الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففعل، فخرج فيروز فأحلّ الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه وتصدّق بماله. ثمّ ردّ إلى الحجّاج فقال: شأنك الآن، فاصنع ما شئت!
فشدّ في القصب الفارسيّ، ثمّ سلّ حتّى شرح، ثمّ نضح بالخلّ والملح، فما تأوّه حتّى مات.
*** ويروى عن ابن هبيرة قال: إنّا لنتغدّى مع الحجّاج يوما إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده، فقال: أصلح الله الأمير، إنّ هذا عاص.
فقال له الرجل: أنشدك الله أيّها الأمير في دمي.
فو الله ما قبضت إيوانا قطّ، ولا شهدت عسكرا.
وإنّي لحائك أخذت من تحت الحفّ (1)، فقال:
«اضربوا عنقه» . فلمّا أحسّ بالسيف سجد، فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل. فأقبل الحجّاج فقال: ما لي أراكم صفرت أيديكم (2) واصفرّت وجوهكم وحدّ نظركم من قتل رجل واحد؟ إنّ العاصي يجمع خلالا تخلّ بمركزه ويعصي أميره ويغرّ المسلمين من نفسه، وهو بعد أجير لكم، وإنّما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخيّر فيه، إن شاء قتل، وإن شاء عفا.
[بين الحجّاج والمهلّب]
ولمّا هزم المهلّب بن أبي صفرة قطريّ بن الفجاءة، كتب إلى الحجّاج: الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه، الذي وصل المزيد بالشكر والنّعمة بالحمد، وقضى ألّا ينقطع المزيد منه حتى ينقطع الشكر من عباده.
أمّا بعد، فكان من أمرنا ما قد بلغك، وكنّا نحن وعدوّنا على حالتين مختلفتين: يسرّنا منهم أكثر
ممّا يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر ممّا يسرّهم، على اشتداد شوكتهم. فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له القناة، ونوّم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وقت إمكانها، وأدنيت السواد من السواد حتّى تعارفت الوجوه. فلم تزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله ربّ العالمين.
فكتب إليه الحجّاج: أمّا بعد، فإنّ الله قد فعل بالمسلمين خيرا، وأراحهم من حدّ الجهاد، وكنت أعلم بما فيك، والحمد لله ربّ العالمين. فإذا ورد عليك كتابي، فأقسم في المجاهدين فيئهم، ونفّل الناس على قدر بلائهم، وفضّل من رأيت تفضيله.
وإن كانت بقيت من القوم بقيّة، فخلّف خيلا تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وولّ الخيل شهما من ولدك، ولا ترخّص لأحد في اللّحاق بمنزله دون أن تقدم بهم عليّ، وعجّل القدوم إن شاء الله.
فولّى المهلّب ابنه يزيد كرمان، وقدم على الحجّاج، فأجلسه إلى جانبه وأكرمه وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلّب.
[335 أ] ثمّ قال: والله كما قال لقيط الإياديّ [البسيط](3):
وقلّدوا أمركم لله درّكم
…
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا يطعم النوم إلّا ريث يبعثه
…
همّ يكاد حشاه يقصم الضلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
…
ولا إذا عصّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
…
يكون متّبعا طورا ومتّبعا
(1) حاشية في الهامش: الحفّ بغير هاء: النسج، والحفّة:
الخشبة التي يلفّ عليها الحائك الثوب.
(2)
حاشية أيضا: صفرت: أي: خلت من الطعام.
(3)
حاشية في الهامش: لقيط بن معمّر. قال هذا الشعر يحرّض قومه ويحذّرهم كسرى. والأبيات في الأغاني 22/ 393، وفي العقد 5/ 268.
حتّى استمرّت على شزر مريرته
…
مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير، والله كأنّي أسمع الساعة قطريّا وهو يقول:«المهلّب كما قال لقيط الإياديّ» ، ثمّ أنشد هذا الشعر.
فسرّ [ثمّ قال: ] فدعوا هذه الأنفس فإنّها أسأل شيء إذا أعطيت وأمنع شيء إذا سئلت. فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما، فخطامها طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله، فإنّي رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
وكان يقول: إنّ امرءا أتت عليه ساعة من عمره، ولم يذكر فيها ربّه، أو يستغفر من ذنبه، أو يفكّر في معاده، لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة.
والحجّاج أوّل من أجرى في البحر السفن المقيّرة المسمرة غير المخرّزة والمرهونة (1). وهو أوّل من اتّخذ المحامل، وفيه يقول الراجز من أبيات:
أوّل عبد عمل المحاملا
…
أخزاه ربّي عاجلا وآجلا
وكتب يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة إلى الحجّاج: «وإنّ العدوّ نزل بعرعرة الخيل، ونزلنا بالحضيض» ، فقال الحجّاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هنالك؟
قال: يحيى بن يعمر (2).
فكتب إلى يزيد أن يشخصه.
فلمّا قدم عليه قال له: أسمعتني ألحن؟
قال: الأمير أفصح من ذلك.
فأعاد عليه القول وأقسم، فقال: نعم، تجعل إنّ مكان أنّ.
فقال له: ارحل عنّي ولا تجاورني!
ويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني (3)، قال: دفع إليّ الحجّاج أزادمرذ بن الهربذ أحد الدهاقين وأمرني أن أستخرج منه مالا وأغلظ عليه. فلمّا انطلقت به قال لي: يا محمّد، إنّ لك شرفا ودينا، وإنّي لا أعطي على القسر شيئا، فاستأذني وارفق يبي. (قال: ) فقلت: تؤدّي إليّ في أسبوع خمسمائة ألف. فبلغ ذلك الحجّاج فأعضبه وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولّى له العذاب، فدقّ رجليه ويديه ولم يعطهم شيئا. (قال محمد بن المنتشر): فإنّي لأمرّ يوما في السوق، وإذا صائح بي:«يا محمّد! » فالتفتّ، فإذا [أنا] به معرّضا على حمار، مدققوق اليدين والرجلين. فخفتالحجّاج إن أتيته، وتذمّمت منه فملت إليه فقال لي: إنّك وليت منّي ما ولي هؤلاء، فأحسنت. وإنّهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئا. وههنا خمسمائة ألف عند فلان، فخذها فهي لك. (قال) فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجرا، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئا.
قال: فأمّا إذ أتيت فاسمع أحدّثك: حدّثني بعض أهل دينك عن نبيّك صلى الله عليه وسلم [أنّه] قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم. وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند
(1) لم نفهم المقصود بالمرهونة.
(2)
ليحيى بن يعمر خبر آخر مع الحجّاج في العقد 2/ 175 و 5/ 20.
(3)
حاشية في الهامش: محمد بن المنتشر بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعيّ الكوفيّ: ابن أخي مسروق (بن الأجدع). سمع عائشة. روى عنه ابنه إبراهيم في الغسل. والخبر في العقد 5/ 29، والوفيات 2/ 43.