حاجة قلنا له: لا تبح بها
…
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
…
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والذي أسأله أن يصلحك، ما رأيت منه شيئا حتّى فرّق الموت بيني وبينه.
قال: ثمّ مه؟
قالت: لم يلبث أن خرج في غزاة، فأوصى ابن عمّ له: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة، فناد بأعلى صوتك [الطويل] (5):
عفا الله عنها، هل أبيتنّ ليلة
…
من الدّهر لا يسري إليّ خيالها
فخرجت وأنا أقول (6):
وعنه عفا ربّي وأحسن حاله
…
فعزّ علينا حاجة لا ينالها
قال: ثمّ مه؟
قالت: لم يلبث أن مات، فأتى نعيه.
قال: فأنشدينا بعض مراثيك فيه.
فأنشدت، ثمّ قال: سلي يا ليلي تعطي.
قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن.
قال: لك عشرون.
قالت: زد، فمثلك زاد [فأجمل].
قال: لك أربعون.
قالت: زد، فمثلك زاد فأفضل.
قال: لك ستّون.
قالت: زد، فمثلك زاد فأكمل.
قال: لك ثمانون.
قالت: زد، فمثلك زاد فتمّم.
قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنّها غنم!
(1) في الأغاني 11/ 229: ودوني تربة وصفائح.
(2)
الضبح: السواد من حرقة النار، وفي الأغاني: صايح، صوت الصدى.
(3)
الأغاني 11/ 198 والوفيات 2/ 48. وانظر ديوان توبة ص ص 27 - 41 من قصيدة في 41 بيتا.
(4)
انظر ديوان ليلى الأخيلية ص ص 95 - 96.
(5)
انظر ديوان توبة ص 92.
(6)
انظر ديوان ليلى ص 100.
قالت: معاذ الله أيّها الأمير! أنت أجود جودا، وأمجد مجدا، وأورى زندا من أن تجعلها غنما.
قال: فما هي ويحك؟
قالت: مائة ناقة برعائها.
فأمر لها بها، ثمّ قال: أيّ نسائي أحبّ إليك أن أنزلك عندها الليلة؟
قالت: ومن نساؤك أيّها الأمير؟
قال: أمّ الجلاس (1) بنت سعيد بن العاص الأمويّة [336 ب] وهند بنت أسماء بن خارجة الفزاريّة، وهند بنت المهلّب بن أبي صفرة العتكيّة.
فقالت: القيسيّة أحبّ إليّ- أرادت الفزاريّة لأنّ فزارة من قيس عيلان-[فدخلت عليها فصبّت حليها عليها حتّى أثقلتها لاختيارها إيّاها ودخولهاعليها دون من سواها](2).
وذكر المدائنيّ أنّ الحجّاج لم يكن يظهر منه لجلسائه بشاشة ولا سماحة في الخلق إلّا في يوم دخلت عليه ليلى الأخيليّة، فقال لها: بلغني أنّك مررت بقبر توبة بن الحمير فعدلت عنه. فو الله ما وفيت له، ولو كان هو بمكانك ما عدل عنك.
قالت: أصلح الله الأمير، إنّ لي عذرا.
قال: وما عذرك؟
قالت: إنّي سمعته يقول: ولو أنّ ليلى الأخيليّة
…
وكان معي نسوة قد سمعن قوله فكرهت أن أكذّبه.
فاستحسن الحجّاج قولها وقضى حوائجها
وانبسط في محادثتها، فلم نر منه بشاشة وأريحيّة داخلته مثل ذلك اليوم.
*** ويروى عن بعض الفقهاء قال (3): دعاني الحجّاج فسألني عن الفريضة المخمّسة، وهي:
أمّ، وجدّ، وأخت. فقال لي: ما قال فيها الصدّيق رضي الله عنه؟
قلت: أعطى الأمّ الثلث، والجدّ ما بقي لأنّه كان يراه أبا.
قال: فما قال أمير المؤمنين- يعني عثمان رضي الله عنه؟
قلت: جعل المال بينهم ثلاثا.
قال: فما قال ابن مسعود رضي الله عنه؟
قلت (4): أعطى الأخت النصف، والأمّ ثلث ما بقي، والجدّ الثلث لأنّه كان لا يفضّل أبا على جدّ.
قال: فما قال فيها زيد بن ثابت؟
قلت: أعطى الأمّ الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجدّ للذكر مثل حظ الأنثيين لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة.
(قال): فزمّ أنفه ثمّ قال: فما قال فيها أبو تراب؟
قلت: أعطى الأمّ الثلث، والأخت النصف، والجدّ السدس.
فأطرق ساعة ثمّ رفع رأسه، فقال: فإنّه امرؤ يرغب عن قوله (5).
وجلس الحجّاج يوما يأكل في جماعة، منهم
(1) حاشية في الهامش: أمّ الجلاس هي بنت سعيد بن عبد الرحمن
…
الأمويّ، والجلاس مخفّف.
(2)
ليلى الأخيليّة من عامر بن صعصعة، والإضافة من مروج الذهب 3/ 378. وانظر العقد 1/ 322.
(3)
هذه الفريضة في العقد 5/ 33، مع اختلاف، فأحد الخمسة هو ابن عبّاس عوض أبي بكر.
(4)
في العقد: جعلها من ستّة فأعطى الجدّ ثلاثة، والأم اثنين والأخت سهما.
(5)
حاشية في الهامش: قبّح الله الحجّاج! بل عليّ امرؤ يرغب في قوله!