الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقَدمَة المؤلفْ
(1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول القائد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها، في أول لقاء به، وأول يوم رأيته وتعرفت إليه:"هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحسان"؟.
وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي، فظهرت على وجهه بوادر خيبة الأمل، وندب حظه العاثر لالتحاقي بسريته، ثم عبس وتولىّ وهو يقول:"لماذا أصبحتَ ضابطاً؟! ولماذا اخترت سلاح الفرسان؟! ولماذا تعيش؟! الأفضل لك أن تموت".
كان ذلك أول درس عملي تلقيته من قائد سريتي، في أول يوم من حياتي العسكرية العملية في الوحدات العاملة، ثم توالت عليّ الدروس المماثلة كاللحن المكرر يعاد على مسامعي صباح مساء.
ولم أباغت بما سمعته من قائد السرية، فقد تكاثرت عليّ نصائح
المجربين منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية: أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف، وأكيِّف نفسي لتلائم مناخ العسكريين.
وبعد تخرجي ضابطاً في الكلية العسكرية سنة 1938، التحقت
بمدرسة الخيالة في بغداد، فانهالت عليّ الدعوات الشخصية الرسمية التي
يسيل الخمر فيها أنهاراً، وانهالت معها عَلَيَّ النصائح والانتقادات؛
وكان اعتذاري عن حضور تلك الحفلات يقابَل بالنقد اللاذع والسخط
المرير.
ولكنني كنت أتلقى النصح تارة والنقد تارة أخرى، من لِداتي الذين لم يتجاوزوا العشرين وهم شباب في عمر الورد، لا ينقصهم المال والفراغ؛ ولم كن أتوقع أبداً أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من عمره، وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عاماً!!.
وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السرية، لأنني وجدت تصرَّف قائد الكتيبة نحوي، وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره، وكان ضابطاً مخضرماً قضى شطراً من خدمته العسكرية في الجيش العثماني وشهد الحرب العالمية الأولى، لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي، كلاهما يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة، تطلق عليها اسم:"وليمة التعارف والاستقبال"، تقدم فيها الخمر مع ما لذَّ وطاب من الأطعمة الشهية، وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة والتكريم!.
واستدعاني قائد السرية قبيل انتهاء الدوام الرسمي، وبلّغني بأن الكتيبة ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء؛ فلم أستطع التخلف عن حضورها، لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جدد، هم زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة.
وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف، غمز عينيه وهو يبتسم ابتسامة الواثق بنفسه ويقول:"لعلك تراجع فكرك اليوم، ولعلني أهديك إلى سر الحياة".
وشهدتُ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود، وقَدِمَ قائد الكتيبة يتبختر، فاستقبله الضباط وقوفاً، ثم قَدّم إليه قادة السرايا ضباطهم الجدد، وقدَّمني قائد سريتي قائلاً:"الملازم ضابط خام، يدعي أنه لم يذق طعم الخمر في حياته".
وقال قائد الكتيبة: "كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر
الخمر؟! هذا غير معقول".
وتحرَّج موقفي، وتجمّع الضباط من حولي يرجونني ويطالبونني، ثم يلحون ويلحون، وجاء قائد الكتيبة وقد ملأ كاساً بالخمر، وأمر أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي العسكرية بشرب المدام، وأن أتخلى عن تزمُّتي لأصبح ضابطاً حقاً
…
ثم أقسم بشرفه العسكري أن أفعل، وأقسم قائد سريتي ألا أرد يد القائد الهمام!.
وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ على صفحاتها النجوم، وكانت مياه (دجلة) تعكس النجوم فتزيدها بهاءً ورونقاً.