الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر أبو القاسم يحيى بن عليّ الحضرميّ، المعروف بابن الطحّان في كتاب «ذيل تاريخ ابن يونس» ، قال: قتل أبو الجيش خمارويه وهو في ثلاثين أو إحدى وثلاثين سنة.
قال سعيد بن نفيس: تنزّهنا إلى دير القصير في عقب نزهة الأمير خمارويه إليه (قال): فقرأت في الحائط بخطّ حسن ما رأيت أحسن منه ولا أتمّ حروفا [الخفيف]:
أيّها العاشق المعذّب أبشر
…
فخطايا ذوي الهوى مغفورة
زفرة في الهوى [أ] حطّ لذنب
…
من غزاة وحجّة مبرورة
وتحت ذلك: وكتب خمارويه بن أحمد بخطّه.
ولمّا مرض أبو يعقوب إمام خمارويه وجّه بفتى بصريّ للصلاة بخمارويه، فتقدّم أوّل صلاة صلّاها به لصلاة المغرب. فافتتح الصلاة وقرأ الفاتحة ثمّ قرأ: قل أعوذ بربّ الناس. فقطع خمارويه الصلاة وقال: أبا القاسم بأي شيء تراه يثنّي؟ بأبي جاد (1) أو بألف باء تاء ثاء؟
[الشيخ تاجر السنانير]
ومن طريف أخباره، ممّا يدلّ على كرمه وطيب نجاره، ما حكاه أبو الحسن علي بن أحمد قال:
رأيت بالرملة رجلا جليلا ذا نعمة حسنة، ورأيت له أولادا وحشما، فسألته يوما: من أين أصل هذه النعمة؟
فقال: أحدّثك عن أصل ذلك، وهو من أطرف الأحاديث: وذلك أنّه كان جدّي رجل [ا] فقير [ا] ليس له معاش إلّا في بيع السنانير. وكان يخرج في كلّ وقت إلى مصر، فيجمع من السنانير
ملء قفص ويحمله على رأسه إلى الرملة فيبيعها، ويعيش هو وأولاده من ثمنها. فاشترى منها على جاري عادته وحمله وسار حتّى بلغ إلى الحوف، فلقيه فارس متلثّم يسير وحده. فلمّا رآه قال له: يا شيخ، ما في قفصك؟
قال: سنانير.
قال: وما تصنع بها؟
قال: أبيعها وأعيش من ثمنها.
فقال له: وما لك معاش [446 ب] سواها؟
قال: لا.
قال: فاختر لي منها واحدا فرها صيودا.
فحطّ القفص وأخرج منه سنّورا كبيرا حسن الصورة، فقال: هذا أحسنها وأجودها.
فقال له: ناولني إيّاه.
(قال): فناولته إيّاه. فلمّا أخذه جعله في حجر [هـ] وأقبل يمسحه. ثمّ زجّ به فأطلقه في الصحراء، فلمّا أحسّ بالانفلات مرّ يعدو.
فارتجف الشيخ ومرّ خلفه. فلمّا مرّ الشيخ خلف السنّور ضرب الفارس أبواب القفص بطبرزين (2) في يده فكسرها، وصاح بالسنانير فخرجت وأقبلت تعدو في الصحراء. وعاد الشيخ فرآها على هذه الحالة فصاح: أفقرتني أفقرك الله! قتلتني قتلك الله! طالبك الله! لحاك الله! خذلك الله! لا أحسن الله جزاءك! عجّل الله عليك العقوبة! - وطرح على رأسه التراب، والفارس قد كاد أن يسقط عن فرسه من الضحك، وهو يقول له: يا شيخ، لاتشتغل بالدعاء والحماقة، الحق السنانير! هذاك واحد، اعد خلفه!
فقال الشيخ: يا سفلة، يا خسيس، يا جاهل،
(1) أبو جاد يعني بها: أبجد هوز الخ
…
(2)
الطبرزين: ساطور ذو حدّين.
