الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَشْتَرِطُ إِذْنَ الإِْمَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأَْرْضُ الْمَوَاتُ قَرِيبَةً مِنَ الْعُمْرَانِ أَمْ بَعِيدَةً. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ إِذْنَ الإِْمَامِ فِي الْقَرِيبِ قَوْلاً وَاحِدًا. وَلَهُمْ فِي الْبَعِيدِ طَرِيقَانِ: طَرِيقُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ لإِِذْنِ الإِْمَامِ، وَالطَّرِيقُ الآْخَرُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلإِْذْنِ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَحْتَاجُونَهُ، فَمَا احْتَاجُوهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الإِْذْنِ، وَمَا لَا فَلَا.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ (1) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مُبَاحَةٌ فَلَا يَفْتَقِرُ مِلْكُهَا إِلَى إِذْنِ الإِْمَامِ كَأَخْذِ الْحَشِيشِ، وَالْحَطَبِ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَاّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ (2) ، وَبِأَنَّ هَذِهِ الأَْرَاضِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتْ فَيْئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْفَيْءِ أَحَدٌ دُونَ رَأْيِ الإِْمَامِ، كَالْغَنَائِمِ؛ وَلأَِنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ يَقْطَعُ الْمُشَاحَّةَ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي حُكْمِ اسْتِئْذَانِ الإِْمَامِ فِي تَرْكِهِ مِنَ الْمُحْيِي الْمُسْلِمِ جَهْلاً. أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا تَهَاوُنًا بِالإِْمَامِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الأَْرْضَ مِنْهُ زَجْرًا لَهُ (3) . وَكُل هَذَا فِي الْمُحْيِي
(1) سبق تخريجه في حواشي فقرة 8
(2)
حديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " أخرجه الطبراني من حديث معاذ، وقد أخرجه إسحاق والطبراني في الكبير والأوسط بلفظ مختلف، وأخرجه البيهقي في المعرفة في باب إحياء الموات، وقال: هذا إسناد لا يحتج به (الدراية 2 / 244، 128)
(3)
ابن عابدين 5 / 382 ط الأميرية، والزيلعي 6 / 35، والحطاب 6 / 11، 12 نشر مكتبة النجاح، والإقناع على الخطيب 3 / 195 ط دار المعرفة، والمغني 5 / 566 ط الرياض، والمنتقى شرح الموطأ 6 / 29 نشر مكتبة السعادة، والدسوقي 4 / 69
الْمُسْلِمِ فِي بِلَادِ الإِْسْلَامِ.
15 -
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لإِِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الإِْسْلَامِ فَقَال الْحَنَابِلَةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي الإِْحْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لإِِذْنِ الإِْمَامِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيهِ إِلَاّ فِي الإِْحْيَاءِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الإِْذْنِ. وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ إِذْنَ الإِْمَامِ اتِّفَاقًا (1) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي شَرْحِ الدُّرِّ. وَمَنَعُوا الإِْحْيَاءَ لِلْمُسْتَأْمَنِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال. وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ إِحْيَاءَ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الإِْسْلَامِ مُطْلَقًا.
مَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ:
16 -
أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لأَِحَدٍ أَوْ حَقًّا خَاصًّا لَهُ أَوْ مَا كَانَ دَاخِل الْبَلَدِ لَا يَكُونُ مَوَاتًا أَصْلاً فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ. وَمِثْلُهُ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَلَدِ مِنْ مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا لأَِهْلِهَا أَوْ مَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ الإِْمَامُ إِقْطَاعَهَا. وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا يَضِيقُ عَلَى وَارِدٍ أَوْ يَضُرُّ بِمَاءِ بِئْرٍ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءٌ فِي عَرَفَةَ وَلَا الْمُزْدَلِفَةِ وَلَا مِنًى، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 382، خلافا للإطلاق في الفتاوى الهندية،وانظر الدسوقي 4 / 69 / 3 243 / 3
بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْمَحَال.
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيَنْبَغِي إِلْحَاقُ الْمُحَصَّبِ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَجِيجِ الْمَبِيتُ بِهِ. وَقَال الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: لَيْسَ الْمُحَصَّبُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. فَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْهُ مَلَكَهُ (1) .
17 -
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْمُحَجَّرَةَ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا؛ لأَِنَّ مَنْ حَجَّرَهَا أَوْلَى بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ أَهْمَلَهَا فَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ: فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا مُدَّةً قُصْوَى لِلاِخْتِصَاصِ الْحَاصِل بِالتَّحْجِيرِ هِيَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِإِحْيَائِهَا أَخَذَهَا الإِْمَامُ وَدَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ بِذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَال: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَهْمَل الأَْرْضَ الَّتِي حَجَّرَهَا بِأَنْ لَمْ يَعْمَل فِيهَا، مَعَ قُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَل مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ إِلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، عَمَلاً بِالأَْثَرِ السَّابِقِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا التَّحَجُّرَ إِحْيَاءً إِلَاّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّحْجِيرَ بِلَا عَمَلٍ لَا يُفِيدُ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِمَنْ أَحْيَا تِلْكَ
(1) كشاف القناع 4 / 158، ومطالب أولي النهى 4 / 180، شرح المنهاج للمحلي بهامش القليوبي وعميرة 3 / 90
(2)
والأثر عن عمر رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن الحسن بن عمارة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال عمر: من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمتحجر حق بعد ثلاث سنين، وإسناده واه (الدراية 2 / 245) وانظر ابن عابدين 5 / 282 ط بولاق، والفتاوى الهندية 5 / 386،387
الأَْرْضَ؛ لأَِنَّ الإِْحْيَاءَ أَقْوَى مِنَ التَّحْجِيرِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَهْمَل الْمُتَحَجِّرُ إِحْيَاءَ الأَْرْضِ مُدَّةً غَيْرَ طَوِيلَةٍ عُرْفًا، وَجَاءَ مَنْ يُحْيِيهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْمُتَحَجِّرِ؛ لأَِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لأَِحَدٍ (2) - وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ (3) أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ إِذَا كَانَ فِيهَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (4) . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ - يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا - فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا (5) " وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ مَنْ عَمَّرَهَا قَبْل ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَمْلِكُهَا؛ لأَِنَّ الثَّانِيَ أَحْيَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ مِلْكِ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ حَقَّ
(1) الرهوني 7 / 101 - 114، والدسوقي 4 / 70
(2)
وحديث: " من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد. . . " أخرجه البخاري وأحمد والنسائي (تلخيص الحبير 3 / 61)
(3)
الإقناع بهامش بجيرمي على الخطيب 3 / 199. وقوله " في غير حق مسلم فهي له " رواه البيهقي في حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف (تلخيص الحبير 3 / 62) ، وقال في التقريب (2 / 132) : كثير ضعيف من السابعة منهم من نسبه إلى الكذب.
(4)
حديث: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه. . . " رواه أبو داود في حديث أسحر بن مضرس (3 / 239 ط مصطفى محمد)، قال البغوي: لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث، وصححه الضياء في المختارة (التلخيص 3 / 63)
(5)
أثر عمر " من كانت له أرض. . . " لم نجده بهذا اللفظ، وهو في الخراج لأبي يوسف (ص 61 ط السلفية) بلفظ " ثم تركها ثلاث سنين، فلم يعمرها، فعمرها قوم آخرون، فهم أحق بها. . . " وقال ابن حجر: رجاله ثقات (الدراية ص 245) / 3 244 / 3