الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتب إلى المهلّب: أمّا بعد، فإنّ الذي عرفناه من طاعتك ونصيحتك وبلائك في الإسلام قد جعلت لك اللسان وأمددناك باللسان، وجعلناك قائد الحرب، فاجر على ما أنت فيه ولا تكن في أمرك زينونة ولا منتوفة، فإن خفت من أصحاب ضعفا أو قلّة، أمددناك [حتّى] تقوّي به ضعفهم.
والخراج والأموال قبلك فاعمل فيه برأيك، فإنّا قد بسطنا لك الذراع، ولم نقبل عليك. وكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك، فإنّك ليس عليك أمير دون أمير المؤمنين، والسلام.
فلمّا قدم الرسول بكتاب عبد الملك إلى الحجّاج، كتب إلى المهلّب: أمّا بعد، فإنّي كنت أظنّك أشدّ تعظيما لسلطانك [324 أ] ومعرفة لحقّه من أن تجيبه بما أجبتني به في كتابك إليّ. فالله يغفر لك، والسلام.
فكتب إليه المهلّب: أمّا بعد، فما أحد من أهل رعيّتك أشدّ تعظيما لحقّك وطاعتك منّي. ولكنّك شتمتني وعجّلت واتّهمت طاعتي ونصيحتي، وأنا المبتذل نفسي وولدي وقومي في جهاد عدوّ أمير المؤمنين، وكانوا قد فضحوا من الناس وقتلوا من قد عرفت في غير موطن، وليس صاحب الحرب بالمتروّي ولا المتسرّع، والسلام.
وكان الحجّاج قد خرج من عامه إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة.
فلمّا قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة، وتوعّد من رآه منهم بعد ثالثة ولم يلحق بالمهلّب.
فأتاه شريك- ويقال زياد- بن عمرو اليشكري، وكان به فتق، وكان أعور يضع على عينه قطنة، فلقّب «ذا الكرسفة» ، فقال: أصلح الله الأمير، إنّ بي فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرني. وهذا عطائي مردود في بيت المال.
فقال الحجّاج [الرجز]:
إنّ عليها سابقا عشنزرا
…
إذا ونين ونية تغشمرا (1)
ثم قال: اضرب عنقه! لا اسم لكم حتّى تسمّوا لي أنفسكم!
فطار الناس على كلّ صعب وذلول. فلم يبق بالبصرة واحد من عسكر المهلّب إلّا لحق به.
وقال ابن همّام [الطويل](2):
لقد ضرب الحجّاج بالسيف ضربة
…
تقرقر منها بطن كلّ عريف
ثمّ سار الحجّاج حتى بقي بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا ليشدّ ظهره. وأقام بمكانه، وقال: يا أهل المصرين، هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يهلك الله عدوّكم، هؤلاء الخوارج المطلّين عليكم.
[ثورة أهل البصرة به مع ابن الجارود]
وخطبهم ذات يوم فقال: إنّ الزيادة التي زادكم ابن الزبير إنّما هي زيادة ملحد فاسق منافق، وليس نجيزها- وكان مصعب بن الزبير قد زاد الناسفي العطاء مائة.
فقال عبد الله بن الجارود: إنّها ليست زيادة ابن الزبير، إنّما هي زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر.
فقال له الحجّاج: ما أنت والكلام؟ لتحسننّ حمل رأسك وإلّا سلبتك إيّاه.
فقال: ولم؟ إنّي لك ناصح. وإنّ هذا القول في ورائي.
فنزل الحجّاج وأقام أشهرا لا يذكر الزيادة. ثمّ أعاد القول فيها فردّ عليه ابن الجارود مثل ردّه
(1) العشنزر: القويّ الشديد. وتغشمر: تسلّط وتغلّب.
وانظر الكامل في الأدب 1124.
(2)
لا يوجد في ديوان ابن همّام السلولي (مجلّة العرب 1966).
الأوّل. فقام أبو ركية مصقلة العبدي، فقال: إنّه ليس للرعيّة أن تردّ على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعا وطاعة في ما أحببنا وكرهنا.
فقال له ابن الجارود: يا ابن الجرمقانيّة، ما أنت وهذا؟ ومتى كان مثلك يتكلّم وينطق في هذا؟
فأجمع الوجوه على تصويب رأي ابن الجارود وقالوا له: «نحن معك وأعوانك على الحجّاج» .
وبايعوه على إخراج الحجّاج من العراق ومكاتبة عبد الملك أن يولّي عليهم غيره. وإن أبى خلعوه.
فاستعدّ الحجّاج، وأظهر ابن الجارود الخلاف في ربيع الآخر سنة ستّ وسبعين، وأخرج عبد القيس على رايتها، وانضمّ إليه الناس حتى لم يبق مع الحجّاج إلّا خاصّته وأهل بيته. وخرج ابن الجارود بالناس قبل الظهر وقطع الجسر. فبعث إليه الحجّاج أعين بن [
…
] يستدعيه فقال له: ومن الأمير؟ لا ولا كرامة لابن أبي رغال. ولكن يخرج عنّا مذءوما مدحورا، وإلّا قاتلناه.
فقال له أعين: إنّ الأمير يقول لك: أتطيب نفسا بقتل نفسك وقتل أهل بيتك وعشيرتك؟
والذي نفسي بيده، لئن لم تأتني لأدعنّ قومك وأهلك حديثا للغابرين!
فقال: لولا أنّك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة.
وأمر به فوجئ عنقه وأخرج. وزحف ابن الجارود إلى الحجّاج فنهبوا ما في فسطاطه من متاعه ودوابّه، وأخذت امرأته [أمّ أبان] بنت النعمان بن بشير، وأمّ سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو. وانصرفوا وتركوه. فصار إليه قوم من [324 ب] أهل البصرة.
…
ولتضعفنّ منّتكم.
فقال: قد قرب المساء ولكنّا نعاجله بالغداة.
فاستشار الحجّاج من معه. فقال له زياد بن عمرو العتكيّ صاحب شرطة البصرة: أرى أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين، فقد ارفضّ أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك.
فقال عثمان بن قطن الحارثي: لكنّي أرى غير ذلك: إنّ أمير المؤمنين قد شركك في أمره وخلطك بنفسه، وسلّطك. فسرت إلى ابن الزبير، وهو أعظم الناس خطرا فقتلته. فولّاك الله شرف ذلك وسناه. وولّاك أمير المؤمنين الحجاز، ثمّ رفعك فولّاك العراق. جريت إلى المدى وأصميت (1) الغرض الأقصى، تخرج على قعود إلى الشام؟ والله، لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من السلطان أبدا، ولتضعفنّ شأنك. ولكنّي أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما.
فقال الحجّاج: «الرأي ما رأيت» وحفظها لعثمان، وحقدها على زياد. وأتاه عامر بن مسمع فقال: إنّي أخذت لك أمانا من الناس- فجعل الحجّاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: لا أؤمّنهم والله أبدا حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم.
وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول: هلمّ إليّ فامنعني!
فقال: قل له: إن أتيتني، منعتك.
فقال: لا، ولا كرامة.
وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد بذلك فأجابه مثل الأوّل. فبعث إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي في ذلك فردّ عليه كردّهما. ومرّ عبّاد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وهو يتناجى مع أصحابه، فقال: أشركونا في نجواكم!
(1) في المخطوط: وأصلمت، وأصمى الصيد: قتله مكانه.