اعد أنت خلفها! أنا شيخ ضعيف، كيف ألحقها؟
والفارس مع ذلك يضحك ضحكا شديدا، فبينما هما على هذه الحالة إذ أقبل العسكر والغلمان والخدم يطلبون الفارس. فلمّا رأى الشيخ الجيش قال: الحمد لله! أرجو أن يكون هذا الأمير قد وافى فأتظلّم إليه منك.
وتقدّم وصاح: أنا بالله وبالأمير!
فقالوا له: ما لك؟
فقال: أنا رجل فقير أشتري السنانير وأحملها إلى الرملة من مصر وأبيعها وأكسب فيها ما يكون ستري وستر عيالي. فلقيني الساعة بعض خدمكم، سفلة، قليل الدين، ظالم، الله بيني وبينه، فكسر قفصي وأطلق سنانيري.
فقالوا له: وأين هذا؟
فأشار بيده إلى الفارس، فقالوا له: اسكت يا شيخ، هذا هو الأمير أبو الجيش ابن طولون.
فلمّا سمع الشيخ مقالهم صاح: واخراب بيتي! ومرّ يعدو هاربا، فقال الأمير أبو الجيش: ردّوه عليّ!
فردّوه، فلمّا قرب منه، صاح: أيّها الأمير، الله فيّ! والله ما عرفتك. فاعذرني، وأنت في حلّ من السنانير وممّا جرى عليّ منك. فاعف عنّي، عفا الله عنك، ولا واخذك (1)، ولا عرّفك قبيحا!
وبكى، فلمّا سمع الأمير أبو الجيش قوله، قال: عفا الله عنك أيّها الشيخ- وكلّما دعا له الشيخ يقول الأمير: آمين ربّ العالمين، وبكى- وكان رقيق القلب إذا سمع شيئا فيه ذكر الوعظ، ثمّ قال له: لا بأس عليك ولا خوف. وقد عذرناك لأنّك ما عرفتنا وضحكنا منك وطابت نفسنا معك
وأنسنا بك في هذه المفازة، ألك عيال؟
قال: نعم، لي والدة مسنّة وزوجة وثلاثة بنين صغار وأربع بنات كبار، والاختلال قد عمّنا، وسوء الحال قد شملنا، وأنا أحمد الله على كلّ حال.
فقال له أبو الجيش: أحسنت أيّها الشيخ- ثمّ أمر له بألف دينار وقال له: هذا ثمن سنانيرك، أرضيت؟
فقال: والله إنّ عشرها يرضيني ويغنيني.
الصواب أن أقول: ما رضيت.
فقال له أبو الجيش: حقّك أن تقول: ما رضيت. يا غلام، إيش معك؟
قال: عشرة آلاف درهم.
قال: ادفعها إليه.
فقبّل الشيخ الأرض، وقال: والله العظيم، أيّها الأمير، ما قلت «ما رضيت» حقيقة، وإنّما قلت ذلك على جهة التعجّب؛ لأن بعض ما أعطيتني فيه برّي وصيانتي عن هذه الحالة، وقد أزالها الله، وله الحمد، ببركة الأمير أيّده الله، وإحسانه وإنعامه ومعروفه، شكر الله له، فقد سترني وستر حرمي وأولادي. والله لا قصّرنا ولا غفلنا عن الدعاء له في الليل والنهار بطول البقاء، وكفاية الأعداء.
وفي كرم الله جلّ اسمه ما يحبّب ذلك.
فقال أبو الجيش: أحسن الله جزاءك! ما نريد منك غير هذا، فلا تغفله!
ثمّ قال: اجلس، أيّها الشيخ- فجلس، وكتب له توقيعا بخطّه إلى عامل الرملة، نسخته: باسم الله الرحمن الرحيم، يصل توقيعنا هذا إليك، أسعدك الله، من يد شيخ قد حصلت له بنا حرمة وتجدّدت له منّا عناية حتّى صار في جملة خاصّتنا، ومن قرب من قلوبنا ونؤثر صلاحه
(1) أي: ولا آخذك.
