الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ (1) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُل فَيَقُول: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ. قَال: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الإِْسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الأَْمْوَال، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْل الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى:{وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . (2)
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:
6 -
مِنْ إِطْلَاقَاتِ الإِْرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ (3) . وَهِيَ فِي الاِصْطِلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْمْوَال، فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لَا يُورَثُ مِنْهَا إِلَاّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَال أَوْ فِي مَعْنَى الْمَال، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلَا تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَيَدْخُل فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْل الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالاً بِعَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا
(1) سورة النساء / 33، وقرأ السبعة ما عدا عاصما وحمزة والكسائي (عاقدت) وقرأ الثلاثة المذكورون (عقدت) الجصاص 2 / 90 - 91 ط البهية.
(2)
سورة الأحزاب / 6 والمصدر السابق.
(3)
القاموس
(4)
نهاية المحتاج 6 / 3، العذب الفائض 1 / 13، الشرح الكبير 4 / 457
قَبْل الْوَفَاةِ كَالأَْعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، لأَِنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَال حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلَاّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لَا يُجَهَّزُ إِلَاّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، أَوْ فِيمَا يَفْضُل بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ (2) .
7 -
لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ. وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُل دَيْنَ الصِّحَّةِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ - أَوْ كَانَ الْكُل دَيْنَ الْمَرَضِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنِ التَّبَرُّعِ
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والشرح الكبير 4 / 457، ونهاية المحتاج 6 / 7
(2)
العذب الفائض 1 / 13 ط مصطفى الحلبي
بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلاً عَنْ مَال مِلْكِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الإِْسْلَامِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لَا. حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لأَِنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِل بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال. سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْل الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلَا سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا،
(1) شرح السراجية ص 5 وما بعدها ط مصطفى الحلبي حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر.
(2)
حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر
لأَِنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَال. فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْل التَّجْهِيزِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ (1) كَمَا سَبَقَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ. وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لِلآْدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلأَْجْنَبِيِّ - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ - مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَال بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُل الْوَرَثَةِ (2) .
8 -
وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْل الْوَصِيَّةِ، وَلأَِنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ.
(1) نهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها
(2)
العذب الفائض شرح عمدة الفارص ص 1 / 13