ونراعي أموره. فاعرف له هذه المنزلة، وأظهر من برّه وإكرامه وإعزازه في بلده، ولكلّ من في جملته ومن يلوذ به. واقض حوائجه وحوائج من يسأله، وراع أموره، وأجر له من مالنا دائبا يكون له ولفقيه ما بقينا [447 أ] وبقي ومن بعده من ولده خمسمائة دينار في كلّ سنة. وأقطعه ضيعة يقع اختياره عليها يكون فضله منها في كلّ سنة خمسمائة دينار.
واكتب إلينا بشرح ما تأتيه في أمره وما تمتثله من أمرنا فيه، فإنّا نراعيه إلى أن يرد إلينا منك ما نقف عليه إن شاء الله.
وكتب يوم كذا من سنة كذا وكذا. ودفعه إليه وقال: اقرأه!
فقال: والله ما أحسن الخطّ.
فقرأه عليه الأمير بنفسه. فأقبل الشيخ يدعو ويبكي فرحا وسرورا. فأمر له الأمير ببغل حملت عليه البدرة، وغلام راكب معه، وحلّفه أن لا يأخذ منه شيئا، وقال لخادمه: في الصناديق شيء صحيح؟
قال: نعم.
قال: هاته! - فأخرج خمسة شقاق ديبقي، وخمسة شرب وخمسة أثواب ديباج، وخمس عمائم.
فدعا له الشيخ حتّى كاد أن يسقط على وجهه. ثمّ قال له: يا مولانا، أخذي لهذه الثياب يصبح بي استغتام [ا](1)، والأمير أحوج منّي [إليها].
فقال له: إذا كانت لا تصلح لك، فهي تصلح لبناتك. وإذا أردت أن تزوّجهنّ فصر إلينا حتّى نعطيك ما تجهّزهنّ به إن شاء الله.
فقال الشيخ: أنا أسأل الله أن يحييك حتّى أزوّجهنّ ويلدن وآتيك بخبرهم.
فضحك الأمير وقال: تعالى الله! امض مصاحبا
في حفظ الله، واكتب إليّ بخبرك، وما يجري عليه أمرك، [فإنّي م] توقّع كتابك، واحذر أن تؤخّره، إلى أن أوافي الرملة قريبا إن شاء الله.
وأمر بعض غلمانه أن يسير معه إلى الرملة، وأمره أن يحضر معه حتّى يوصل التوقيع وينجز له كلّ ما أمر به.
فلمّا دخل الشيخ الرملة وأوصل التوقيع إلى العامل وعرّفه منزلته من الأمير، وأنّه أنفذه معه لينجز له جميع ما أمر به، قال له العامل: السمع والطاعة.
ووقع اختيار الشيخ على ضيعة، فأمر له بها.
ووصله العامل من ماله بمائتي دينار وثياب كثيرة وحصل له محلّ عظيم. وركب قاضي الرملة إليه مهنّئا له. وكان إذا حضر عند العامل أو عند القاضي أو عند صاحب المعونة، فلا يسأل حاجة إلّا قضيت، ولا يشفع في شيء إلّا شفع فيه.
قال الرجل الذي من أولاده المخبر بهذه الحكاية: وجميع ما تراه، من هذه النعمة: فهي بسبب السنانير التي أطلقها الأمير أبو الجيش رحمه الله.
وكان خمارويه ما يأكل مع أحد، فعوتب في ذلك، فقال: أكثر من يجوز أن نؤاكله قوّادنا، وقلّ من تجد منهم إلّا مفزور (2) الأظافر بالوسخ يرى أنّ من أكبر شجاعته ترك نظافته.
وأجاز يوما لمغنّ غنّاه صوتا، بمائة ألف دينار، وأمر له بها. فاستفظع ذلك وزيره وقال له: يسمع الموفّق بهذا فتنحطّ منزلتك عنده- فصولح على مائة ألف درهم.
وكان قد أثخن في الأعراب وأفناهم قتلا وأسرا
(1) استغتام: فضول واستكثار.
(2)
هكذا في المخطوط، ولم نتبيّنها. والفرر: الشقّ، ولا توافق الوسخ.